الرئيسية / تقاريـــر / استراتيجيات الخداع الأميركي.. وحتمية المواجهة

استراتيجيات الخداع الأميركي.. وحتمية المواجهة

استراتيجيات الخداع الأميركي.. وحتمية المواجهة

15/09/2022

استراتيجيات الخداع الأميركي.. وحتمية المواجهة

أحمد فؤاد

“وسوى الرومِ خلفَ ظهرك رومٌ
فعلى أيّ جانبيك تميلُ” – المتنبي

في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الجيوش السوفييتية تكتسح ألمانيا النازية من الشرق، والحلفاء يكنسون بقايا جيوشها من الغرب، كانت لدى القوات الأميركية -آخر قوة دخلت الحرب وأكثرها استفادة منها- مهمة أخرى تمامًا، جرت بعيدًا عن كل العيون، وكانت تؤسس لعصر أميركي جديد. نقلت الولايات المتحدة إلى أراضيها كل ما أمكنها من منجزات علمية وتقنية ألمانية، من الطائرة النفاثة الأحدث والأرقى “ميسرشميت 262″، إلى مشروعات القاذفات بعيدة المدى، ودرة التاج في المشروعات العسكرية النازية، الصاروخ “في 2″، وأطلق الأميركيون على عمليتهم “أوفر كاست”، وهو معسكر تجميع العلماء والتقنيين الألمان في بافاريا، قبل نقلهم إلى الولايات المتحدة.

ورغم النجاح الأميركي الساحق في نقل كل ما أمكنها نقله من منجزات علمية وعسكرية، واستنساخ مشروعات بعضها لم يكن قد اكتمل بعد، إلا أن البحث الأميركي ركز في جانب كبير منه على تأثير آلة الدعاية النازية، فائقة القدرة والتأثير، والتي مكنت جوزيف غوبلز وزير البروباجندا، من القيادة والتحكم في شعب يتمتع بقدر جيد من التعليم والثقافة والاطلاع، وحولهم إلى تروس صغيرة في المشروع النازي، منذ البداية وحتى آخر لحظة في الحرب العالمية الثانية.

وببساطة غير مخلة، فإن جوزيف غوبلز قام بما يمكن وصفه اليوم بخلط التسويق بالسياسة، لينتج في النهاية جهازًا دعائيًا جبارًا، قادرًا على تقديم الإجابات عن سؤال المستقبل الصعب، وهو أكثر ما يؤرق المجتمعات، خصوصًا التي تفرض عليها الظروف تحديات ضخمة وخارج حدودها. وبعكس الدعاية السوفييتية الشيوعية، والتي كان غوبلز يراها متخلفة لاعتمادها على توصيل رسالتها للمستمع والمشاهد بشكل مباشر وفج، فإن غوبلز خلط الترفيه بالرسالة، وهي محاولة كانت رائدة في نجاحها وحجم جمهورها وقدرتها على الإقناع.

ومن حيث انتهى النازيون، بدأ الأميركي صراعه مع الحليف السوفييتي مبكرًا جدًا، وحتى قبل أن تضع الحرب أوزارها تمامًا، وبدأ في إنشاء واستهداف الإيديولوجيا الشيوعية، عبر برامج متكاملة من نشر الشائعات واستخدام التلفاز والراديو على أوسع نطاق، وتوسيع الإنتاج التلفزيوني، والذي يقدم الرسائل المبطنة والمضامين الرمزية عن التفوق الأميركي وقيم الحرية والعدالة في مقابل التخلف السوفييتي وجموده.
..
وكان كل تقدير موقف للصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يؤكد أنه حتمي، لكنه لا يمكن أن يدور في ميادين القتال، لأنه في تلك الحالة معرّض في أية لحظة للتصاعد إلى المستوى النووي، وذلك وضع فوق قدرة أي طرف فيهما على تصوره، وحتى إن نجح أحد الطرفين في تكديس رؤوس نووية أكثر وأكبر، أو امتلاك صورايخ أبعد وأدق، فإن الردع النووي المتبادل يستطيع كسر الفاصل بين النصر والهزيمة، بدمار مروع للطرفين، حيث الهزيمة فيه موت بالكامل، والنصر فيه ثلاثة أرباع موت، وهو احتمال يمنع الصدام العسكري، لكنه ينقل الصراع إلى مجالات أخرى للتأثير على المحيط واختراق المجتمعات، وكل هذا ممكن عبر الدعاية.

وبالفعل صنع الأميركي آلة الدعاية الخاصة به، بالتوافق مع قيم مجتمعه، التي تقدس القوة وتحترم العنف وتبجل الاعتداء والقرصنة، وجعلها حساب التكاليف تقرر اعتماد إستراتيجية هجومية ضد المد الشيوعي، ترتكز على أن تأخذ زمام المبادأة، وتضرب أولًا، وتختار هي التوقيت ولا تنتظر أن يفرضه غيره عليها، وذلك لتجنب أي خسائر أو أعراض لهجوم سوفييتي عليها، سوف يمكنها رده وإحباطه، لكنه سوف يستوفي ضرائبه قبل حرمانه من تحقيق مطالبه.

وأضاف الأميركيون كذلك الكثير إلى إستراتيجية غوبلز، باستخدام علم النفس الاجتماعي ودراسة السلوك المجتمعي، وفي هذا الإطار تبرز نظرية الامتثال الاجتماعي، أو “تجربة آش”، والتي قام بها عالم النفس -البولندي الأصل- سولومون آش، لإثبات أن الأغلبية الساحقة قد تتخذ قرارًا بتقبل الكذبة الواضحة، لو وضع بينهم نسبة قليلة من المتعاونين.

وتجربة آش هي تجربة نفسية أجريت على مجموعة من المشاركين، بعضهم كان متعاونًا مع الباحث، حيث عرض “آش” ورقتين على المجموعة، في الأولى رسم 3 خطوط أطوالها مختلفة، وخط وحيد في الورقة التانية، وطلب منهم معرفة أي من الخطوط الثلاثة المنفصلة يساوي طول الخط الوحيد بالورقة الأخرى، وكانت النتيجة مذهلة.

قررت الأغلبية المشاركة في تجربة “آش” تجاهل ما تراه عيونهم مباشرة، والتصديق على رأي المتعاونين معه، والذين كانوا يقدمون إجابات خاطئة في التجارب، بطريقة أخرى، لقد نجح آش في تغيير موقف 75% من الناس لمجرد مسايرة رأي أقلية مزروعة بينهم، وسواء كان ذلك بفعل ميل الإنسان الفطري للامتثال الاجتماعي وتقليد رأي الجماعة، أو عدم ثقتهم في أنفسهم، فإن الغالبية قررت ابتلاع الكذبة الفاقعة عوضًا عن رؤية الحقيقة البسيطة أمامهم.
..
نجحت الخلطة الأميركية المبهرة في حمل شعوب أوروبا الشرقية على كسر الطوق الحديدي السوفييتي حولها، بل ونجحت في تصدير الأزمة من الأطراف إلى قلب الإمبراطورية السوفييتية ذاتها، وإيصال الفتنة إلى الكرملين والميدان الأحمر، ونقلت الميديا الأميركية وقائع انهيار العملاق السوفييتي إلى العالم، في البث الأهم والأخطر لها خلال القرن الماضي، وذلك كله وسط مناخ شك وتردد هائلين سيطرا على أعصاب ومراكز صناعة القرار بموسكو، وكانت النتيجة الحتمية أن قناة “C.N.N” حشدت الروس للخروج ضد انقلاب ياناييف، وأفشل سكان موسكو بأنفسهم وأيديهم المحاولة الأخيرة لمنع السقوط السوفييتي المدوي، وسلموا أمرهم لعصابة غورباتشوف- يلتسن، والتي شيعت القوة العظمى السابقة إلى أدراج التاريخ.

ولم يجن المواطن السوفييتي الذي خرج، بحثًا عن الحرية التي كانت تروج لها القنوات الأميركية، سوى أنه فقد وظيفته، وضاعت مدخراته، وتبددت موارد ثروته وقلاعه الصناعية على يد المافيا الجديدة، التي نشطت في دولة مفككة، ونجحت في تدمير القوة العظمى السابقة تمامًا، بعد خلع أنيابها.

وجربت الولايات المتحدة الخلطة العبقرية في الوطن العربي، في العام 2011، مع اندلاع أحداث الربيع العربي، وباستخدام أزمة موجودة -غالبًا اقتصادية- تنفخ بواسطتها السموم إلى الشعوب المستهدفة، وتقود نخبة غربية الهوى والهوية عملية هندسة الوعي الجمعي للشعوب وتوجيهه نحو تدمير بلاده، بحجج شتى، ليس أولها الفساد ولا آخرها الاستبداد.

المهم أن هذه النخب تقود الشعوب للإجابة الخاطئة، مثل التجربة التي وصفها “سولومون آش”، فهي تنفي السبب المباشر للأزمات الاقتصادية العربية، والممثل في الولايات المتحدة، ثم تقود الجموع المحتشدة في الميادين نحو انتحار جماعي هائل، وعبر حرب أهلية ممولة خارجيًا مثلما جرى في سوريا، أو عن طريق استبدال سلطة تابعة لم يعد لديها ما تقدمه من تنازلات لسلطة جديدة على استعداد لتقديم كل أشكال وألوان السمسرة، بطول الإقليم وعرضه، كما في حالة مصر.

وكما في الحالة اللبنانية حاليًا، يجري بشكل مكثف صرف الانتباه عن الأزمة المعيشية المتفاقمة، عبر نفي الدور الأميركي في الحصار الاقتصادي المفروض على لبنان، والفيتو الأميركي على تمكين البلد من استخراج موارده الغازية من حقوله البحرية، عبر توجيه سهام النقد لسلطة قائمة، ومن ثم، قيادة الجماهير التي فقدت معظم آمالها في المستقبل إلى تدمير البلد والحاضر نيابة عن الكيان.

وجاء خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، كاشفًا للمأزق اللبناني، وملقيًا الضوء على الطريق الوحيدة لعبور الأزمة، وهو التهديد بالذهاب إلى الحرب إذا ما استمر هذا الحصار الأميركي والسرقة الصهيونية للثروات اللبنانية، وهو خطاب يضع نقاط الحل على حروف الأسئلة، ولا يكتفي فقط بالحلول، وإنما أخذ مبادرة الفعل من كل الأطراف، إقليميًا ودوليًا.

صوب السيد مباشرة على الإستراتيجية الأميركية الأكثر نجاحًا وتأثيرًا، وهي صناعة الأزمات والانتظار بعيدًا ريثما يستنزف عدوها نفسه بنفسه، وتفجير الوضع الداخلي، بشكل يحقق كل أهداف واشنطن و”تل أبيب”، دون اللجوء إلى حرب ستتدحرج إلى مواجهة شاملة بالمنطقة، وستكون نوعًا من المقامرة الحمقاء والمفلسة، المؤدية بدورها إلى دمار مؤكد للكيان.

كان الأمين، كما عهدناه، أمينًا وسيدًا وعظيمًا، حين وصف الوضع بجملة واحدة بليغة الدلالة والعمق، وعميقة في لملمة خيوط الأزمة، حين وصف مخاوف الحالة الراهنة بلبنان بقوله: “إن فقدان الأمن الاجتماعي أخطر من الحرب الأهلية”، وهذا هو الهدف الأساسي للولايات المتحدة، أو هو ما تخطط له بالاستعانة بالكيان.

وفي حين تحمل الأمين والحزب قرار الخروج من الأزمة، بالفعل والدم والعرق، وانتزع حق القرار والمبادأة في المنطقة من يد أميركا والكيان، اندفع خطاب المتعاونين اللبنانيين مع الأميركي في اتجاه جديد/ قديم، وهو استهداف سلاح المقاومة مرة أخرى، باعتبار أنه يمنح الذريعة للكيان الصهيوني للاعتداء على كامل لبنان، وهي مفارقة مضحكة، إذ إن ما يمنع الكيان من استهداف لبنان هو فقط سلاح المقاومة.

إن الأمن القومي للبنان، وحتى الكبرياء الوطني، معلق في هذه اللحظة بالمواطن اللبناني العادي، المطالب بوقفة مع النفس، يراجع فيها الخطوط وأطوالها وقياساتها على الورق، قبل أن يقرر من العدو ومن الأخ، من السبب في الأزمة الحالية، ومن يبذل كل ما يملك للخروج منها، وهل الوقوف مع الأميركي سيضمن مستقبلًا من أي نوع لأي عربي، أم إنه يريد أن يطمئن إلى ترك المنطقة كلها أشتاتًا ممزقات، ووسطها واحة أمن ورخاء وحيدة هي الكيان، وفقط.

شاهد أيضاً

الادب العربي – الأمثال العربية: محمد رضا المظفر

المقدمة من سنن الاسلام مراعاة النفس الانسانية،فهناك نفس مؤمنة قوية مطمئنة،ونفس كافرة قلقة هشة.نفسيات متباينة ...