الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (204)

وكان معاوية في بطشه يهدف إلى جعل الحكم خلافة ملك كسروي بعد أن نجحت الأرستقراطيّة الوثنيّة بإقامة دولة كبرى ؛ وهذا ما تفسّره عبارته المشهورة : أنا أوّل الملوك(1) .

وهذا معناه أنّ معاوية كان يقصد أنّه أوّل الملوك في الإسلام الوليد الذي لم يعرف الملكيّة بهذا الشكل الرهيب الذي وضع اُسسه كما يحلو له ، وكما يرغب في توريثه لمَن بعده .

كلّ ذلك من ألوان الانتهاكات ، وتحريف روح الإسلام ومبادئ العقيدة ، والعودة إلى النزاعات الجاهليّة التي قام الإسلام ليحاربها ، كلّ ذلك كان يتمّ ومعاوية سادر في غيّه يزداد بغياً على بغي ، والاُمة الإسلاميّة سادرة في خنوعها وذلّها ، وتزداد استسلاماً على استسلام ، والحسين (عليه السّلام) يرقب ذلك كلّه , وتهاويل ثوريّة تعتمل في صدره ، صابراً على ما آلت إليه اُمّة الإسلام .

وكأنّه (عليه السّلام) ينتظر إتيان ساعة الخلاص ليعطى الإشارة من لدن العناية الإلهيّة للقيام بانتفاضته التي ستعيد عقيدة جدّه إلى صراطها المستقيم الذي أنزلت فوقه ، وتعيد إزكاء شعلتها التي خبت في الصدور بفعل التدجين المنظّم باسم الدِّين والإرهاب ، وليفتدي بمقتله إحياءها من جديد ، وليكمل الشهادات العظيمة التي كتبها الله تعالى على الأنبياء والوصيّين والشهداء الأخيار ، فيستمرّ الإسلام ويبقى بشهادته ، كما بدأت حين أنزل على جدّه الرسول الأعظم ونشر بتضحياته الكبيرة .

ـــــــــــــــــــ
(1) لقد أبطل الاسلام الملكيّة وولاية العهد ، واعتبر في أوائل ظهوره جميع أنظمة السلاطين في إيران ومصر واليمن والروم غير شرعيّة ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد كتب إلى ( هرقل ) ملك الروم وإلى ملك فارس يدعوهما إلى الكفّ عن استعباد الناس ، ويدعوهما فيها إلى إرسال الناس على سجاياهم ليعبدوا الله وحده ؛ لأنّ له السلطان وحده . والحسين قام بثورته التاريخيّة للقضاء على اُسلوب هذه السلطنات المشؤوم ـ راجع مقدمة خطب الإمام آية الله الخميني (رحمه الله) .

الصفحة (205)

الأسباب القريبة للثورة

أ . في عهد معاوية

لطالما تساءل الكثيرون عن السبب الذي حدا بالحسين (عليه السّلام) لتأجيل انتفاضته إلى عهد يزيد ، ولِمَ لَم يفجّرها في عهد معاوية ما دامت مفاسده ظاهرة للعيان ؟ وما دامت الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت إلى درجة التراقي ووصل بها سيل الاضطهاد الزُبى ؟

ولكثرة ما طرح هذا التساؤل ، ولكثرة الإجابات المتشابهة في كثير من الأحيان ، والتي تبعد غالباً عن حقيقة هذا التأجيل ، وعن جوهر الهدف منه ، فإنّ تبصّراً متأنيّاً واعياً في دوافع هذا التأجيل ، التي لا تتبدّى إلاّ بربطها فيما سبقها وتلاها من نتائج ، لكفيل بجلاء أجوبة شافية على التساؤلات التي تثار في كلّ مرّة يتطرّق خلالها البحث عن أسباب عدم قيام الحسين بثورته في عهد معاوية .

ولا شكّ في أنّ التساؤل الملحّ ، والأجوبة المبتورة ناقصة النضج من شأنها أن تزيد

الصفحة (206)

في تفسير الأمر على نحو بعيد عن الحقيقة الجوهريّة له .

وبرأيي أنّ كلّ مَن ساهم في وضع جواب على تساؤل بهذا الصدد كان يغفل إلى حدّ بعيد دَور العناية الإلهيّة في تسيير خطى الحسين في طريقها الصحيح وفي الوقت المناسب ؛ لأنّنا لو نظرنا إلى حركة الحسين بأنّها أمر من الله سبحانه وتعالى سبق وأن تنبّأ بها الأنبياء والوصيّون ، فإنّنا لا نعدو الحقيقة لو سلّمنا جدلاً بأنّ موضوع التأجيل كان لحكمة عُلويّة أوحت للحسين بكيفيّتها وتوقيتها حتّى تؤتي ثمارها ، وتبلو مضاءها ، ولا يكون لها من الثورات التقليديّة إلاّ اسمها فحسب ، بينما يختلف مضمونها وجوهرها اختلافاً كلّياً .

لم يكن الشهيد إذاً يفكّر من عنديّاته حينما جاءته كتب أهل العراق تسأله الثورة على معاوية ، فأجابهم : (( فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً ))(1) . ومثل هذا القول أجاب به عيسى (عليه السّلام) على اُمّه حينما دعته لاجتراح اُعجوبة ، إذ أجابها : (( يا اُمّاه ، لم تأتِ ساعتي بعد ))(2) .

فلم يقول الحسين هذا القول ما دامت القتلة هي القتلة سواء ؛ أكانت على يد معاوية ، أم على يد يزيد ، وما دام غير قادر على هزيمة أيّ منهما بقوّة عسكريّة .

هنا تتجلّى الحكمة العُلويّة ، ومن هذه النقطة بالذات علينا أن نفهم سرّ عدم قيام

ـــــــــــــــــ
(1) الأخبار الطوال .

(2) يوحنا 1/ 4 ـ 5

الصفحة (207)

الحسين في عهد معاوية ، والسرّ في قيامه بها على هذا الشكل الضعيف عسكرياً في عهد يزيد .

السرّ في عدم قيام الحسين في عهد معاوية يكمن في كلمة ( البيعة ) التي وصفها (عليه السّلام) بأنّه كان لها كارهاً ، وكان من نبل أخلاقه أن رضخ لتصرّف أخيه الحسن الذي قطع العهد مع معاوية ، ولم يشأ أن يعطّل رأيه واجتهاداته في هذا الصدد ، وكان يجيب مَن يسأله رأيه في عهد أخيه الحسن لمعاوية : (( بأنّ لأخيه رأياً في الموادعة ، وله هو رأي في جهاد الظلمة ، والرأيان رشد وسداد ، وأمر لكليهما من الله تعالى ورسوله )) .

ثمّ يطلب من شيعته بأن يكون كلّ امرئ منهم حلساً(1) من أحلاس بيته ما دام ابن هند حيّاً ، فإن يهلك وهم أحياء يرجو أن يخيِّر الله لهم ويأتهم رشدهم ، ولا يكلهم إلى أنفسهم .

وفي عبارة (( فإن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخيّر الله لنا )) معنى مفسّراً لرأيه عدم الخروج في عهد معاوية ، يتجلّى تفسيره أكثر بربطه في الجملة التي تليه : (( ويأتنا رشدنا )) ، ممّا يستدلّ معها على أنّ الله تعالى هو الذي سيمدّه بالأمر ، ويؤتيه رشده ؛ كي يصبح قادراً على الحركة والقيادة .

ويعطي هذا التفسير ـ انتظار موت معاوية ـ تفسيراً آخر بقول الحسين (عليه السّلام) : (( والصقوا في الأرض , واخفوا الشخص , والتمسوا الهدى )) على أنّ فترة الكمون هذه ما هي إلاّ فترة تبصّر بالوحي الإلهي الذي كان الشهيد يأتمر بإمرته ، والذي كان يصوّر له وحده هذا الاُسلوب غير المألوف في الثورات ، ويمدّه

ــــــــــــــ
(1) حلس بالمكان حلساً : لزمه ولم يغادره .

الصفحة (208)

بالصبر إلى حين تدقّ ساعته ، ونفس هذا الوحي الإلهي كان يحجب عن بصائر صحبه الكيفيّة والاُسلوب اللذين سيسبغهما على ثورة الحسين ، وهذا ما يفسّره إلحاحهم على الحسين للسير على خطى أخيه الحسن وأبيه في الكفاح المسلّح .

ولكنّ الحسين كان فكره في واد ، وفكر صحبه في وادٍ آخر . فهو لو قام بحركته في عهد معاوية بتكتيك عسكري ، سبق وإن قام به أبوه وأخوه وآخرون ، فإنّه قد ينتصر على معاوية ، فيعتبره الناس ـ بمقياس تفكيرهم في ذلك الزمن ـ أنّه قائد عسكري نجح في صراع القوّة بما له من عدد وعدّة . ولو هُزم فكان اعتبر أحد الذين نكّل بهم معاوية وألحقهم بحتوف مَن سبقهم ، يثير موته الحزن في اُسرته ، ثمّ يطويه النسيان كما يطوي أيّ ثائر تقليدي .

ثمّ إنّ الحكمة العُلويّة تلعب دورها الأكيد في عدم مناجزة الحسين لمعاوية ، إذ كان معاوية من صنف اُولئك الحكّام الذين كان الشعب ينظر إليهم نظرة احترام خاصّة ممزوجة بالحقد المقيت عليهم ، وما كان مستبعداً ، وقد عرفنا ما عليه جُبِلَ معاوية من دهاء وثعلبيّة ، أن يلصق بالحسين تهماً باطلة بواسطة المرجئة وقصّاصيه النشطين ، فتؤدّي حركته إلى نتيجة عكسيّة من حيث كانت تقصد العكس .

وقد أوصى الحسين صحبه باللصوق بالأرض وإخفاء شخوصهم ، وهذا التكتّم وهذه التقيّة كانت لسرّ آخر ، فالحسين كان قد عاصر حروب الجمل وصفّين والنهروان ، وخَبُر دسائس معاوية وقدرته على اختراق ستار الكتمان ليصل إلى خصومه بكلّ الطرق ، وأشهرها السمّ الذي قتل به أخاه الحسن(1) ، والذي كان فريداً لوحده بأساليب استخدامه ، وبإطلاقه تلك التسمية العجيبة عليه

ـــــــــــــــ
(1) ذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين : لمّا أراد معاوية البيعة لابنه يزيد لم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن أبي وقّاص ، فدسّ إليهما سمّاً ، فماتا منه ) .

الصفحة (209)

بقوله : إنّ لله جنوداً منها العسل(1) ؛ لذا جاءت تقيّته لتؤدّي غرضاً آخر من أغراض صبره ، ولم تَكُ هذه التقيّة نتيجة لخوف من معاوية أو أساليبه ـ وهذا ما برهن عنه الحسين خلال مواقفه ـ بل كان نتيجة خوف الشهيد من أن يقضي عليه معاوية قبل أن يحين أجل قيامه بثورته التي ستختلف كليّاً عمّا سبقها من ثورات وحروب ، والتي ستنحو منحى جديداً أمضى بكثير من المنحى العسكري ، والتي بها سيتحقّق الوعد الإلهي بإعادة الدِّين الإسلامي إلى أشكال بدايته السليمة .

وللذين لا يقيمون أدنى دور لهذا الوعد من الأجدر لهم أن يعيدوا قراءة وتمعّن كلّ الأحداث التي مرّ بها الإسلام الوليد منذ أن اُنزل على خاتم الرسل والأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وكيف هدى هذا الوعد الرسول الكريم لتوقيع صلح الحديبيّة مع مشركي مكّة ، ومحوه من العقد كلمة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) و ( محمّد رسول الله ) ، وكيف رضي علي (عليه السّلام) بالتحكيم بعد خدعة المصاحف في صفّين ؟ وكيف صالح أخوه الحسن معاوية الذي اغتصب الخلافة وحرّف الدين ؟

وهذا السرّ الإلهي الذي لا يستطيع تفسير كوامنه إلاّ المبصرون لا يهتمّ كثيراً للظروف الوقتيّة أو الطارئة إذا كان فيها منجى للعقيدة مؤقتّاً ، أو فيها استعداد لقفزة ثانية لهذه العقيدة ؛ ولذا فإنّ اللّبس يخيّم على عقول كثيرة ، وتكون الدهشة والاستنكار هما الثمن لعدم فَهم هذه العقول لحكمة السرّ الإلهي في إظهار بعض الاُمور بمظهر عكسي .

وثمّة عامل آخر ، وإن كان أقلّ أهميّة من العامل الذي سبقه ، وهو أنّ مجتمع العراق الذي أنهكته الحروب وفتّت في عضده الخسائر والهزائم لم يكن مستعدّاً

ـــــــــــــــ
(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 1 / 201 .

الصفحة (210)

لأدنى مناجزة يشهرها في وجه معاوية بالذات .

وعامل آخر يضاف إلى جملة العوامل الثانويّة : وهو أنّ قيام الحسين في عهد معاوية قد يكون مبرّراً لمعاوية لكي يصوّره بصورة المستغلّ الناقض لعهده وميثاقه ، والحسين لا يسعى إلى هذه الصورة وإن كانت من باب التجنّي الواضح عليه ، وهو ما كان يربأ أن يعرف به ؛ لأنّه في جوهره بعيد عن الاستغلال ونقض العهود .

كان (عليه السّلام) يحسب لكلّ أمر حسابه في ميزان النتيجة ، أمّا الهدف الذي كان يرنو إليه في سكوته على زمن معاوية فهو في تعبئة نفوس أهل العراق خاصّة ، والمسلمين عامّة على مخازي اُميّة ، وبذلك يكسب مزيداً من الوقت لنجاح هذه التعبئة النفسيّة ، حتّى إذا ما قام بحركته التي هي في جوهرها ـ حرب نفسيّة وروحيّة ـ أكثر منها حرباً عسكريّة ، يكون قد وجد أرضاً ممهّدة لها ، وضَمن نتائج إيجابيّة لأهدافها(1) .

ثمّ وهو الذي خَبُر معاوية كان ينتظر موته كي يتولّى يزيد الخلافة ، فيفضح بتهوّره وعدم حرصه كلّ المخازي التي ارتكبها ويرتكبها الاُمويّون باسم الخلافة ، إذ كان معاوية اُستاذاً لا يبارى في إخفاء حقيقته ، وكان كتوماً حريصاً على الظهور بعكس خبيئته ، حتّى أنّه أفلح في خداع أكثر الناس تبصّراً وملاحظة(2) .

ورجل هذا شأنه ، سيعرف الحسين بأنّه من قبيل المغامرة القيام على عهده ، فهو لن يفلح معه عسكريّاً وليست له أساليبه في الخداع

ــــــــــــــــ
(1) يقول ( ماربين ) الألماني : إنّ الحسين كان يبثّ روح الثورة في المراكز الإسلاميّة المهمّة كمكّة والعراق وأينما حلّ . فازدادت نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدّمة الثورة على بني اُميّة .
(2) نفسه : الحسين بمبلغ علمه وحُسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني اُميّة وإظهار عداوتهم لبني هاشم .

الصفحة (211)

والتحايل . ففضّل (عليه السّلام) الانتظار والصبر على مكارهه على أن يقدم على خطوة ليس لها نتائج ، أو قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة حيث كان يرغب العكس .

وإذا كان الحسين قد فضّل التريّث والانتظار حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فإنّ التزامه بالعهد الذي قطعه أخوه الحسن كان التزاماً صحيحاً لا مفتعلاً في ظاهره ؛ إذ لو كان راغباً في التنصّل من هذا الالتزام فما كان أسهله عليه لو تحجّج بأنّه لم يُسهم به ولم يكن راضياً عنه ، فيتجنّب الملامة .

ويدعم رأينا هذا بأنّ الحسين (عليه السّلام) كان ملتزماً فعلاً لا قولاً بموقفه من البيعة بعد موت أخيه ، وذَكَره للذين كتبوا له من شيعته بالعراق بأنّه ملتزم بالعقد مع معاوية ، ولا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ويموت معاوية ، وكأنّه يقول لهم : وبعد ذلك لكلّ حادث حديث .

وصحّ حدس الحسين (عليه السّلام) ، فها هو معاوية يلجأ أكثر من مرّة لاستباق الزمن ، واستغلال حرمة العهد في نفوس المسلمين ونفسه بالذات ، فيلوّح بها في أحد كتبه له ، مشيراً إلى نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي على الحكم الاُموي ، وكأنّه يخشى من قيامه بنقض هذا العهد وفضحه .

وقد كتب إليه قائلاً : أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، ولعمر الله إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ! وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَن كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوف ، فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الاُمّة(1) .

ـــــــــــــــ
(1) الإرشاد ـ الشيخ المفيد / 206 ، إعلام الورى / 20 ، وتاريخ الخلفاء ـ السيوطي/ 206 .

الصفحة (212)

ولنلاحظ في كتاب معاوية الرغبة في استباق الزمن ، والاحتراس مسبقاً من نقض العهد من قِبَل الحسين ؛ لذا فقد أسرع بالكتابة إليه ، حتّى إذا ما نقض العهد كان كتابه وثيقة تبرّر بطشه به أمام المسلمين ، الذين تثيرهم قضيّة العهد والثبات على الميثاق ، فيكون بذلك قد أسقط في يده سلفاً ، وأسقط الكرة في مرماه .

وفي كتاب آخر أرسله إليه يقول بلهجة مهدّدة : وقد اُنبئت أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق ممَّن قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله ، واذكر الميثاق(1) . في هذَين الكتابَين نلمح نقرأ مكثّفاً على وتر الميثاق ، ( إنّ مَن أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ) و ( اتّق الله واذكر الميثاق ) و ( ونفسك فاذكر وبعهد الله أوف ) .

وعلى الرغم من هذا التكتيك المقصود به تسجيل سابقة على الحسين فيما لو فكّر بنقض العهد ، فإنّ الحسين كان قد بدأ بردّ هذه الحرب النفسيّة في سلسلة كتب لمعاوية ضمّنها كلّ الشكوك والريبة التي كانت تعتمل في نفوس المسلمين وضمائرهم حيال ممارساته للسلطة ، وكانت هذه الكتب ( الردود ) إيذاناً ببدء التمهيد للثورة باُسلوب نفساني .

كان يقصد منها الحسين تعبئة النفوس بشكل نهائي ، وتفجير الخلاف بينه وبين معاوية ؛ كي لا يلام على أمرين , اُولاهما : على نقضه للميثاق ، وثانيهما : على السكوت أمام المباذل والانتهاكات التي كان يأتيها الخليفة المزعوم دون أن يرفع إصبع أمامه بالنقد .

بدأ الحسين بهذه الحرب بعد أن نمي إليه عزم معاوية على التمهيد للبيعة ليزيد ،

ـــــــــــــ
(1) ذكر فيليب حتّي في ( تاريخ العرب ) 2 / 252 أنّ أهل الكوفة كانوا قد بايعوا الحسين بعد موت أخيه ، بينما الواقعة الصحيحة تشير إلى عدم استجابة الحسين لهذه المبايعة .

الصفحة (213)

وبعد أن ورده كتابه بشأن الميثاق وذكره لِما نمي إليه في الشام بشأن قوم الكوفة الذين أنبؤوه بتحرّك شيعته في العراق ، وما كان من أمره معهم حينما دعاهم للتريّث والالتصاق بالأرض .

ولعلّ كتاب ( الردّ ) الذي بعث به الحسين لمعاوية يعتبر وثيقة تاريخيّة دامغة على عهد معاوية ، ومن الإغماط لها أن نختصرها أو نتحدّث عنها بصيغة الغائب في كتابنا هذا ، إذ إنّها صورة وافية موضّحة لشخصيّة معاوية وحُكمه كما رآهما وعاصرهما الحسين (عليه السّلام) ، ومن المناسب تثبيتها في هذا المتن ليطّلع عليها كلّ من يتوفّر على قراءة هذا الكتاب .

فمهما جهد المحلّلون والمؤرّخون في البحث عن مثالب معاوية فإنّهم لن يجمعوا معشار ما ثبّته الحسين في كتابه هذا . ومن جهة اُخرى فإنّ الكتاب يوضّح تماماً موقف مرسله من قضايا الحكم والانتهاكات التي يمارسها معاوية ، ويكشف في الوقت ذاته عن مدى نسبة تعاظم الخلاف بينهما في اُخريات أيّام معاوية ، قبل البيعة ليزيد بقليل ، وكيف كان موقف الحسين من هذه المسألة .

وفي الكتاب تفسير بيّن لسياسة التكتّم والصبر والانتظار التي كان يمارسها الحسين غير هيّاب ولا وجل ، والتي كان على استعداد لتحويلها في أيّة لحظة إلى نقيضتها في الجهر والإقدام على النقد ، والإشارة بالاتّهام المباشر ، البعيد عن التقيّة التي دعا إليها . وفي هذا مَثَل واضح على أصالة موقف الحسين ، وعلى عمق مبادئه القادرة على احتواء كافّة الأبعاد ، وهضم كافّة المتناقضات ، لتبدو أخيراً بالشكل الذي يبتغيه لها صاحبها .

كتب الحسين (عليه السّلام) لمعاوية يقول له في جرأة نادرة(1) : (( أمّا بعد , فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت عنّي اُمور أنت لي عنها راغب ،

ـــــــــــــــــ
(1) راجع الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة 1 / 284 ، وأخبار الرجال ـ لأبي عمرو الكشي ، واختيار الرجال ـ لأبي جعفر الطوسي / 32 .

شاهد أيضاً

الولايات المتحدة تعتزم إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في رفح

تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في مدينة رفح جنوبي قطاع ...