الدرس السابع: إدبار القلب وفقد الروحية
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
” إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فتنفّلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة”
(الكافي الكليني, ج2, ص454)
تمهيد:
يقول عزّ من قائل: “الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ”1 .
لقد فطر الله الإنسان على حبّ الراحة والأمن والاستقرار، ولا راحة ولا قرار والروح تائهة ومهمَلة. ومن منّا لا يسعى إلى الاطمئنان والراحة النفسية؟ فمن لا يمتلك نفساً مطمئنّة، وقلباً سليماً، وروحاً مفعمة بالحياة، لن يرجع إلى المقرّ الأبديّ مطمئنّ النفس وسليم القلب ولن ينال روحاً وريحاناً وجنّة نعيم.
كثيراً ما يشكو المؤمنون من فقد ما يسمّونه روحيّة كانت تُلازمهم في عباداتهم وغيرها من زيارة إمام معصوم أو مجلس عزاء أو غير ذلك، بل يشعرون بفتور وقلّة نشاط تجاه أدائها أو تباطؤ أو تأخير أو تثاقل أو كسل. قد يكون هذا آنياً أو في فترة محدودة بسبب مشكلة أو همّ أو غمّ دنيويّ، ولكن قد يطول كثيراً، بل حالة إقبال القلب ونشاطه قد لا تعود أبداً والعياذ بالله.
قد يمضي على عمر تكليف بعضنا الأربعون عاماً، من صلاة وصوم ودعاء وزكاة
1- سورة الرعد، الآية: 28.
وزيارة وحضور مساجد ومجالس و… ولكن لا ينعكس من ذلك على قلوبنا شيء إلّا شعور بالتيه والتعب، بل أحياناً اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والعمر يمضي ولا يمكن تصحيح ما فات، فما منشأ وأسباب هذا الشعور؟ وكيف السبيل للمعالجة؟
إدبار القلوب
أسئلة تقضّ مضاجعنا وتؤرّقنا كلّنا، وتعصر قلوبنا ألماً وحسرةً وندامة، مع شعور بالعجز والضعف. وليُعلم أنّ اليقظة من نوم الغفلة أو من الإنكار رأساً، هي المنطلق لقلع جذور هذه المفسدة، فما دام الإنسان لا يشعر بالمشكلة أو ينكرها أصلاً، فلا مجال لإصلاح النفس وتصفيتها “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”2. يقول الفيلسوف الإسلاميّ الكبير صدر المتألّهين رحمه الله: “إنّ رأس كلّ شقاوة ومبدأ كلّ ضلالة هو الجهل مع العناد، كما أنّ رأس كلّ سعادة ومبدأ كل هداية هو العقل مع الانقياد”3.
وسنحاول في هذا الدرس أن نذكر ما يُمكن أن يكون أهمّ الأسباب لهذه الرذيلة النفسيّة والحالة القلبيّة المهلكة.
1- حبّ الدنيا
إنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، ومبدأ كلّ تعاسة وشقاوة، وهو أغلظ حجاب بين العبد وربّه، فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: “جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا، ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يُبالي مَن أَكَلَ الدنيا، ثمّ قال: حرامٌ على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا”4 .
2- سورة الكهف، الآيتان: 103-104.
3- شرح أصول الكافي، صدر المتألّهين الشيرازي، ج1، ص 412.
4- الكافي، الكليني، ج2، ص128.
فإذا كان القلب محجوباً والنفس معيوبة، العقل مغلوباً والهوى غالباً، تكون الطاعة قليلة، والمعصية كثيرة، ولا تشمله رحمة ستّار العيوب وكشّاف الكروب.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “الانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حبّ الدنيا من دون اختيار، وحبّ الدنيا يوجب النفور عن غيرها، والإقبال على المادّيات يسبّب الغفلة عن عالم الغيب”5 .
وعليه يكون العلاج من حبّ الدنيا بالزهد فيها وبغضها، وعدم السعي وراء ذلك.
فعن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام قال: “قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا”6 .
وفي رواية أّنه سُئل الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام: “أيّ الأعمال أفضل عند الله عزّ وجلّ؟ فقال: ما من عمل بعد معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا”7 .
2- إشباع الرغبات
من كان جُلّ همّه رغباته وتلبيتها، وكان واقعاً في أسر شهواته، متعلّقاً بالدنيا الفانية وملذّاتها، سوف يُدبر قلبه تدريجيّاً عن العبادة, لأنّه يراها تمنع من تحقيق بعض رغباته، فلا يشتاق إليها بل يشعر بثقلها عليه ما يؤدّي به إلى تأخيرها عن وقتها ومن ثمّ – والعياذ بالله – تركها كلّياً. مثالٌ على ذلك الّذين أدمنوا الانترنت أو مشاهدة الأفلام التلفزيونية، أو ارتياد بعض المقاهي والنوادي الّتي فيها ألعاب وملاهٍ، فإنّهم لا يكادون يؤدّون الواجبات في وقتها فضلاً عن المستحبّات، وإذا بوقتهم الثمين قد ذهب فيما لا ينفع غالباً، وفي الحديث: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك!.
5- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في بيان فلسفة شدّة ابتلاء الأنبياء عليهم السلام، والأوصياء والمؤمنين.
6- الكافي، الكليني، ج2، ص128.
7- م. ن، ج2، ص130.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّما أخاف عليكم اثنتين اتّباع الهوى وطول الأمل، أما اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة”8 .
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم”9 .
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “اعلم أيّها العزيز، أنّ رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حدّ أو غاية، فإذا اتّبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطّر إلى أن يتبع تلك الخطوة بخطوات، وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، أُجبر على الرضى بالكثير منها. ولئن فتحت باباً واحداً لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبواباً عديدة له. إنّك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثمّ سوف تُبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق – لا سمح الله – جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك”10 .
إذاً، فعلينا أن لا نلهث وراء اشباع الرغبات والميول، بل البحث عمّا أراده الله لنا، ويجب أن نؤثر رضى الله تعالى على أهوائنا، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزّ وجلّّ: وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلّا شتّتُ عليه أمره، ولبّستُ عليه دنياه، وشغلتُ قلبه بها، ولم آته منها إلّا ما قدّرتُ له.
وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يُؤثر عبدٌ هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرَضين رزقه، وكنتُ له من وراء تجارة كلّ تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة”11 .
8- الكافي، الكليني، ج2، ص335.
9- م. ن.
10- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في ذمّ اتّباع الهوى، الحديث العاشر.
11- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص279.
3- ارتكاب المحرّمات والمعاصي
أهمّ سبب لقسوة القلب وإدباره، هو ارتكاب المحرّمات والمعاصي، خصوصاً ما استخفّ صاحبه به، كالنظرة الحرام، والاستماع إلى الغناء ومصافحة الأجنبيّة، والكذب والسباب، والغيبة والنميمة، فهل يتوقّع المرء أن يكون صاحب قلب نيّر أزهر، والحال أنّه لم يَسلَم من لسانه وسوء ظنّه أحد؟
عن الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من الشقاء جمود العين، وقسوة القلب، وشدّة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب”12 .
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: “ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب”13 .
وعن المسيح عيسى ابن مريم عليهم السلام: “قسوة القلب من جفوة العيون، وجفوة العيون من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة” 14.
4- حزن الدنيا وغمّها
قد يشعر بعض الناس بحالات من الفتور أو التثاقل وعدم وجود ميل قلبيّ نحو النوافل والمستحبّات، بسب الحزن والغمّ والهمّ والمرض، وهذا لا بأس به لو كان مؤقّتاً، فمن منّا لا يُبتلى بالمرض أو بالهموم النفسيّة، ولكن لو دامت هذه الحالة بحيث أصبح حزنه سرمداً، وعمّت الكآبة قلبه فإنّ روح الإيمان يزول من قلبه تلقائيّاً، وقد لا يرجع أبداً. لذلك نجد بعض الناس يعيشون في قلقٍ دائم، وينتهي بهم المطاف إلى تناول الأدوية المهدّئة للأعصاب ومضادّات الكآبة، غافلين عن العلاج الحقيقيّ
12- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص46.
13- م. ن، ص45.
14- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 96.
وهو الذكر لله تعالى, بتسبيحه وتمجيده وذكر أفضاله ونعمه التي لا تكاد تُعدّ أو تُحصى بحيث لا يقف قبالها ولا يحطُّ من شأنها أيُّ بلاء كان. يقول تعالى: “الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ”15.
فعن مرازم قال: “سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله عليه السلام فقال: أصلحك الله إنّ عليّ نوافل كثيرة فكيف أصنع؟ فقال: اقضها، فقال له: إنّها أكثر من ذلك، قال: اقضها، قلت: لا أحصيها، قال: توخّ، قال مرازم: وكنت مرضت أربعة أشهر لم أتنفّل فيها، قلت: أصلحك الله وجعلت فداك مرضت أربعة أشهر لم أصلّ نافلة، فقال: ليس عليك قضاء. إنّ المريض ليس كالصحيح، كلّما غلب الله عليه، فالله أولى بالعذر فيه”16 .
5- الكسل والتعب والملل
وهذه من أهمّ أسباب فقدان الروحيّة، وذلك نتيجة إنهاك النفس بالعبادة التي تتجاوز طاقتها، لذلك حذّر أهل البيت عليهم السلام من أن يصل المؤمن إلى هذه الحالة خاصّة إن كان في بداية التزامه، فقد ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: “قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، ولَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ الله إِلَى عِبَادِ اللهِ، فَتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ الْمُنْبَتِّ الَّذِي لَا سَفَراً قَطَعَ ولَا ظَهْراً أَبْقَى”17 .
يعني بأناة وتروٍّ وتدبّر فليس مهمّاً ولا مفيداً أن أصلّي ألف ركعة في اليوم والليلة إن كانت بلا تدبّر ولا تفكّر، فكيف إن أدّت إلى التململ من الدين والعبادة، لا بل تتنافى تمام المنافاة مع حضور القلب، (ففي هذه الحالة يُستحسن عدم الإكثار من العمل العباديّ، بل التوجّه نحو روح العبادة والتفكّر بحقيقتها)، فعن أبي ذرّ (رض) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ”18 .
15- سورة الرعد، الآية: 28.
16- الكافي، الكليني، ج3، ص451.
17- م. ن، ج2، ص86.
18- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص74.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: “قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ”19 .
كما إنّ للقلوب إدباراً وإقبالاً ينبغي الالتفات إليه
قال الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ القلب يحيا ويموت، فإذا حيي فأدّبه بالتطوّع، وإذا مات فاقصره على الفرائض”20 .
وقال الإمام الرضا عليه السلام: “إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصِرت وفهمت، وإذا أدبرت كلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها”21 .
6- الرياء والعجب والغرور
كيف يجتمع الرياء والعجب والغرور بالعمل مع روحيّة القلب؟ فإنّ من عمل لغير الله وأُعجب واغترّ بعمله معتبراً نفسه خارجاً عن حدّ التقصير، لم يبقَ في قلبه ذرّة إيمان، فضلاً عن الاطمئنان واليقين، بل غرق في بحر التعاسة والحيرة، وعذاب الفراق والبعد عن الله تعالى، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ أبعد الناس من الله القاسي القلب”22 .
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “تدبّر حال إبليس ولاحظ كيف أنّ ظهور أنانيّته وحبّه لنفسه وإعجابه بها فيه، قد حجب علمه عن أن يتجسّد عمليّاً، وعن أن يهديه إلى طريق السعادة”23 .
فإنّ من يُصلّي صلاة الليل ويتباهى بها أمام الناس أو في نفسه قد وقع في شراك إبليس وفي الشرك الخفيّ، والشرك لا يُبقي أيّ ذرّة إيمان في القلب،”ثُمَّ قَسَتْ
19- نهج البلاغة، حكمة: 278.
20- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75 ص278.
21- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3 ص55.
22- م. ن، ج 12، ص 93.
23- جنود العقل والجهل، الإمام الخميني، ص107.
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً”24 ، ويرى نفسه خارجاً عن حدّ التقصير تجاهه تعالى، ويعتقد أنّه يستحقّ على الله الثواب والمديح، وقد تصل معه الأمور إلى أن يمنّ على الله إيمانه وعباداته، ” يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ “25 ، وهؤلاء أعمالهم يوم القيامة: “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ”26 .
وكيف كان فإنّ الاتّصاف بالحقائق والوصول إلى المقامات لا يتحقّقان بهذه الادّعاءات الإيمانيّة، فانظر أيّها الإنسان إلى نقصك وفقرك، وتواضع لمن بيده ناصيتك، ولا تعتبر نفسك قد خرجت ببعض العبادات عن العبوديّة والعجز، واسأل الله تعالى أن يُريك عيوبك، وينسيك حسناتك.
7- عدم الاعتقاد الحقيقيّ بالغيب
ومن أسباب حالة فتور القلب في الأمور الدينيّة هو عدم الإيمان الحقيقيّ بالغيب، وأنّ المرتكزات العقائديّة متزلزلة في قلوبنا، وإيماننا بالوعود الإلهيّة والأنبياء مهتزّ ومتزلزل، ما يُفضي شيئاً فشيئاً إلى الغفلة، فإمّا أن تهيمن هذه الغفلة علينا، وتخرجنا كلّيّاً من هذا التديّن الشكليّ الصوريّ الذي نعتنقه، أو تبعث على الغفلة لدى أهوال نزع الروح وشدائد اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان، يقول تعالى:” فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”27 .
وعن أبي جعفر عليه السلام: “إيّاك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب”28 .
24- سورة البقرة، الآية: 74.
25- سورة الحجرات، الآية: 17.
26- سورة النور، الآية: 39.
27- سورة الزُّمر، الآية: 21.
28- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 93.
8- الاعتياد على العبادة
إنّ الإنسان إذا أقبل على العبادة من باب العادة بلا استحضار القلب ونيّة التقرّب، فقد تدريجياً الثمار المترتّبة عليها وعلى حضور الأماكن المتوقّع حصول حالات إيمانيّة في القلب، كالمساجد والمشاهد المشرّفة. ولعلّ النهي عن مجاورة البيت الحرام والمشاهد الشريفة – كحرم الإمام الحسين عليه السلام – في بعض الروايات الشريفة فيه إشارة إلى ذلك.
منها ما عن أبي عبد الله عليه السلام: “إذا فرغت من نُسكك فارجع, فإنّه أشوق لك إلى الرجوع”29 .
وعنه عليه السلام: “إذا قضى أحدكم نُسكه فليركب راحلته وليلحق بأهله، فإنّ المقام بمكّة يقسّي القلب”30 .
9- توقّع المقامات والكمالات
فإنّ من يتوقّع نيل المقامات والمراتب المعنويّة، وحصول المكاشفات والكرامات، من جرّاء أداء بعض الأعمال، التي قرأها أو سمع بها، ثمّ لا يشمّ رائحة شيء من كلّ ذلك، أوشك على الإدبار والنفور واليأس، بل الإنكار والتكذيب بالمقامات الإيمانيّة والمراتب المعنويّة.
فينبغي أن يكون الدافع نحو العبادة هو التقرّب إلى الله وطلب رضاه، وليس الثواب والمقامات والكرامات والمكاشفات، فإنّ طلبها يقطع الطريق ويحجب النفس، بل يشوبه شرك خفيّ، لأنَّ الهدف هذه الكرامات والّتي هي حالة دنيويّة وليس الهدف طاعة الله ورضاه.
29- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص234.
30- م. ن.
11- المراء
إنّ المراء والجدال والمناقشات العقيمة ولو في المواضيع الدينيّة لأجل إظهار الغلبة تسلب الإيمان من القلب، فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: “قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: إِيَّاكُمْ والْمِرَاءَ والْخُصُومَةَ فَإِنَّهُمَا يُمْرِضَانِ الْقُلُوبَ عَلَى الْإِخْوَانِ ويَنْبُتُ عَلَيْهِمَا النِّفَاقُ” 31.
خاتمة:
من وصيّة لأمير المؤمنين عليه السلام للحسن بن عليّ عليه السلام: “أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وقَوِّهِ بِالْيَقِينِ ونَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا وحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي والْأَيَّامِ واعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ”32 .
يقول الإمام الخميني قدس سره: “أيّها العزيز, انهض من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك – بعد – الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، أعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب….
وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة الّتي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة.
31- الكافي، الكليني، ج2، ص300.
32- نهج البلاغة، خطبة: 31.
وعلى أيّ حال, اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ هذا الخُلق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ محلهم الجنود الرحمانيّة”33 .
مطالعة
لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ
عَنْ سَلَّامِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَدَخَلَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ، وسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَمَّا هَمَّ حُمْرَانُ بِالْقِيَامِ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: أُخْبِرُكَ – أَطَالَ الله بَقَاءَكَ لَنَا وأَمْتَعَنَا بِكَ – أَنَّا نَأْتِيكَ فَمَا نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ حَتَّى تَرِقَّ قُلُوبُنَا، وتَسْلُوَ أَنْفُسُنَا عَنِ الدُّنْيَا، ويَهُونَ عَلَيْنَا مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ فَإِذَا صِرْنَا مَعَ النَّاسِ والتُّجَّارِ، أَحْبَبْنَا الدُّنْيَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: إِنَّمَا هِيَ الْقُلُوبُ مَرَّةً تَصْعُبُ وَمَرَّةً تَسْهُلُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَمَا إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله نَخَافُ عَلَيْنَا النِّفَاقَ، قَالَ عليه السلام: فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: ولِمَ تَخَافُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ فَذَكَّرْتَنَا ورَغَّبْتَنَا، وَجِلْنَا ونَسِينَا الدُّنْيَا وزَهِدْنَا، حَتَّى كَأَنَّا نُعَايِنُ الْآخِرَةَ والْجَنَّةَ والنَّارَ ونَحْنُ عِنْدَكَ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ودَخَلْنَا هَذِهِ الْبُيُوتَ، وشَممْنَا الْأَوْلَادَ ورَأَيْنَا الْعِيَالَ والْأَهْلَ، يَكَادُ أَنْ نُحَوَّلَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا عِنْدَكَ، وَحَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى شَيْءٍ، أَفَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِفَاقاً؟، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: كَلَّا إِنَّ هَذِهِ خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ فَيُرَغِّبُكُمْ فِي الدُّنْيَا، واللَّهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمَشَيْتُمْ عَلَى الْمَاءِ… 34.
33- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في معالجة المفاسد الأخلاقيّة.
34- الكافي، الكليني، ج2، ص 423.