نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٤١ – ٦٠
شرائط الرؤية
البحث الثاني: في شرائط الرؤية(١) أطبق العقلاء بأسرهم عدا الأشاعرة، على أن الرؤية مشروطة بأمور ثمانية:
الأول: سلامة الحاسة.
الثاني: المقابلة أو حكمها، في الأعراض، والصور في المرايا فلا تبصر شيئا لا يكون مقابلا، ولا في حكم المقابل.
الثالث: عدم القرب المفرط، فإن الجسم لو التسق بالعين، لم يمكن رؤيته.
الرابع: عدم البعد المفرط، فإن البعد إذا أفرط، لم يمكن الرؤية.
الخامس: عدم الحجاب فإنه مع وجود الحجاب بين الرائي والمرئي، لا يمكن الرؤية.
السادس: عدم الشفافية، فإن الجسم الشفاف، الذي لا لون له، كالهواء. لا يمكن رؤيته.
وحكموا بذلك حكما ضروريا، لا يرتابون فيه.
وخالف الأشاعرة (١) في ذلك جميع العقلاء، من المتكلمين والفلاسفة، ولم يجعلوا للرؤية شرطا من هذه الشرائط، وهو مكابرة محضة، لا يشك فيها عاقل.
في وجوب الرؤية عند حصول شروطها
البحث الثالث: في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط، أجمع العقلاء كافة، عدا الأشاعرة على ذلك، للضرورة القاضية به، فإن عاقلا من العقلاء لا يشك في حصول الرؤية عند استجماع شرائطها.
وخالفت الأشاعرة (٢)، جميع العقلاء في ذلك، وارتكبوا السفسطة فيه، وجوزوا أن يكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة من الأرض إلى عنان السماء، محيطة بنا من جميع الجوانب، ملاسقة لنا، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة، مضيئة ظاهرة غاية الظهور، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ولا نشاهدها، ولا نبصرها، ولا شيئا منها البتة.
وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة، تملأ أقطار الأرض بحيث يدعج
(يتزعزع ظ) منها، كل أحد يسمعها أشد ما يكون من الأصوات، وحواسنا سليمة، ولا حجاب بيننا، ولا بعد البتة، بل هي في غاية القرب منا، ولا نسمعها، ولا نحس بها أصلا، وكذا إذا لمس أحد بباطن كفه حديدة محمية بالنار حتى تبيض، ولا يحس بحرارتها، بل يرمى في تنور أذيب فيه الرصاص أو الزيت، وهو لا يشاهد التنور، ولا الرصاص
في امتناع الادراك مع فقد الشرائط
البحث الرابع: في امتناع الادراك عند فقد الشرائط.
والأشاعرة خالفوا جميع العقلاء في ذلك، وجوزوا الادراك مع فقد جميع الشرائط، فجوزوا في الأعمى إذا كان في المشرق أن يشاهد ويبصر النملة السوداء الصغيرة على الصخرة السوداء في طرف المغرب في الليل المظلم، وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد، وبينهما حجب جميع الجبال والحيطان.
ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت، يسمع وهو في طرف المغرب (٢) وكفى من اعتقد ذلك نقصا، ومكابرة للضرورة، ودخولا في السفسطة هذا اعتقادهم وكيف من يجوز لعاقل أن يقلد من كان هذا اعتقاده.
وما أعجب حالهم يمنعون من مشاهدة أعظم الأجسام قدرا، وأشدها لونا وإشراقا، وأقربها إلينا مع ارتفاع الموانع، وحصول الشرائط، ومن سماع الأصوات الهائلة القريبة، ويجوزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلمة الشديدة، وبينهما غاية البعد، وكذا في السماع، فهل بلغ أحد من السوفسطائية في إنكارهم المحسوسات إلى هذه الغاية، ووصل إلى هذه النهاية؟.
(٢) شرح التجريد للقوشجي – ص ٢٣٩.
وقال بعض الفضلاء ونعم ما قال: كل عاقل جرب الأمور، فإنه لا يشك في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدة مديدة حتى تنفصل أعضاؤه، ومحال أن يكون أهل بغداد على كثرتهم، وصحة حواسهم، يجوز عليهم جيش عظيم، ويقتلون، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة، ويرتفع الريح، وتشتد الأصوات، ولا يشاهد ذلك أحد منهم، ولا يسمعه! ومحال أن يرفع أهل الأرض بأجمعهم أبصارهم إلى السماء، ولا يشاهدونها!. ومحال أن يكون في السماء ألف شمس كل واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ولا يشاهدونها!. ومحال أن يكون لانسان واحد مشاهد أن عليه رأسا واحدا، ألف رأس لا يشاهدونها، وكل واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه. ومحال أن يخبر أحد بأعلى صوته ألف مرة، بمحضر ألف نفس، كل واحد منهم يسمع جميع ما يقوله بأن زيدا ما قام، ويكون قد أخبر بالنفي، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي.
مع تكرره ألف مرة، وسماع كل واحد منهم جميع ما قاله، بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنا حال خروجنا من منازلنا، لا تنقلب
ومن أعجب الأشياء تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء، مع عدم الحايل السابق، وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر، وهل هذا إلا عدم تعقل من قائله؟.
هل يحصل الادراك لمعنى في المدرك
البحث السادس: في أن الادراك ليس لمعنى.
والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا، لزمهم بواسطته إنكار الضروريات. فإن العقلاء بأسرهم قالوا: ” إن صفة الادراك تصدر عن كون الواحد منا حيا لا آفة به “.
والأشاعرة قالوا: إن الادراك إنما يحصل لمعنى حصل في المدرك، فإن حصل ذلك المعنى للمدرك حصل الادراك، وإن فقدت جميع الشرائط،
وعندهم أن كل موجود يصح رؤيته ويتسلسل، لأن رؤية الشئ إنما تكون بمعنى آخر. وأي عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم، والرايحة، والحرارة، والبرودة، والصوت بالعين، وجواز لمس العلم والقدرة، والطعم، والرايحة، والصوت باليد، وذوقها باللسان، وشمها بالأنف، وسماعها بالأذن، وهل هذا إلا مجرد سفسطة، وإنكار المحسوسات، ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!.
أنه تعالى لا يرى
البحث السابع: في أنه تعالى يستحيل رؤيته.
لم نطول الكلام بنقل مثل هذه الطامات، بل أوجب الله تعالى علينا إهداء العامة بقوله تعالى: ” ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ” (٢)، ” فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ” (٣).
(٢) التوبة: ١٢٢.
(٣) الإسراء: ١٥.
المسألة الثانية
في النظر
وفي المسألة مباحث
العلم بالنتيجة واجب بعد المقدمتين
البحث الأول: في أن النظر الصحيح يستلزم العلم. الضرورة قاضية بأن كل من عرف بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الاثنين نصف الأربعة، فإنه يعلم أن الواحد نصف نصف الأربعة. وهذا الحكم لا يمكن الشك فيه، ولا يجوز تخلفه عن المقدمتين السابقتين. وأنه لا يحصل من تلك المقدمتين:
أن العالم حادث، ولا أن النفس جوهر، أو أن الحاصل أولا أولى من حصول هذين.
وخالفت الأشاعرة، كافة العقلاء في ذلك (١). فلم يوجبوا حصول العلم عند حصول المقدمتين. وجعلوا حصول العلم عقيب المقدمتين اتفاقيا، يمكن أن يحصل، وأن لا يحصل. ولا فرق بين حصول العلم، بأن الواحد نصف الأربعة، عقيب قولنا: الواحد نصف الاثنين،
وأي عاقل يرتضي لنفسه اعتقاد: أن من علم أن الواحد نصف الاثنين، وأن الاثنين نصف الأربعة، يحصل له علم أن العالم محدث، وأن من علم: أن العالم متغير. وكل متغير محدث، يحصل له العلم بأن الواحد نصف نصف الأربعة، وأن زيدا يأكل، ولا يحصل له العلم بأن العالم محدث، وهل هذا إلا عين السفسطة؟.
النظر واجب بالعقل لا بالسمع
البحث الثاني: في أن النظر واجب بالعقل.
والحق أن مدرك وجوب النظر عقلي، لا سمعي، وإن كان السمع قد دل عليه أيضا، بقوله: ” قل انظروا.. ” (١) وقالت الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء، وظهور المعاندين عليهم، وهم معذورون في تكذيبهم، مع أن الله تعالى قال: ” لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ” (٢) فقالوا: إنه واجب بالسمع لا بالعقل (٣)، وليس يجب بالعقل شئ البتة.
فليزمهم إفحام الأنبياء، واندحاض (٤) حجتهم، لأن النبي إذا جاء إلى المكلف، وأمره بتصديقه واتباعه، لم يجب عليه ذلك إلا مع العلم
(٣) كما قرره الفضل في المقام بقوله: ” فعند الأشاعرة طريق ثبوته بالسمع. وليراجع الملل والنمل – ج ١ ص ١٠١.
(٤) الاندحاض: البطلان.
ومنها: أنه تعالى فعله لغرض التصديق.
ومنها: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق، ولكن العلم بصدقه حيث توقف على هذه المقدمات النظرية، لم يكن ضروريا، بل كان نظريا، فللمكلف أن يقول: لا أعرف صدقك إلا بالنظر، والنظر لا أفعله، إلا إذا وجب علي، وعرفت وجوبه. ولم أعرف وجوبه إلا بقولك، وقولك ليس حجة علي قبل العلم بصدقك فتنقطع حجة النبي صلى الله عليه وآله، ولا يبقى له جواب يخلص به، فينتفي فائدة بعثة الرسل، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم، ويكون المخالف لهم معذورا، وهذا هو عين الالحاد والكفر. نعوذ بالله منه.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه: هل يجوز له اتباع من يؤدي مذهبه إلى الكفر؟، وإنما قلنا بوجوب النظر لأنه دافع الخوف، ودفع الخوف واجب بالضرورة.
المعرفة واجبة بالعقل
البحث الثالث: إن معرفة الله تعالى واجبة بالعقل. الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان السمع قد دل عليه بقوله:
” فاعلم أنه لا إله إلا الله ” (١) لأن شكر المنعم واجب بالضرورة، وآثار النعمة علينا ظاهرة، فيجب أن نشكر فاعلها، وإنما يحصل بمعرفته، ولأن معرفة الله تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة.
وأيضا لو كانت المعرفة إنما تجب بالأمر، لكان الأمر بها إما أن يتوجه إلى العارف بالله تعالى، أو إلى غير العارف، والقسمان بإطلاق. فتعليل الايجاب بالأمر المحال. أما بطلان الأول، فلأنه يلزم منه تحصيل الحاصل، وهو محال. وأما بطلان الثاني: فلأن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعرف: أن الله قد أمره، وأن امتثال أمره واجب، وإذا استحال أن يعرف أن الله تعالى قد أمره، وأن امتثال أمره واجب استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق. وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة
في صفاته تعالى
وفيها مباحث
الله تعالى قادر، على كل مقدور:
البحث الأول: إنه تعالى قادر على كل مقدور. الحق ذلك، لأن المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور هو الامكان، فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات.
وخالفت في ذلك جماعة من الجمهور. فقال بعضهم: إن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد. وقال آخرون: إنه تعالى لا يقدر على غير مقدور العبد. وقال آخرون: إنه تعالى لا يقدر على القبيح. وقال الآخرون:
إنه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلق بما علمناه مكتسبا (١).
(راجع: شرح العقائد، وحاشية الكستلي ص ٧، وشرح التجريد للعلامة ص ٢١٩.
والرابع قول معمر بن عبد الله، رئيس المعمرية من المعتزلة، وعباد بن سليمان تلميذ هشام الفوطي، على ما يظهر من الملل والنحل ج ١ ص ٦٦، ومقالات الإسلاميين ج ٢ ص ٥٤٨، والفصل لابن حزم.
الله تعالى مخالف لغيره
البحث الثاني: في أنه تعالى مخالف لغيره بذاته.
العقل والسمع تطابقا على عدم ما يشبهه تعالى، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته.
وذهب أبو هاشم من الجمهور وأتباعه: إلى أنه يخالف ما عداه بصفة الإلهية، وأن ذاته مساوية لغيره من الذوات (١).
وقد كابر الضرورة ها هنا الحاكمة بأن الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد، لا يجوز اختلافها فيه، فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات لساواها في اللوازم، فيكون القدم، والحدوث، والتجرد، والمقارنة إلى غير ذلك من اللوازم مشتركا بينها وبين الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ثم إنهم ذهبوا (٢) مذهبا غريبا عجيبا، وهو أن هذه الصفة الموجبة للمخالفة غير معلومة، ولا مجهولة، ولا موجودة، ولا معدومة. وهذا كلام غير معقول في غاية السقوط.
إنه تعالى ليس بجسم
البحث الثالث: في أنه تعالى ليس بجسم.
أطبق العقلاء على ذلك إلا أهل الظاهر، كداود، والحنابلة كافة، فإنهم قالوا: إنه تعالى جسم يجلس على العرش، ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره، وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار، وينادي إلى الصباح:
” هل من تائب، هل من مستغفر؟ ” (١) وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها (٢).
(٢) غير خفي على أولي الألباب: أن أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة، كان معتقدا بأن الله جسم، وله أعضاء: كاليد، والوجه، والعين. ويتمسك لذلك بظواهر الآيات المتشابهة، وهكذا قال مالك بن أنس إمام المالكية: (راجع: الملل والنحل ج ١ ص ٩٣ و ١٠٤). وقال الزمخشري في الكشاف ج ٣ ص ٣٠١:
فإن حنبليا قلت قالوا بأنني | ثقيل حلولي بغيض مجسم |
قال ابن الأثير الجزري في تأريخه الكامل ج ٦ ص ٢٤٨، تحت عنوان: ” ذكر فتنة الحنابلة ببغداد “. (وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم.. (إلى أن قال): فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة، ينكر عليهم فعلهم، ويوبخهم باعتقاد التشبيه، وغيره، فمنه: تارة أنكم تزعمون: أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون: الكف، والأصابع، والرجلين، والنعلين المذهبين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم طعنكم على خيار الأئمة، ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله إلى الكفر والضلال، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة، والمذاهب الفاجرة، التي لا يشهد بها القرآن).
هذا… وكتب الحنابلة مشحونة بهذه الخرافات في الأمور الاعتقادية، حتى أن أبا الحسن الأشعري، رئيس الأشاعرة، تبعا لقدوته أحمد بن حنبل قد عقد أبوابا لهذه المناكير، في كتابه: ” الإبانة في أصول الديانة ص ٣٦ إلى ٥٥. وذهب إلى هذا المذهب الوهابيون، وقدوتهم ابن تيمية (راجع: العقيدة الحموية، في ضمن مجموعة الرسائل ج ١ ص ٤٢٩، ومنهاج السنة ج ٢ ص ٢٤٠ إلى ٢٧٨، والرسائل الخمس المسمى بالهدية السنية ص ٩٧، ٩٩، وفي الرسالة الخامسة ص ١٠٥.
فلينصف العاقل المقلد من نفسه، هل يجوز له تقليد هؤلاء في شئ؟.
وهل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الكاذبة والاعتقادات الفاسدة؟؟
وهل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شئ البتة؟.
إنه تعالى ليس في جهة
المبحث الرابع: في أنه تعالى ليس في جهة.
إنه تعالى لا يتحد بغيره
المبحث الخامس: في أنه تعالى لا يتحد بغيره.
الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد، فإنه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا.
وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور، فحكموا بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين، حتى أن بعضهم قال: إنه تعالى نفس الوجود، وكل موجود هو الله تعالى!.
وهذا عين الكفر والالحاد.
والحمد لله الذي فضلنا باتباع أهل البيت دون أهل الأهواء (٢) الباطلة.
الإبانة في أصول الديانة ص ٣٦ إلى ٥٥). وذهب أيضا إلى ذلك المذهب فرقة الوهابية، وقدوتهم ابن تيمية (راجع: رسالة العقيدة الحموية ج ١ ص ٤٢٩ لابن تيمية، والهدية السنية ص ٩٧، والرسالة الخامسة منها ص ١٠٥ لعبد اللطيف، حفيد محمد بن عبد الوهاب).
(٢) قال القوشجي في شرح التجريد: وذهب بعض المتصوفة إلى أنه يحل في العارفين… كما قال العارف البلجرامي في كتابه: ” سبحة المرجان “:
إنما الخلق مظهر الباري | هو في كل جزئه ساري |
وقال الآخر منهم:
أنا من أهوى ومن أهوي أنا | نحن روحان حللنا بدنا |
وأقول: كتبهم مشحونة بهذه الخرافات، فإن شئت الاطلاع عليها بالتفصيل، فراجع:
ديوان الشيخ ابن الفارض، لا سيما قصيدته التائية واليائية، ورسائل الشيخ عطار، وغيرها.
إنه تعالى لا يحل في غيره
المبحث السادس: أنه تعالى لا يحل في غيره.
من المعلوم القطعي أن الحال مفتقر إلى المحل، والضرورة قضت بأن كل مفتقر إلى الغير ممكن، فلو كان الله تعالى حالا في غيره لزم إمكانه، فلا يكون واجبا، هذا خلف.
وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك، وجوزوا عليه الحلول في أبدان العارفين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فانظروا إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم: كيف اعتقادهم في ربهم؟ وتجويزهم تارة الحلول، وأخرى الاتحاد، وعبادتهم الرقص، والتصفيق، والغناء (١). وقد عاب الله تعالى على الجاهلية الكفار في ذلك، فقال عز من قائل: ” وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ” (٢) وأي غافل أبلغ من تغفل من يتبرك بمن يتعبد الله بما عاب به الكفار؟
” فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ” (٣).
ولقد شاهدت جماعة من الصوفية، في حضرة مولانا الحسين عليه السلام، وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم، كان جالسا لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل، أيجوز أن يجعل بينه وبين الله تعالى حاجبا؟! فقلت: لا، فقال: الصلاة
(٣) الحج: ٤٦.
حقيقة الكلام
البحث الرابع: في أنه تعالى متكلم، وفيه مطالب:
المطلب الأول: في حقيقة الكلام. الكلام عند العقلاء عبارة عن المؤلف من الحروف المسموعة (٣).
(٢) قال الجامي في نفحات الأنس: الأبدال صنف من أولياء الله، دون مرتبة القطب، ومأمورون بأمور الخلق. وقال الهجويري: عددهم في كل عصر أربعين. وقال القيصري: إنهم بواسطة تعريهم عن قيود المادية، ورفع حجب ظلمتها يتشكلون بأشكال مختلفة وإنهم واصلون بالحق، ومن روحانيات المحض.
(٣) لا يخفى: أنه إذا صدر الكلام من المتكلم، فلا يتصور، ولا شئ هناك إلا أمور ستة، الأول: صدور الصوت والحروف عنه. الثاني: علمه بما تكلم به. الثالث: تصور النسبة بين الموضوع والمحمول. الرابع: وجود الرابط اللفظي بينهما. الخامس: توجه السامع لمعاني كلام المتكلم. السادس: فهمه لمراد المتكلم من كلامه، والخامس والسادس ليسا كلاما بالاتفاق. والأمور الباقية غير الأول لا تسمى كلاما أيضا، لأنها إما تصور الرابط، أو النسبة الواقعية واللاواقعية، وأما العلم، أو الإرادة، أو مجرد الوهم والخيال، وليس وراءها شئ يسمى كلاما نفسيا.
ومن الواضح أن الكلام النفسي، الذي يعنونه في الخبر مخالف للثاني، والثالث، لأنه بإقرارهم غير العلم والإرادة، والوهم والخيال، وغير تصور الأطراف والعلم بالنسبة.
ومخالف للرابع، لأن مفردات اللفظ والرابط أمور خارجية غير قديمة، وهكذا معانيها غالبا، فبالضرورة والوجدان يعلم أن الكلام ليس إلا الأمر الأول، وهو كيف عرض محسوس بالسمع، فلا يكون كلام النفسي معقولا.