2 – [ على أبواب المسيح عليه السلام ]
1 – ” آل عمران “:
انقسم اليهود حول المسيح المنتظر، ففريق قال إنه يأتي من نسل يوسف. وقال آخرون إنه يأتي من نسل داوود، وذكر (ملاخى) أن الله جعل عهده في سبط (لاوي بن يعقوب). وذكر العهد القديم أن من أبناء لاوي (نحشوم) وولد له (عمرام) وولد لعمرام موسى وهارون ومريم (3) ومن هذا النسل اختار الله تعالى الهداة الذين يسوقون المسيرة الإسرائيلية إلى الصراط المستقيم.
____________
(1) المصدر السابق 4 / 1 – 6.
(2) أنظر كتاب بشارة نبي الإسلام / د. حجازي السقا.
(3) العدد 26 / 60.
|
الصفحة 115 |
|
ولقد كشف يهود أورشاليم برامجهم وثقافاتهم التي تدعو إلى انتظار ابن داوود الذي يعيد مملكة داوود التي تعتبر عنوانا لعهد الله لإبراهيم، وهذه البرامج والثقافات تخالف نصوص قطعية في العهد القديم حدد فيها من أي سبط يأتي المسيح المنتظر، وإذا نظر الباحث في نسل داوود كما جاء في العهد القديم، يجد أن فاتحة النسل جاءت من الزنا كما ذكر العهد القديم، فيهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه المسماة (ثامارا) وأنجب منها فارص، وفارص أنجب حصرون، وحصرون أنجب أرام، وأرام أنجب عميناداب، وعميناداب أنجب نحشون، ونحشون أنجب سلمون، وسلمون أنجب بوعز، وبوعز أنجب عوبيد، وعبيد أنجب يس، ويس أنجب داوود، ولما كانت المقدمة بها زنا كما ذكر العهد القديم، فإن هذه المقدمة لا تؤهل النسل في الدخول في جماعة الرب كما ذكر العهد القديم أيضا، وهو قوله ” لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. لا يدخل منه أحد في جماعة الرب ” (1).
وعندما بعث المسيح بن مريم عليهما السلام. وهو من نسل (عجرام) كما سنبين في موضعه. كانت ثقافة التفسير الشفهي للتوراة تغمر الساحة وتمد أتباعها بوقود انتظار بن داوود، وعندما لم يأت المسيح لليهود بما تشتهي أنفسهم رفضوه وتآمروا عليه، وبعد عصر المسيح عليه السلام أراد النصارى إثبات دعوة المسيح أمام اليهود، فألحقوا المسيح بنسل داوود، ليجعلوا اليهود بهذا الالحاق من الخارجين على المسيح عليه السلام، وترتب على هذا الالحاق إشكال، هو أنهم جعلوا للمسيح عليه السلام أربعة أجداد من الزنا، ومن كان كذلك فقد خرج من حزب الله كما صرح العهد القديم، والأجداد
____________
(1) تثنية 23 / 1 – 2.
|
الصفحة 116 |
|
الأربعة هم: مؤاب. فارص. بن عمي. سليمان، (أما مؤاب وبن عمى) فهما ابنا لوط. ذكر العهد القديم. أن لوطا زنا سكرانا بابنتيه فولدت له الكبرى مؤاب وولدت الصغرى بن عمى (1)، ومن الأول جاء الموابيون ومن الثاني جاء العمونيون، والعهد القديم يقول (لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد ” (2) (وأما فارص) فولد من ثامارا بعد أن زنى بها يهوذا (3) (وأما سليمان) فولد من بت شبع امرأة أوريا حيث زنا بها داوود (4) – وحاشاه! والعهد القديم يقول ” لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ” (5).
فوقها لهذه النصوص يكون الذين ألحقوا المسيح عليه السلام بنسل داوود، قد أخرجوه في الحقيقة من جماعة الرب إلا الأبد، لأنه لا يدخل جماعة الرب كل ولد زنا ولا سيما المؤابيين وبني عمي وهو منهما، ومما يزيد الإشكال إشكالا أنهم على الرغم من هذا النسب اعتبروا المسيح عليه السلام ابنا لله أو إلها متجسدا في الناسوت وتلك مصيبة كبرى.
وفي إشكال نسب المسيح يقول موريس بوكاي: تطرح شجرتا النسب اللتان يحتوي عليهما إنجيلا متي ولوقا، مشاكل تتعلق بالمعقولية وبالاتفاق مع المعطيات العلمية، ومن هنا فهي مشاكل تتعلق بالصحة، وهي مشاكل تحرج جدا المعلقين المسيحيين.. وبادئ ذي بدء يجب ملاحظة أن هذين النسبين من جهة الرجال كما ذكر إنجيلا متي ولوقا،
____________
(1) تكوين 19 / 30 – 38.
(2) تثنية 23 / 2 – 3.
(3) تكوين 38 / 6 – 0 3.
(4) صموئيل 12 / 7 – 23.
(5) تثنية 23 / 1 – 2.
|
الصفحة 117 |
|
معدوم المعنى فيما يتعلق بالمسيح، ولو كان من الضروري إعطاء المسيح نسبا وهو وحيد مريم أمه وليس له أب بيولوجي، فيجب أن يكون ذلك النسب من جهة مريم فقط (1).
ولقد تضارب إنجيل متي مع إنجيل لوقا في نسب المسيح إلى داوود، فبينما يذكر متي أن من داوود إلى المسيح 26 جيلا، يذكر لوقا إنه 41 جيلا، وبينما يذكر متي أن يوسف النجار ابن يعقوب، يذكر لوقا إنه ابن هالي، وبينما يذكر متي أن المسيح من ولد سليمان بن داوود، يذكر لوقا إنه من ولد ناثان بن داوود، وبينما يذكر متي أن شلتائيل ابن يكنيا، يذكر لوقا إنه ابن نيري، وبينما يذكر متي أن ابن زور بابل يدعى أبيهود، يذكر لوقا إنه يدعى ريسا (2). وبالجملة: النسب في العهد القديم به ولد زنا، والنصوص القاطعة تفيد أن من جاء من هذا الطريق لا يدخل جماعة الرب، وبعد بعثة المسيح انطلق متي ولوقا في إنجيل كل منهما. من دائرة المسيح إلى دائرة نسب داوود التي ذكرها العهد القديم، لإثبات أن المسيح بن مريم عليه السلام. هو ابن داوود المذكور عند اليهود. فجاء الانطلاق من دائرة إلى دائرة محرجا أمام النصوص.
والقرآن الكريم ينسب المسيح إلى أمه نسبة الولادة، وينسبه إلى الله نسبة الخلقة، ولقد طهر الله تعالى المسيح عن العهر عبر الأصلاب والأرحام وعما ينافي الطهارة إطلاقا بكلمة واحدة، وهي قوله عند ولادته (وجعلني مباركا أينما كنت) (3) أي أينما كنت قبل الولادة في رحم أمي وجداتي حتى أمي الأولى حواء، وفي صلب أبيها والآباء حتى
____________
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / موريس بوكاي ص 105.
(2) أنظر متي الإصحاح الأول، لوقا الإصحاح الثالث.
(3) سورة مريم آية 31.
|
الصفحة 118 |
|
آدم الأول، فقد كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسني الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسني من مدلهمات ثيابها، فقد كنت مباركا أينما كنت وحيثما كنت، لم أر صلب زان ولا رحم زانية، أو صلب مشرك جهول ورحم مشركة.
وجميع الأنبياء والرسل خرجوا من شجرة واحدة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد اصطفى الله الأنبياء وآلهم على العالمين كما في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (1) اصطفى سبحانه آدم عليه السلام لأنه أول خليفة له في الأرض، واصطفى نوح عليه السلام لأنه أول الخمسة أولي العزم من الرسل، وهو أيضا الأب الثاني للنوع الإنساني بعد الطوفان، لقوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) (2) واصطفى سبحانه آل إبراهيم. وهم إسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل عليهم السلام. وإسماعيل والطاهر من ذريته وسيدهم محمد (ص)، وقد جاء ذكره في دعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما قواعد بيت الله الحرام بمكة. (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) إلى قوله تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (3) واصطفى الله آل عمران. وآل عمران من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولكن الله أفردهم في آية الاصطفاء ليكون في هذا إشارة بأن الله تعالى قدمهم على الناس في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
وآية الاصطفاء في خطوطها العريضة إعلان للبشر بأن هؤلاء
____________
(1) سورة آل عمران آية 33.
(2) سورة الصافات آية 77.
(3) سورة البقرة آية 129.
|
الصفحة 119 |
|
الطيبين الذين خصهم الله والحق بهم من اختارهم، هم في الحقيقة خير أمة أخرجت للجنس البشري. ليقودوه على فترات إلى صراط الله العزيز الحميد، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية كان عهد الله في سبط (لاوي) وذروة هذا السبط هو عمرام، وولد لعمرام موسى وهارون ومريم كما ذكر العهد القديم، وأمر الله بني إسرائيل بالطاعة لكهانة هارون ومن بعده لكهانة بنيه، وعلى امتداد المسيرة امتحن الله تعالى بني إسرائيل بهذه الذرية وبجملة عهوده ووصاياه تعالى، وشاء الله أن تختتم المسيرة بآل عمران، فجاءت الخاتمة يحمل عمودها الفقري نفس الأسماء التي وردت في المقدمة، لعل القافلة أن تتذكر وتنصت إلى أقوال ملاخى وغيره، ولا تلتفت لأقوال الفرق العديدة التي أفرزها التفسير الشفهي للتوراة.
إن المقدمة جاء ذكرها في العهد القديم. بقوله ” إن امرأة عمرام يوكابد. ولدت لعمرام هارون وموسى ومريم ” (1) أما الخاتمة فقد جاء ذكرها في القرآن في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) (2) وقال تعالى: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) (3) فالخاتمة أمام اليهود تحمل عناوين المقدمة، واليهود كانوا يعلمون أن مريم بنت عمران في حاضرهم تنتسب إلى عمران في ماضيهم. لكنهم ركبوا مراكب الاستكبار، ومن الدليل على ذلك. أن التشريع الوارد في سفر العدد.
يحتم أن تتزوج كل بنت من أسراتها إن أرادت الزواج من يهودي، لقوله ” وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل، تكون امرأة لواحد من عشرة سبط أبيها، لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب
____________
(1) العدد 26 / 60.
سورة آل عمران آية 35.
سورة التحريم آية 12.
|
الصفحة 120 |
|
آبائه ” (1) أي إن من هو من سبط روابين مثلا. يتزوج من سبطه ولا يتزوج من سبط شمعون. وهكذا، والنبي زكريا طبقا للشريعة تزوج من امرأة من بنات هارون فقد جاء في الإنجيل ” كان في أيام هيرودوس ملك اليهودية. كاهن اسمه زكريا من فرقة إبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات ” (2) والعذراء مريم أم المسيح عليهما السلام. يحكي لوقا إنها كانت قريبة لأليصابات، ومعنى ذلك إنها تكون من نفس السبط الذي منه اليصابات، ولما ثبت أن اليصابات من بنات هارون. فإنه يثبت بالضرورة أن مريم عليها السلام من بنات هارون.
ومن الدليل أيضا على أن اليهود كانوا يعرفون حقيقة النسب، أنهم أفسحوا للمسيح الطريق ليلقي بمواعظه داخل الهيكل. ذكر يوحنا: أن المسيح حضر إلى الهيكل. وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم (3).
وذكر لوقا: دخل المسيح المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ (4) وما كان اليهود ليسمحوا بذلك إلا لعلمهم أن المسيح الذي تربت أمه في الهيكل بعد أن كفلها زكريا الذي ينسب لهارون. يحمل العلم الذي علموا موضعه على امتداد المسيرة والقرآن الكريم أخبر في آياته أن اليهود كانوا يعرفون هذا. وأن الحجة قامت عليهم بما علموا وبما قدمه المسيح وحمله إليهم، وقال تعالى بعد أن وضعت العذراء ولدها (فأتت به قومها تحمله. قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) (5) قال صاحب الكشاف: قوله ” يا أخت هارون ” إنما عنى هارون النبي، وكانت من أعقابه في طبقة
____________
(1) العدد 36 / 8.
(2) لوقا 1 / 5.
(3) يوحنا 8 / 1 – 6.
(4) لوقا 4 / 16.
(5) سورة مريم آية 27.
|
الصفحة 121 |
|
الأخوة، وعن أبي طلحة والسدي في قوله ” يا أخت هارون ” أي أخي موسى. وكانت من نسله (1).
لقد كانت شرافة النسب تقتضي القول: أنها أخت موسى لا هارون، لأفضلية موسى على هارون، ولكن جاء انتسابها لهارون دون أبيها عمران ودون موسى. لتكون الحجة عليهم دافعة وهم يتلون الكتاب ويفسرونه التفسير الذي لا يقره أبناء هارون.
والخلاصة: لقد وضع اليهود النسب الذي يتفق مع أهوائهم، ثم شيدوا على هذا النسب فتن لا تقود إلا إلى الدجال، ولقد بينت الرسالة الخاتمة أن للدجال كنى وأسماء تستقيم مع فتنته. منها: ابن داوود، أبو يوسف (2) والنصارى الذين دونوا نسب المسيح لم يلتفتوا إلى أن المسيح ليس له أب بيولوجي، وأن نسبته إلى يوسف النجار لا جدوى من ورائها، لأن النسب يجب أن يكون من جهة العذراء فقط، لكنهم عملوا خلاف ذلك، واتبعوا النسب الذي وضعه اليهود، اعتقادا منهم أن متابعة اليهود في هذا، فيه إدانة لليهود الذين لم يؤمنوا بدعوة المسيح عليه السلام، ولكن هذا النسب الذي تجاهل سبط لاوي الذي على ذروته آل عمران، قاد الذين ينتظرون المسيح ابن داوود أو المسيح ابن يوسف، إلى فتنة وصفتها الرسالة الخاتمة بأنها أعظم فتنة منذ ذرأ الله ذرية آدم.