الدرس السادس عشر: تفسير سورة البيـّنة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف المقصود من قوله تعالى: دين القيمة، في السورة.
2- يشرح تفسير آيات السورة إجمالاً.
3- يفهم موقف أهل الكتاب عندما أتتهم البيّنة.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾
في رحاب السورة
المشهور أنّ هذه السّورة نزلت في المدينة، ومحتواها يؤيّد ذلك، إذ تحدّثت في مواضع متعدّدة عن أهل الكتاب. وغالباً ما واجه المسلمون أهلَ الكتاب في المدينة.
أضف إلى ذلك أنّ السّورة تحدّثت عن الصلاة والزكاة، والزكاة – مع أنّها شُرّعت في مكّة – اتّخذت طابعها الرسميّ الواسع في المدينة.
هذه السّورة تناولت رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دلائل بيّنة. هذه الرسالة الّتي كان أهل الكتاب ينتظرونها، لكن حين ظهرت، أعرض عنها فريقٌ منهم لما وجدوا فيها من خطر على مصالحهم الشخصيّة.
والسّورة تُقرِّر حقيقة وجود الإيمان بالله والتوحيد والصلاة والصيام في كلّ الأديان ودعوات الأنبياء عليهم السلام باعتبارها أُصولاً ثابتة خالدة.
وفي مقطع آخر من السّورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام… بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البريّة.
ذلك دين القيّمة
في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكّين عن دينهم إلاّ بدليل واضح قاطع.
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾.
و”البيّنة” الّتي أرادوها: رسول من الله يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾.
وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾.
كان هذا ادّعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرّقوا! وما تفرّقوا إلاّ بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحقّ.
﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾
فالآيات الأُولى لهذه السّورة المباركة تتحدّث عن أهل الكتاب والمشركين الّذين كانوا يدّعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيٌّ بالدلائل الساطعة.
لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى.
وهذا المعنى يُشبه ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[1].
نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولا بدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحقّقت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا بأعداء الدعوة.
ثمّة تفسير آخر للآية هو أنّ الله لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتّى يُتمّ الحجّة
عليهم ويُرسل إليهم البيّنة ويُبيّن لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم.
بناءً على هذا التّفسير، هذه الآية تُشير إلى قاعدة اللطف الّتي يتناولها علم الكلام وتُقرّر أن يبعث الله إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم.
على أيّ حال، “البيّنة” في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص “رسول الله” وهو يتلو عليهم القرآن.
“صحف” جمع “صحيفة”، وتعني ما يُكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.
و”مطهّرة” أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل، ومن تلاعب شياطين الجنّ والإنس، كما جاء أيضاً في قوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾[2].
جملة (فيها كتب قيّمة) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماويّة خالٍ من الانحراف والاعوجاج. من هنا فإنّ هذه “الكتب” تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من الله، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾[3].
وبهذا يكون معنى “قيّمة” سويّة ومستقيمة، أو ثابتة ومستحكمة، أو ذات قيمة، أو كلّ هذه المعاني مجتمعة.
ويُحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ القرآن فيه الكتب السماويّة القيّمة السابقة لأنّه يضمّ جميع محتوياتها وزيادة.
ويلفت النظر تقدّم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الأولى، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تُريد الاثنين.
وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم، أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً للذمِّ أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذوي مستوى أرفع من المشركين. فمعارضتهم – إذاً – أفظع وأبشع وتستحقّ مزيداً من التقريع.
ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدِّين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾.
ثمّ تُضيف الآية القول: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾.
المقصود هو أنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه أُمورٌ معروفة فلماذا يُعرضون عنها؟.
وقوله تعالى: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ أي بمجموع الدِّين والشريعة، أي أنّهم أُمروا أن يعبدوا الله وأن يُخلصوا له الدِّين والتشريع في جميع المجالات، فجملة ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ تؤيّد هذا المعنى لأنّها طرحت الدِّين بمفهومه الواسع.
“حنفاء” جمع “حنيف”، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم. جملة ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ إشارة إلى أنّ الأُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة “الارتباط بالله” والزكاة “الارتباط بالنّاس” من الأُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان. ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعيّة المدنيّة للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.
من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم.
خير البريّة وشرّها
الآيات السابقة تحدّثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من الله، لكنّهم تفرّقوا من بعد ما جاءتهم البيّنة.
هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة “كافرة” و”مؤمنة” تذكر الكافرين أوّلاً بالقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾.
وإنّما قال “كفروا” لكفرهم بالدِّين المبين، وإلّا فإنّ كفرهم ليس بجديد.
وعبارة ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضلّ وأسوأ من الّذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحقّ وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[4]، وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[5].
وهذه الآية الّتي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا يذهب إليه غيرها، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنّم.
ولمَ لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فُتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فأعرضوا عنها كبراً وغروراً وعناداً؟
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾.
ثمّ ذكرت السورة جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند الله من مثوبة: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.
يُلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادّعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكنّ الكفر وحده ـ وإن لم يقترن بالأعمال السيّئة ـ مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى ذلك أنّ الكفر عادة منطلق لأنواع الذنوب والجرائم والانحرافات.
عبارة ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ تُبيّن بجلاء أنّ الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء. والآيات الأخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[6].
هذه الآية تحدّثت عن الجزاء المادّيّ الّذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنويّ الروحيّ لهم، وهو رضا الله عنهم ورضاهم عنه.
إنّهم راضون عن الله لأنّ الله أعطاهم ما أرادوه، والله راضٍ عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإن كانت هناك زلّة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأيّة لذّة أعظم من أن يشعر الإنسان بأنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه؟
نعم، نعيم جسد الإنسان جنّات الخلد، ونعيم روحه رضى الله ولقاؤه.
جملة ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ تدلّ على أنّ كلّ هذه البركات تنطلق من “خشية الله”، لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.
عليّ عليه السلام وشيعته خير البريّة
ثمّة روايات كثيرة من طرق أهل السنّة في مصادرهم الحديثيّة المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعيّة، فسّرت الآية: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ بأنّهم عليّ وشيعته.
فـ “الحاكم الحسكانيّ النيسابوريّ” عالم أهل السنّة المعروف في القرن الخامس الهجريّ نقل هذه الرّوايات في كتابه المشهور “شواهد التنزيل” بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الرّوايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1- عن ابن عبّاس قال: عندما نزلت آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ: “هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ويأتي عدوّك غضباناً مقمحين”[7].
2- وعن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: كنّا جالسين عند النبيّ جوار الكعبة، فأقدم علينا عليّ، وحين رآه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: “قد أتاكم أخي”، ثمّ التفت إلى الكعبة، وقال: “وربّ هذه البيّنة، إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة”.
ثمّ التفت إلينا وقال: “أما والله إنّه أوّلكم إيماناً بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأقضاكم بحكم الله، وأقسمكم بالسويّة، وأعدلكم في الرعيّة وأعظمكم عند الله مزيّة”.
قال جابر: فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ فكان عليّ إذا أقبل قال أصحاب محمّد: قد أتاكم خير البريّة بعد رسول الله[8].
بعض هذه الأحاديث رواه ابن حجر في الصواعق، ومحمّد الشبلنجيّ في نور الأبصار.
وجلال الدِّين السيوطيّ نقل القسم الأعظم من الرّواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
3- في “الدرّ المنثور” عن ابن عبّاس قال: “حين نزلت آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾، قال رسول الله لعليّ: “هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين”.
باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل عليّ وأتباعه.
وهذه الرّوايات تدلّ ضمناً على أنّ كلمة “الشيعة” باعتبارها اسماً لأتباع عليّ عليه السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين على لسان الرّسول نفسه. وأُولئك الّذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخّرة في خطأ كبير.
منحنى الصعود والسقوط
من آيات هذه السّورة المباركة يُستفاد أنّ الإنسان فريد بين مخلوقات الكون في البون الشاسع الّذي يفصل بين منحنى ارتفاعه وسموّه وبين منحنى سقوطه وهبوطه. فإذا كان من الّذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة “عملوا الصالحات” تشمل كلّ الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق الله، وإن سلك طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوّة سحيقة وكان شرّ خلق الله.
هذا البون الشاسع بين الاتّجاهين ـ رغم خطورته وحساسيّته ـ له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشريّ وقابليّته للتكامل. وطبيعيّ أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط.
المفاهيم الرئيسة
– هذه السّورة تناولت رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دلائل بيّنة. والسّورة تُقرِّر حقيقة وجود الإيمان والتوحيد والصلاة والصيام في كلّ الأديان ودعوات الأنبياء باعتبارها أصولاً ثابتة.
– الآيات الأولى لهذه السّورة المباركة تتحدّث عن أهل الكتاب والمشركين الّذين كانوا يدّعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إن جاءهم نبيٌّ بالدلائل الساطعة. لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلّا فريقٌ منهم آمن واهتدى.
– إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وذكر المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان.
– نعيم جسد الإنسان جنّات الخلد، ونعيم روحه رضا الله ولقاؤه. وخير البريّة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وشيعته.
[1] سورة البقرة، الآية 89.
[2] سورة فصّلت، الآية 42.
[3] سورة البقرة، الآية 183.
[4] سورة الأنفال، الآية 22.
[5] سورة الأعراف، الآية 179.
[6] سورة الإسراء، الآية 70.
[7] الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، ج 2، ص 357، ح 1126.
[8] م. س، ص 359، ح 1130.