الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾
تعريف بالسورة ومحاورها
سُمّيت هذه السورة بالقارعة, لورود ذِكْرها في مستهلّ السورة، وكونها تُشكّل أحد محاورها الأساسيّة الممهّدة للبعث والنشور والحساب.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 11 آية, تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- حقيقة القارعة.
2- مشاهد البعث والنشور.
3- ميزان العدل الإلهيّ.
4- عاقبة الصالحين.
5- عاقبة الطالحين.
6- حقيقة النار.
فضل السورة
- ما رواه عمرو بن ثابت، عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام أنّه قال: “من قرأ القارعة أمنه الله من فتنة الدجّال, أنْ يُؤمِن به، ومن قيح جهنّم يوم القيامة”[1].
- ما رواه أُبَي بن كعب: “مَنْ قرأها ثقّل الله بها ميزانه يوم القيامة”[2].
خصائص النزول
هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق المفسِّرين، لا خلاف بينهم في ذلك[3].
شرح المفردات
- الْقَارِعَةُ: “القاف والراء والعين, معظم الباب ضرب الشيء. يقال: قرعت الشيء أقرعه, ضربته… والقارعة القيامة, لأنّها تضرب وتُصيب الناس بإقراعها”[4].
- الْمَبْثُوثِ: “الباء والثاء أصل واحد, وهو تفريق الشيء وإظهاره… وفي القرآن: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾, أي كثيرة متفرّقة”[5].
- الْعِهْنِ: “العين والهاء والنون أصل صحيح, يدلّ على لين وسهولة وقلّة غذاء في الشيء”[6]. و”العِهْنُ: الصّوف المصبوغ. قال تعالى: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾[7]، وتخصيص العِهْنِ, لما فيه من اللَّون, كما ذكر في قوله: ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾[8]“[9].
- الْمَنفُوشِ: “النون والفاء والشين أصل صحيح, يدلّ على انتشار, من ذلك نفش الصوف, وهو أنْ يُطرَق حتّى يتنفّش”[10].
- أُمُّهُ: “الهمزة والميم أصل واحد, يتفرّع منه أربعة أبواب, وهي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين. وهذه الأربعة متقاربة. وبعد ذلك أصول ثلاثة, وهي: القامة، والحين، والقصد”[11]. و”قوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾[12], أي: مثواه النار, فجعلها أمّاً له”[13].
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿الْقَارِعَةُ﴾:
القارعة, من القرع, وهو الضرب باعتماد شديد، وهي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سُمّيت بها, لأنّها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب[14].
الآية (2): ﴿مَا الْقَارِعَةُ﴾:
الآية سؤال عن القارعة، مع كونها معلومة, وفي ذلك إشارة إلى عِظَم أمرها، وحقيقتها المحجوبة عن الإنسان[15].
الآية (3): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾:
الآية في سياق تأكيد تعظيم أمر القارعة وحقيقتها المحجوبة عن الإنسان[16].
الآية (4): ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾:
ظرف متعلّق بفعل مقدّر, نحو: اذكر، وتقرع، وتأتي, والتقدير: اذكر يوم يكون الناس, كالفراش المبثوث، أو يوم تقرع القارعة يكون الناس, كالفراش المبثوث، أو يوم تأتي يكون الناس, كالفراش المبثوث.
وذُكِرَ في معنى الفراش، أقوال، هي:
- الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه على بعضه الآخر, وهو غوغاء الجراد.
- الفراش, جمع فراشة, حيث شُبِّه الناس عند البعث بالفراش, لأنّ الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة واحدة, كسائر الطير, وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع، فتوجّهوا جهات شتّى أو توجّهوا إلى منازلهم المختلفة, سعادة وشقاء.
والمبعوث, من البث, وهو التفريق[17].
ولعلّ الغاية من تشبيه انتشار الناس وتفرّقهم عند سماع القارعة بانتشار الفراش وتفرّقهم
عند اقترابهم من النار والضوء, لإفادة حالة الضعف والذلّة والاضطراب الحاصلة لديهم.
الآية (5): ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾:
العهن, الصوف ذو ألوان مختلفة. والمنفوش, من النفش, وهو نشر الصوف, بندف، ونحوه. فالعهن المنفوش, الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة.
والتشبيه في الآية من جهتين:
- الأولى: أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة, كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾[18].
- لثانية: أنّ الجبال, كما أنّها مَثَل للصلابة والاستحكام، فالصوف المندوف مَثَل للخفّة. فالجبال, بصلابتها وألوانها المختلفة، تصير, كالصوف المصبوغ المندوف المنتشر في الهواء، فتتبدّل الأرض غير الأرض، وتصير قاعاً صفصفاً، فإذا كانت الجبال في تلك الداهية بهذه الحال، فما حال الإنسان الضعيف؟!
ففي الآية: إشارة إلى تلاشي الجبال، على اختلاف ألوانها وصلابتها, بزلزلة الساعة[19].
الآية (6): ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾:
في الآية إشارة إلى وزن الأعمال, وأنّ منها ما هو ثقيل في الميزان, وهو ما له قدر ومنزلة عند الله, وهو الإيمان وأنواع الطاعات، ومنها ما ليس كذلك, وهو الكفر وأنواع المعاصي. ويختلف القسمان أثراً، فيستتبع الثقيل, السعادة، ويستتبع الخفيف, الشقاء[20].
الآية (7): ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾:
العِيشة, كالجِلسة, بناء نوع، وتوصيفها براضية – بلحاظ أنّ الراضي حقيقة وما من شأنه أن يرضى, هو صاحبها، لا العيشة – من باب المجاز العقلي. ومعنى الآية: فهو في عيشة ذات رضى[21].
الآية (8): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾:
أي خفّت حسناته في ما سبق من الكتاب. وقد ذكر سبحانه الحسنات في الموضعين، ولم يذكر وزن السيّئات, لأنّ الوزن عبارة عن القدر والخطر، والسيّئة لا خطر لها، ولا قدر، وإنّما الخطر والقدر للحسنات. فكأنّ المعنى: فأمّا مَن عظم قدره عند الله, لكثرة حسناته، ومن خفّ قدره عند الله, لخفّة حسناته[22].
الآية (9): ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾:
الظاهر أنّ المراد بهاوية, جهنّم. وتسميتها بهاوية, لهوي مَنْ ألقِيَ فيها, أي سقوطه إلى أسفل سافلين، قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾[23]. فتوصيف النار بالهاوية من باب المجاز العقلي.
وذُكِرَ في معنى الآية قولان, بناءً على المراد من معنى “أم”:
- المراد من “أم”, المرجع والمآل. ومعنى الآية: أنّ الهاوية هي أمّ للداخل فيها, لكونها مأواه ومرجعه الذي يرجع إليه, كما يرجع الولد إلى أمِّه.
- المراد من “أم”, أم رأسه. ومعنى الآية: أنّ أمّ رأسه هاوية, أي ساقطة في الهاوية, لأنّه يُلقى في النار على أمّ رأسه[24].
والمعنى الثاني بعيد, لبقاء الضمير في قوله تعالى: ﴿مَا هِيَهْ﴾ بلا مرجع ظاهر[25].
وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه، عن أبي أيوب الأنصاريّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنّ نفس المؤمن إذا قُبِضَت، يلقاها أهل الرحمة من عباد الله, كما يلقون البشير من أهل الدنيا، فيقولون: أنظروا صاحبكم يستريح، فإنّه كان في كرب شديد، ثمّ يسألونه ما فعل فلان وفلانة؟ هل تزوّجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله، فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي، فيقولون: إنّا لله، وإنّا إليه راجعون، ذهب به إلى أمّه الهاوية, فبئست الأم، وبئست المربّية”[26].
الآية (10): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾:
مرجع الضمير في “هي” للهاوية، والهاء في قوله تعالى: ﴿هِيَهْ﴾, للوقف. والآية في مقام تعظيم أمر النار وتفخيمه[27].
الآية (11): ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾:
أي حارّة شديدة الحرارة. والآية جواب للاستفهام المتقدّم في قوله تعالى: ﴿مَا هِيَهْ﴾، وبيان لبعض خصائص الهاوية[28].
بحث تفسيري: حقيقة ميزان العدل الأخرويّ[29]
قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾[30].
الآيتان تُخبران عن الوزن, وهو توزين الأعمال، أو الناس العاملين, من حيث عملهم, والدليل عليه, قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[31], حيث دلّ على أنّ هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، وأوضح منه قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[32], حيث ذكر العمل، وأضاف الثقل إليه خيراً وشرّاً.
وبالجملة, الوزن إنّما هو للعمل، دون عامله, فالآية تُثبت للعمل وزناً, سواء أكان خيراً أم شرّاً, غير أنّ قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾[33], يدلّ على أنّ الأعمال في صور الحبط, لا وزن لها أصلاً، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله. فما لم يحبط من الأعمال الحسنة والسيئة له وزن يوزن به، لكنّ الآيات
في عين أنّها تعتبر للحسنات والسيئات ثقلاً, إنّما تعتبر فيها الثقل الإضافي، وترتّب القضاء الفصل عليه, بمعنى أنّ ظاهرها أنّ الحسنات توجب ثقل الميزان، والسيّئات خفّة الميزان، لا أن توزن الحسنات, فيؤخذ ما لها من الثقل، ثمّ السيّئات, ويؤخذ ما لها من الثقل، ثمّ يقايس الثقلان, فأيّهما كان أكثر, كان القضاء له، فإنْ كان الثقل للحسنة, كان القضاء بالجنّة، وإنْ كان للسيّئة, كان القضاء بالنار، ولازم ذلك صحّة فرض أن يتعادل الثقلان, كما في الموازين الدائرة بيننا, من ذي الكفّتين، والقبّان، وغيرهما. لا بل ظاهر الآيات أنّ الحسنة تُظهر ثقلاً في الميزان، والسيّئة خفة فيه, كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾[34]، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾[35]، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾[36]. فالآيات, تُثبت الثقل في جانب الحسنات دائماً، والخفّة في جانب السيّئات دائماً. وعليه، فهناك أمر آخر تُقايس به الأعمال والثقل له, فما كان منها حسنة, انطبق عليه ووُزِنَ به, وهو ثقل الميزان، وما كان منها سيئة, لم ينطبق عليه، ولم يُوزَن به, وهو خفّة الميزان, كما نُشاهده في ما عندنا من الموازين, فإنّ فيها مقياساً, وهو الواحد من الثقل, كالمثقال يُوضع في إحدى الكفّتين، ثمّ يُوضع المتاع في الكفّة الأخرى، فإنْ عادل المثقال وزناً بوجه على ما يدلّ عليه الميزان, أُخذ به, وإلا فهو الترك لا محالة. والمثقال في الحقيقة, هو الميزان الذي يُوزَن به، وأمّا القبّان، وذو الكفّتين، ونظائرهما, فهي مقدّمة لما يُبيّنه المثقال, من حال المتاع الموزون به, ثقلاً وخفّة, كما أنّ واحد الطول, وهو الذراع أو المتر – مثلاً – ميزان يُوزن به الأطوال, فإنْ انطبق الطول على الواحد المقياس, فهو، وإلا ترك.
ففي الأعمال واحد مقياس تُوزَن به, فللصلاة – مثلاً – ميزان تُوزَن به, وهي الصلاة التامّة
التي هي حقّ الصلاة، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك، وللكلام والقول حقّ القول الذي لا يشتمل على باطل، وهكذا, كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[37]. فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾, أنّ الوزن الذي يُوزَن به الأعمال يومئذ, إنّما هو الحقّ، فبقدر اشتمال العمل على الحقّ, يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مشتملة على الحقّ, فلها ثقل, كما أنّ السيّئات ليست إلا باطلة, فلا ثقل لها، فالله سبحانه يَزن الأعمال يومئذ بالحقّ, فما اشتمل عليه العمل من الحقّ, فهو وزنه وثقله. ولعلّه إليه الإشارة بالقضاء بالحقّ في قوله: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[38]. والكتاب الذي ذَكَر الله أنّه يُوضَع يومئذ – وإنّما يُوضع للحكم به – هو الذي أشار إليه بقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾[39]، فالكتاب يُعيّن الحقّ, وما اشتمل عليه العمل منه، والوزن يُشخّص مقدار الثقل.
وعلى هذا، فالوزن في الآية, بمعنى: الثقل دون المعنى المصدري، وإنّما عُبِّرَ بالموازين بصيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ،﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾, الدالّ على أنّ لكلّ أحد موازين كثيرة, من جهة اختلاف الحقّ الذي يُوزَن به, باختلاف الأعمال, فالحقّ في الصلاة, وهو حقّ الصلاة، غير الحقّ في الزكاة، والصيام، والحجّ، وغيرها.
وعليه، يتبيّن ممّا تقدّم:
- أنّ الوزن يوم القيامة, هو تطبيق الأعمال, على ما هو الحقّ فيها، وبقدر اشتمالها عليه, تستعقب الثواب، وإنْ لم تشتمل, فهو الهلاك. وهذا التوزين هو العدل.
- أنّ هناك بالنسبة إلى كلّ إنسان موازين تُوزَن بها أعماله, والميزان في كلّ باب من العمل, هو الحقّ الذي يشتمل عليه ذلك العمل, فإنّ يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحقّ، ولا ولاية فيه إلا لله الحقّ, قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾[40]، ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾[41]، ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾[42].
وقد وردت مجموعة من الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام, تُشير إلى حقيقة ميزان العدل الأخرويّ, بالمعنى المتقدّم، منها:
- ما رواه هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام, أنّه سأله الزنديق، فقال: أو ليس يُوزن الأعمال؟ قال: “لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء, مَنْ جهل عدد الأشياء، ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء”، قال: فما معنى الميزان؟ قال: “العدل”. قال: فما معناه في كتابه: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾؟ قال: “فمن رجح عمله”[43].
- ما رواه أبو معمّر السعداني، عن أمير المؤمنين عليه السلام، في حديث, قال: “وأمّا قوله: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ … ﴿خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾, فإنّما يعني الحسنات تُوزن الحسنات والسيّئات, فالحسنات ثقل الميزان، والسيّئات خفّة الميزان”[44].
- ما رواه سعيد بن المسيّب، عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام, في ما كان يعظ به، قال: “ثمّ رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب, فقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾[45], فإنْ قلتم أيّها الناس: إنّ الله عزّ وجلّ إنّما عنى بها أهل الشرك، فكيف ذلك؟ وهو يقول: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[46], فاعلموا عباد الله, أنّ أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين، ولا تُنشَر لهم الدواوين, وإنّما يُحشرون إلى جهنّم زمراً، وإنّما نصب الموازين، ونشر الدواوين, لأهل الإسلام”[47].
الأفكار الرئيسة
1- هذه السورة مكّيّة, تتضمّن 11 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: حقيقة القارعة/ مشاهد البعث والنشور/ ميزان العدل الإلهيّ/ عاقبة الصالحين/ عاقبة الطالحين/حقيقة النار/…
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
3- في تفسير السورة: القارعة اسم من أسماء يوم القيامة, لأنّها تقرع القلوب بالفزع, لما يشاهدونه من أمرها، ومنه: تلاشي النظام الدنيوي, فينتشر الناس حينها في جهات شتّى إلى منازلهم المختلفة بحسب شقوتهم أو سعادتهم, بحسب ما قدّموا لأنفسهم من أعمال في دار الدنيا, فمن كان عمله ثقيل في الميزان, فمآله إلى الجنّة، ومن قصرت أعماله وخفّت في الميزان, فمآله ومرجعه إلى نار جهنّم الشديدة الحرارة.
4- الوزن إنّما هو للعمل، دون عامله. والأعمال في صور الحبط, لا وزن لها أصلاً، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله. والوزن الذي يُوزَن به الأعمال يومئذ, إنّما هو الحقّ، فبقدر اشتمال العمل على الحقّ, يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مشتملة على الحقّ, فلها ثقل, كما أنّ السيّئات ليست إلا باطلة, فلا ثقل لها، فالله سبحانه يَزن الأعمال يومئذ بالحقّ, فما اشتمل عليه العمل من الحقّ, فهو وزنه وثقله.
فكّر وأجب
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
– هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين.
– سُمّيت النار بالقارعة, لأنّها تقرع القلوب الفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب.
– المراد بـ “العهن المنفوش”: الصوف الملوّن المنتشر.
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾؟
—————————————————————-
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾؟
—————————————————————-
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾؟
—————————————————————-
[1] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص426.
[2] م.ن.
[3] انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص385-386.
[4] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “قَرَعَ”، ص72. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “قَرَعَ”، ص666.
[5] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة “بَثَّ”، ص172. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “بَثَّ”، ص108.
[6] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة “عَهَنَ”، ص175.
[7] سورة القارعة، الآية 5.
[8] سورة الرحمن، الآية 37.
[9] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “عَهَنَ”، ص592.
[10] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “نَفَشَ”، ص461. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “نَفَشَ”، ص819.
[11] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة “أَمَّ”، ص21.
[12] سورة القارعة، الآية 9.
[13] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “أَمَّ”، ص85.
[14] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص348.
[15] انظر: م.ن.
[16] انظر: م.ن.
[17] انظر: م.ن، ص349.
[18] سورة فاطر، الآية 27.
[19] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
[20] انظر: م.ن.
[21] انظر: م.ن.
[22] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س. ج10، ص428.
[23] سورة التين، الآية 5.
[24] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
[25] انظر: م.ن.
[26] السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص385-386.
[27] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
[28] انظر: م.ن.
[29] انظر: م.ن، ج8، ص10-17.
[30] سورة الأعراف، الآيتان 8-9.
[31] سورة الأنبياء، الآية 47.
[32] سورة الزلزلة، الآيات 6-8.
[33] سورة الكهف، الآية 105.
[34] سورة الأعراف، الآيتان 8-9.
[35] سورة المؤمنون، الآيتان 102-103.
[36] سورة القارعة، الآيات 6-11.
[37] سورة آل عمران، الآية 102.
[38] سورة الزمر، الآية 69.
[39] سورة الجاثية، الآية 29.
[40] سورة النبأ، الآية 39.
[41] سورة الكهف، الآية 44.
[42] سورة يونس، الآية 30.
[43] الطبرسي، أحمد بن علي: الاحتجاج، تعليق وملاحظات: محمد باقر الخرسان، لا.ط، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ.ق/ 1966م، ج2، ص98-99.
[44] ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): التوحيد، تصحيح وتعليق: هاشم الحسيني الطهراني، لا.ط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لا.ت، ص268.
[45] سورة الأنبياء، الآية 46.
[46] سورة الأنبياء، الآية 47.
[47] ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1417 هـ.ق، ص595.