الرئيسية / شخصيات أسلامية / عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 

مزايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام في شخصيّته مظهراً لمزايا لو جسّدناها نحن في أقوالنا وأفعالنا لبلغ مجتمعنا الإسلاميّ ذروة مجده وسؤدده فمن السهولة لأيّ شعب طيّ طريقه نحو المجد والرقيّ وإصلاح دنياه وآخرته. ولا وجود للطريق المسدود أمام مَن آمن بالله وبرسالة الإنسان وبوسع أي شعب إزالة ما يعترض طريقه نحو السموّ والتكامل من معضلات وعثرات، وذلك مشروط بأن تتوفّر فيه تلك المزايا الضروريّة لذلك التحرّك العظيم الشامل؛ تلك المزايا الّتي كان أمير المؤمنين عليه السلام مظهراً لها؛ إذ كان عليه السلام مظهراً للتقوى والأمانة بالإضافة لصدقه وصراحته، فبالرغم من أنّه عليه السلام كان سياسيّاً وزعيماً للأمّة الإسلاميّة ويتولّى إدارة شؤون عشرات الملايين من المسلمين في ذلك الزمان الّذي كان يخلو من وسائل الاتصال الحديثة، ولكن سياسته لم تؤدّ به إلى مجانبة سبيل الصراحة والصدق، بل كان عليه السلام صادقاً صريحاً يقول ما يؤمن به, ويدلّ عليه عمليّاً؛ وهذا ما جعل كلماته تبقى على مدى التاريخ نبراساً يستنير به أعلام الفكر في العالم.

لم يستبطن أمير المؤمنين عليه السلام أيّاً من أفعال السياسيّين سواء في عصرنا هذا أم على مرّ التاريخ أو ما يتلفّظون به من أقوال تردّدها

ألسنتهم دون أن تعتقد بها قلوبهم، وما يتظاهرون به نفاقاً وهو معاكس لِما تضمره بواطنهم.

انظروا إلى ما يطلقه أرباب السياسة من كلمات برّاقة جذّابة حيث ينادون باسم الإنسان وحقوقه، وحاكميّة الشعب، والسلام، والقداسة، غير أنّ أيّاً من هذه الحقائق لا وجود لها في داخلهم أو على الصعيد العمليّ. ومثل هذا الواقع كان موجوداً قبل عهد أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك في يومنا هذا، بَيْدَ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تلك القمّة الإنسانيّة السامقـة عمـل بمـا يعـاكس غـالبيـّة أربـاب السيـاسة فـي هذا المضمار.

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ينادي باسم الأمّة؛ لأنّه كان نصيراً واقعيّاً للأمّة وضعفائها، ومن سجاياه الأخرى العطف على الضعفاء والتصلّب والصرامة إزاء الأقوياء وبغاة الباطل، وقلّة الاستفادة من الثروات العامّة، فمن كان يرى في بيت مال المسلمين ملكاً عضوضاً سواء صرّح بذلك أم لا، أم كان عمله يوحي بذلك بحيث يأكل ما يشاء ويهب ما يشاء ويوظّفه لأغراضه الشخصيّة لا قدرة له على الادّعاء بتبعيّته لعليّ عليه السلام. وواجبنا الالتزام بالنهج العلويّ في كلّ هذه الحقول، وذلك يتمثّل في العمل الكثير مع قلّة الاستفادة.

فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام موجوداً في وسط الساحة ومثابراً على العمل، سواء في الفترة الّتي تولّى فيها أمر الحكومة, أم عندما كان يعيش العزلة الّتي فرضوها عليه، ولم يمرّ وقت على عليّ عليه السلام أصبح فيه

جليس الدار زاوياً عن الأمّة والمجتمع، فليس ذلك من سجاياه أبداً.

وميزته الأخرى عليه السلام كانت الارتباط بالله سبحانه، وأنّ ألسنة القاصرين أمثالي عاجزة حتّى عن النطق ببيان ما هو إجمالي عن عبادة ذلك الرجل العظيم، فعندما يذهل الإمام السجّاد عليه السلام وهو زين العابدين أمام عبادة أمير المؤمنين عليه السلام لا خيار أمامنا سوى التزام الصمت.

ومن مزاياه أيضاً تعبئة الطاقات في سبيل الحقّ ومواجهة الباطل، فلا يجوز لأحد القول: لماذا تعبّئون الأمّة وتؤجّجون مشاعرها ضدّ الاستكبار, وما يرتكبه من مظالم, وضدّ مرتزقة أعداء الله؟ فإنّ تلك ميزة اتّصف بها أمير المؤمنين عليه السلام ، فعلينا نحن أيضاً أن نصنع كما صنع أمير المؤمنين عليه السلام فنعبّئ كلّ الطاقات، كلّ القلوب، كلّ الأبدان والإمكانيّات في سبيل الحقّ ومواجهة الباطل.

وامتاز عليه السلام أيضاً بمقارعة ذوي الظواهر المقدّسة المتحجّرين الخاوين، فلقد تصدّى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك العابد الزاهد الذاكر الّذي احتفظت ذاكرة نخيلات الكوفة بصراخات أدعيته ومناجاته إلى الأبد لأولئك الذين أرادوا التسلّل بكيانهم الشخصيّ إلى نفوس الناس عن طريق التقدّس والعبادة المتحجّرة الخاوية؛ هؤلاء الّذين حتّى لو توفّروا على الإخلاص فإنّهم قد عطّلوا سائر الأبعاد في شخصيّاتهم وشخصيّات الآخرين، فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ينطق بلبّ الحقيقة، سواء تطابقت مع أذواق مختلف التيّارات أم لا، وسواء اتفقت مع مذاق أولئك

الّذين يتشبّثون بالظواهر تاركين الباطل أم لا، وانسجمت مع ميول الذين يريدون تفسير الدين وفقاً لآرائهم الشخصيّة أم لا.

هؤلاء جميعاً كانوا في زمن أمير المؤمنين عليه السلام. والتاريخ يذكر نماذج لهم، أمّا إسلام أمير المؤمنين عليه السلام فهو إسلام زاخر بالذكر والحيويّة والنشاط والتحرّك والبناء والجهاد والتضحية والإيثار، وحيث إنّنا نشاهد مثل هذه النماذج في وقتنا الراهن فذلك ممّا يعني أنّ هنالك مسؤوليّة تقع على عواتقنا1.

الإمام عليّ عليه السلام سيّد المتّقين

ورد في الرواية الّتي نقلها المرحوم المجلسيّ عن مصباح المتهجّد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب في إحدى الجمع, وافتتح خطبته بحمد الله والثناء عليه بأبلغ وأعمق وأجمل الكلمات، ثم صلّى وسلّم على محمّد رسول الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وشهد له بالنبوّة والعبودية لله، ثم أعقب ذلك بخطبة بليغة, نورد فيما يلي مقاطع منها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “أوصيكم عباد الله بتقوى الله، واغتنام طاعته ما استطعتم في هذه الأيام الفانية، وإعداد العمل الصالح لجليل ما يشفي به عليكم الموت”2.

أي عليكم الاستعداد بالعمل الصالح للمصائب والأهوال الكبرى

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 25/ ذي الحجة/ 1421ﻫ..ق.

2- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج ‏86، ص 237.

والمجهولة الّتي ستحلّ بكم في عالم ما بعد الموت.

فالموت حادثة عظمى, كان العظماء والأولياء يرتعشون خوفاً منها؛ لأنّ الحوادث الّتي تواجه الإنسان بعد الموت لها عظمة وخشية لا تطاق.

وهناك طريق واحد لمقابلة هذه المصاعب والشدائد الكبرى الّتي كان عباد الله وأولياؤه الصالحون يخشونها؛ بسبب ما لديهم من خبرٍ عنها على وجه العموم، وذلك هو العمل الصالح لوجه الله؛ لأنّ الشيء الوحيد الّذي يغيث الإنسان هناك هو العمل الصالح.

“وآمركم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم”، فهو عليه السلام أمير معنويّ وأمير ماديّ، وأمير ظاهريّ وأمير باطنيّ، وأمير الأجسام وأمير الأرواح؛ ويأمر الناس بترك زخارف الدنيا، وعدم الاستغراق في شؤونها المادّية؛ لأنّها “الزائلة عنكم، وإن لم تكونوا تحبّون تركها، والمبلية لأجسادكم وإن أحببتم تجديدها”.

فهذه الدنيا تبلي أجسادكم وتضعفكم وتعدم قواكم, حتّى وإن كنتم ترغبون في بقاء هذه القوى على الدوام.

“فإنّما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه وأفضوا إلى علم فكأنّما بلغوه، فلا تنافسوا في عزّ الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع، وإنّ زينتها ونعيمها إلى ارتجاع، وإنّ ضراءها وبؤسها إلى نفاذ، وكل مدّة منها إلى منتهى، وكل حيّ فيها إلى بلى”.

كان أمير المؤمنين عليه السلام يحيي الأرض بنفسه ويزرعها، ويحفر البئر.

وقد تحدّث بهذا الكلام في وقت كان فيه حاكماً على دولة تمتدّ حدودها من بلاد ما وراء النهر إلى البحر الأبيض المتوسّط.

فهو كان يدير دفّة شؤون الدولة, ويهتمّ بشؤون الحرب والسلم والسياسة وبيت المال وغيرها من نشاطات البناء الأخرى.

وكلامه هذا لا يدعو فيه إلى عدم إعمار الدنيا، وإنّما يعني به أن لا يجعل الإنسان ذاته محوراً لجميع الأعمال والنشاطات الماديّة، ولا تنفقوا كلّ الطاقات لأجل أنفسكم ولا تُحوّلوا الدنيا إلى جحيم من أجل نصيبكم من الحياة, ولا تكدّروا عيش الآخرين لأجل المال والمنال والرفاه والراحة.

عليكم بالتقوى, أي عليكم بالحذر؛ لئلّا يكون في أيّ عمل أو قول أو قرار يصدر عنكم ضرر يلحق بالإنسانيّة وبالمجتمع، ولا تكون فيه إساءة إلى أُخراكم أو انتقاص من دينكم.

هذا هو معنى التقوى, وفي كلّ جمعة يكرّر إمام الجمعة مخاطبة الناس ومخاطبة نفسه بالقول: “أوصيكم ونفسي بتقوى الله”.

كلّنا بحاجة لسماع مثل هذه الوصايا؛ وهذه من جملة الأمور الّتي تعطي لصلاة الجمعة أهميّتها3.

3- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 9/ رجب/ 1419 ﻫ ـ ق.

 

معالم الحكومة العلويّة

ثمّة طائفة من خصال أمير المؤمنين عليه السلام وهي خصاله المعنويّة والملكوتيّة الّتي نقصر حتّى عن فهمها؛ فمقامه العلميّ والمنزلة النورانيّة والقداسة الّتي كانت لديه؛ والحقائق الّتي كان يعمر بها كيانه وقلبه النورانيّ وتتدفّق على لسانه المبارك حِكَماً، والقرب من الله وذكر الله الّذي كان يكلّل فعله وقوله وكافة أحواله، وأمورٌ من قبيل فطرته النورانيّة، لَهي ممّا يتعذّر فهمه بالنسبة لنا، وإنّنا نؤمن بها ونفتخر بها؛ لأنّنا سمعناها عن الصادق المصدَّق.

ولكن ثمّة طائفة أخرى من خصوصيات أمير المؤمنين عليه السلام تصوغ منه أسوة وأنموذجاً بالنسبة للبشريّة قاطبة تحتذي به على مرّ التاريخ, وإنّ الأسوة وسيلة ومعيار وميزان يقاس بها العمل الّذي يروم الإنسان القيام به.

إنّ هذه الأسوة لا تختصّ بقومٍ معيّنين، وهي لا تقتصر على المسلمين أيضاً، وإنّكم إذ تشاهدون مدى جاذبيّة أمير المؤمنين عليه السلام على مرّ التاريخ؛ إنّما بسبب هذه الخصال؛ لذا فحتّى من لم يرتضِ الإسلام أو لم يصدِّق بإمامته عليه السلام يشعر في داخله بالتعظيم لهذه الخصال, وينطلق لسانه مثنياً عليها شاء أم أبى. لذلك فإنّ هذه الخصال أمثولة الجميع؛ ونحن إذ نقيم الآن حكومة إسلاميّة وندَّعي الحكم العلويّ فإنّنا نفوق سوانا إلحاحاً وحاجة لهذه الأسوة وتمسّكاً بها.

فإنّنا إذ رفعنا راية الولاية العلويّة في هذه البقعة من العالم، علينا أن نرى ما هو خطابنا، وما الّذي نروم تقديمه للإنسانيّة، وأيّ إطار نرسمه لإسعاد البشريّة ونتمسّك به ونرفعه. وخيرُ أسوة هنا أمير المؤمنين” عليه السلام ؛ فلا يصحّ المناداة باسم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وإظهار المحبّة والمودّة باللسان فقط، ومخالفة فعله والدرس الّذي علّمنا إيّاه في قوله وعمله على صعيد العمل.

إنّ مسؤوليّة كوادر الحكومة أي أنا وأمثالي أشدّ ثقلاً؛ لأنّنا نحن الّذين يجب أن نعمل ونقتفي الدرب الّذي سلكه.

وربّما يقول بعض الناس: أين أنتم من أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فأين أنتم من قدرته وقوّته وإيمانه وصبره وصلابته الروحيّة؟ وهذا الكلام بطبيعة الحال صائب؛ فليس منّا من يرقى للمقارنة به عليه السلام.

ولا يصحّ القول: هو الأفضل والأرفع ونحن الأدنى، فهذه المقارنة خاطئة من الأساس؛ إذ هو عليه السلام في علياء الذرى ونحن نقبع في أعماق الثرى نتخبّط في دوامةٍ.

إنّ المسافة بعيدة جداً، ولكن من الممكن اختيار المسار؛ فعلينا أن نقترب من الهدف, والغاية الّتي كان يستهدفها, كلٌّ حسب طاقته وبما يقتضيه زمانه، ولكن بذات الدرب وذات الهدف؛ وهذه القضيّة على قدر من الأهميّة.

لعلّ من الحكومات الّتي جاءت إلى الحكم في العالم الإسلاميّ على

 مدى اثني عشر أو ثلاثة عشر قرناً مَنْ كانوا يعظّمون اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعتبرون أنفسهم خلفاء له، وكانوا على استعداد لقتل من يقول لهم: لستم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لِما كانوا يدّعون خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بدءاً من خلفاء بني أميّة ومروراً بخلفاء بني العبّاس الّذين حكموا ما يقرب من خمسمائة إلى ستمائة عامٍ, ومن ثمّ الخلفاء الفاطميّين في مصر وشمال أفريقيا, وتلاهم خلفاء الدولة العثمانيّة الّذين حكموا في آسيا الصغرى، أي تركيا الحالية حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى، حيث كانت عاصمة حكومتهم فيها، فيما كانت الدول العربيّة الحاليّة بأجمعها تقريباً تخضع لحكومتهم، وكان هؤلاء جميعاً يحملون اسم الخليفة الّذي يعني خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ! وبعضهم تجاوز بخطوة أكثر حيث كانوا يدّعون أنهم خلفاء الله قائلين: نحن خلفاء الله! نوّاب الله! كان هذا لقبهم، ولكن ما كان عملهم؟ كان عملهم على شاكلة الحكومات الملكيّة الظالمة الّتي سادت الدنيا قبلهم وعاصرتهم أيضاً في مناطق أخرى، وتلتهم مثل هذه الحكومات في أرجاء العالم حتّى يومنا هذا.

كان الاسم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بَيْدَ أنّ النمط والعمل والسلوك كان شيئاً آخر.

مَنْ هم هؤلاء؟ وما الاسم الّذي يليق بهم؟ إنّه اسم (منافق!) أي مَنْ يدّعي شيئاً، ويعد بشيء، ويرفع راية باسم شيء معيّن، لكنّه في سلوكه وعمله ومنهجه لا يلتزم بذلك الشيء، فثمّة أمر آخر وعمل آخر يتحكّم

بفعله وخطّه؛ هذا هو المنافق، فهل نُزمع أن نكون كذلك بحيث نلوّح براية الولاية العلويّة والحكم العلويّ والتبعيّة لأمير المؤمنين عليه السلام لكنّنا نساوق حكومتنا مع الأنظمة الّتي تتنافى تماماً مع خطّ الإمام عليّ عليه السلام وفكره ومنطقه؟! فمنها من يخالفه 100% وبعضها 90% وبعضها الآخر 80% وترتكز في عملها على أساس آخر؛ لذا يتعيّن علينا أكثر من الآخرين التمسّك بالأنموذج ومعرفته واتخاذه مِلاكاً؛ فما هي معالم الأنموذج العلويّ في الحكم؟ إنّ هذه المعالم يجب الإلتزام بها.

كما يتعيّن على الجماهير مراقبتنا؛ فإذا ما وجدتنا نلتزم بمعالم الحكم العلويّ بما تسعه طاقتنا فلتتقبّل حينها أنّنا حكومة تسير في خط الإمام عليّ عليه السلام. أما إذا لمست منّا عدم الالتزام بتلك المعالم, أو أنّنا نعمل بما يعاكسها وليس الحديث هنا أنّنا نقلّ قدرةً عن الإمام عليّ عليه السلام ، وإنّما عدم امتلاكنا الإرادة في اقتفاء خطّه إذ ذاك فلترفض خطابنا ومزاعمنا ولتقُل: إنّ هذه الحكومة ليست علويّة، وليست هي من ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في شيء.

وهذا هو المِلاك الّذي لا بدّ أن يؤخذ بنظر الاعتبار، ولكن ما هي هذه المعالم يا تُرى؟

لو أردنا إيضاح معالم حكومة أمير المؤمنين عليه السلام فربّما يمكن الحديث عن عشرة معالم مهمّة، أشير إلى بعضها هنا:

المعلم الأوّل: التمسّك التام بدين الله والإصرار على إقامته، فأيّما

حكومة لا يقوم أمرها على أساس إقامة الدين فليست حكومة علويّة.

في خضمّ الحرب وأولئك الّذين كانوا وسط الميدان أثناء فترة الدفاع الّذي استمرّ ثماني سنوات يعرفون ما أقول ووسط ذلك المعترك، حيث كان كلّ مقاتل وجنديّ يصبّ جلّ اهتمامه على كيفيّة شنّه الهجوم أو الدفاع عن نفسه، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فسأله عن قضيّة تخص التوحيد قائلاً: ما المراد من كلمة (أحد) في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾؟ وهذه ليست بقضيّة جوهريّة، فهو لم يسأل عن وجود الله، وإنّما سأل عن قضيّة ثانويّة.

فهمَّ به المحيطون بأمير المؤمنين عليه السلام قائلين: “أهوَ وقت سؤال؟! فقال عليه السلام: دعوني أُجبه، فإنما نحن نقاتل لأجل هذا”4 ؛ أي إنّ قتال أمير المؤمنين عليه السلام وسياسته ومجابهته وحرقة قلبه وكافّة الخطوط الأساس الّتي اختارها لحكومته كانت من أجل إقامة دين الله؛ وهذا أحد المعالم.

4- عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه، قال: إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين  عليه السلام ، فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين  عليه السلام : دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فبهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز وجل. /التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 83.

ولو كان الأمر في النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة الّتي تتّخذ من الحكم العلويّ عنواناً لها، أن لا يكون الهدف إقامة دين الله؛ عَمِلَ الناس بدين الله أو لم يعملوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا، أقيم الحقّ أو لم يُقم, ونقول ما شأننا نحن، إذ ذاك لا تعدّ هذه الحكومة علويّة؛ فإقامة دين الله هي أوّل المعالم، وهي أمّ سائر الخصوصيّات في حياة أمير المؤمنين عليه السلام وحكومته، ومنها تنبثق عدالته وتعود إليها حاكميّة الأمّة ومداراة الناس الّتي تميّزت بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام.

المعلم الثاني: في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام هي: العدالة المطلقة؛ أي إنّه لم يؤثر مصلحته الشخصيّة وأيّة سياسة تمسّ شخصه على العدالة قط؛ “والله لا أطلب النصر بالجور”5. فانظروا أيّ لوحة زاهرة هذه وأي بيرق سامٍ هذا؛ فلربّما يقال لك: إنّك المنتصر في ميدان السياسة أو التنافس العلميّ أو الانتخابات أو ساحة الحرب، ولكن ذلك منوط بأن تمارس الظلم؛ فأيّهما تختار يا ترى؟ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يرفض هذا النصر، ويقول لك لا ضير في أن أُهزم، ولكن لا أظلِم.

والمحور في كلّ ما سمعتموه حول أمير المؤمنين عليه السلام من كلام بشأن العدالة هو دعوته المطلقة للعدالة، العدالة للجميع وفي كافّة الأمور؛ أي العدالة الاقتصاديّة، والسياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. وهذا معيار آخر

5- نهج البلاغة, الخطبة: 126، ونص كلامه  عليه السلام :«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ».

 لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو لا يطيق الظلم ولا يركن إليه ولو أُهدرت مصالحه. ومن أفظع الظلم هو التمييز، سواء في تطبيق القوانين أم في تنفيذ الأحكام؛ فهذا مرفوض على الإطلاق من قِبَل أمير المؤمنين عليه السلام.

ارتكب أحد أتباعه مخالفة، وكان شديداً في حبّه وماهراً في الدعوة إليه، وكثيراً ما كان يمارس الدعوة الحقّة له عليه السلام ، فأقام أمير المؤمنين عليه السلام عليه الحدّ، وكان ذلك خلافاً لما يتوقّعه، فقال: “يا أمير المؤمنين، أنا الّذي أواليك وأدافع عنك. فردّ عليه عليه السلام: نعم، ولكن هذا حكم الله”6.

والله هو الّذي يتقبّل منك موالاتك لي، ولك جزيل الشكر! وهكذا أجرى الحد عليه. لكنّه ردَّ: ما دام الأمر كذلك، فإنني ذاهبٌ إلى معاوية، فهو الّذي يعرف قدري! فذهب.

من الخصوصيّات والمعالم الأخرى لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام: التقوى؛ لاحظوا أنّ أيّاً منها بيرق وعلَم، فماذا تعني التقوى؟ إنّها تعني: تلك الشدّة من المراقبة, بحيث لا يحيد الإنسان عن جادة الحقّ في ممارساته الشخصيّة. وهذا ما تعنيه التقوى؛ أي أن يراقب المرء نفسه مراقبة تامّة في تداوله للأموال، في التلاعب بكرامة الناس، في الاختيار والرفض، في التحدّث حيث يحتاط أن لا يقول ما يخالف الحقّ.

تصفّحوا نهج البلاغة فهو حافل بهذه المقولات. ومما يؤسف له الآن

6-دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج ‏2، ص 443.

أنّ بعض الناس درجوا على ارتكاب ما حلا لهم تحت طائلة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان كذلك ويفعل هكذا، ما هو دليلهم ومن أين لهم هذا؟ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ذاك في نهج البلاغة، وهو ذاك في الروايات الواردة عنه وعن أولاده الطاهرين، فأين هذه الأمور الّتي يدّعيها بعض الناس قائلين: إنّ علياً كان كذلك؟ كلّا، فعليّ عليه السلام هو ذاك في نهج البلاغة؛ طالعوا نهج البلاغة من أوّله إلى آخره، فهو حافل بالحثّ على التقوى والدعوة إليها، وما لم يكن الإنسان تقيّاً فلا قدرة له على إقامة دين الله.

فأسوأ الأمراض تلوّث الباطن، فتلوّث قلب الإنسان بالمعصية لا يدع للإنسان فرصة إدراك الحقيقة، ناهيك عن أن يتحرّك صوبها.

ومن معالم حكومة أمير المؤمنين عليه السلام: الانبثاق عن إرادة الأمّة، إذ ليس من منطق أمير المؤمنين عليه السلام (التغلّب)، أي التحكّم بالناس عن طريق الغلبة والقهر، فبالرغم من علمه بأنّه على حقّ تنحّى جانباً حتّى جاءه الناس مصرّين معاهدين، ولعلّهم بكوا ملتمسين إيّاه أن يمسك بزمام أمورهم، حينها نهض الإمام وأمسك بزمام أمور الأمّة، وهو القائل: “لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ..، لأَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا…”7. فلا يستهوي أمير المؤمنين عليه السلام الإمساك بالسلطة وممارسة قدرته، فحبّ السلطة إنّما يستهوي أولئك الذين يريدون إرضاء

7- نهج البلاغة, الخطبة: 3 (الشقشقيّة).

 رغباتهم وأهوائهم النفسيّة، وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهو يسعى لأداء التكليف الشرعيّ وإقامة الحقّ.

ولقد استودعته الأمّة السلطة فتسلّمها وحافظ عليها بكلّ اقتدار، ولم يحابِ أولئك الّذين انبروا لمناهضة سلطته الإسلاميّة ومناوأة حكومته الإسلاميّة؛ فليكونوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الوجهاء وذوي السابقة بالجهاد في سبيل الإسلام، فما داموا قد انبروا لمناهضة الحقّ ومناوأته فلا بدّ من التصدّي لهم بكلّ اقتدار.

وتصدّى عليه السلام لهم! وعلى هذا المنوال كانت معاركه الثلاث. وهذه ميزة الحكومة الصالحة8.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...