إذن . . فلم يفكر في نفسه ، وإنما كان يفكر في دينه وهو في أشد لحظات حياته ،
وبهذا الالتزام والتسليم للّه ، بلغ هذه الدرجة العالية من الايمان ، وتفوق على
الكثير من الصحابة بالرغم من صغر سنه .
وثاقته رجاليا :
لم يتأمل أحد في مدح حجر واعتباره ، وقد شهد بذلك الرسول ( ص )
والإمام علي والحسنان : ، وسيأتي نقل أقوالهم خلال هذه الرسالة ، من خلال الإنباء
بقتله ، أو استنكار قتله ، حيث مدحوه بأفضل المدح .
وكذلك مدحه واكد على ايمانه وفضله الكثير من الصحابة والتابعين والعلماء .
كما أن سيرة حياته وثباته على عقيدته حتى الاستشهاد ، ومواقفه في هذا السبيل
واسناد الأئمة : المناصب والمهام إليه ، وغيرها من الشواهد دالة على مدحه واعتباره .
ولم يختص مدحه بعلماء الشيعة وكتابهم ، بل إن أهل السنة في كتبهم اتفقوا على مدحه
واعتباره .
وقد نقلنا ، وسننقل خلال هذه الدراسة ، الكثير من هذه الشواهد والأقوال التي تدل
على ذلك ، ولا حاجة معها إلى الاستدلال عليه ، ولكن ننقل هنا بعض الأقوال في مدح
حجر ووثاقته ، حتى نستدل بذلك على بطلان وانحراف الذين شهدوا ضده ، أو الذين
ارتكبوا جريمة مطاردته وقتله ، ولم يكن ذنبه إلا أنه آمن باللّه العزيز الحميد ،
فكان هو وجماعته كأصحاب الأخدود ، كما عبر عنهم بذلك الإمام أمير المؤمنين ( ع )
وشبههم بهم .
وننقل هنا أقوال علماء الشيعة وأهل السنة في حقه ، وقد وصفه الإمام الحسين ( ع )
بأنه من « العابدين المخبتين » أي الخاشعين .
قال عنه الشيخ الطوسي في رجاله : « من أصحاب علي ( ع ) حجر بن عدي
كان من الابدال » ( 39 ) .
وقال عنه ابن داود الحلي : « حجر بن عدي من عظماء أصحابه – أي الإمام علي ( ع » )
( 40 ) .
وقال عنه العلامة الحلي في رجاله : « إنه من أصحاب أمير المؤمنين
( ع ) وكان من الابدال » ( 41 ) .
وفي الدرجات الرفيعة : « وهو يعد من الرؤساء والزهاد ، ومحبته واخلاصه
لأمير المؤمنين ( ع ) اشهر من أن يذكر » ( 42 ) .
وفي الوجيزة : « وابن عدي الكندي من الشهداء السعداء » ( 43 ) .
وفي أسد الغابة : « وكان من فضلاء الصحابة ، وكان مجاب الدعوة ، أخرجه
أبو عمر وأبو موسى » ( 44 ) ، والمراد من مصطلح ( الفاضل ) هو الخير والمتدين .
وفي طبقات ابن سعد : « وكان ثقة معروفا ، ولم يرو عن غير علي شيئا » ( 45 ) .
وقال عنه الحاكم في المستدرك : « وهو راهب أصحاب محمد ( ص » ) ( 46 ) .
وغيرها من الأقوال من الشيعة وأهل السنة في اعتباره ومدحه .
وقال الشيخ المامقاني بعد أن نقل أقوال العلماء : « أقول : مقتضى ما سمعت كله أن
الرجل فوق الوثاقة ، وفي غاية الجلالة ، ولذا عده العلامة وابن داود في القسم
الأول ، وعدم تعرض النجاشي والشيخ في الفهرست لحاله ، إنما هو لعدم بروز أصل أو
كتاب منه ، وقصرهما على ذكر المصنفين من أصحابنا فلا وجه لما في الحاوي من عده من
الحسان ، ولا لما في الوجيزة من الاقتصار على أنه من الشهداء السعداء ، ولا لما في
البلغة من أنه من الشهداء الابدال ، بل كان من اللازم أن يقولوا : من أجلاء العدول
و الأخيار المختوم أمرهم بالشهادة على يد أمير الأشرار ، وكفاك في فضله ان العامة
مع اعترافهم بكونه من أصحاب أمير المؤمنين ( ع ) اعترفوا بفضله » ( 47 ) ثم ينقل
أقوال أهل السنة في حقه .
وقال عنه الشيخ الأميني في الغدير : « حجر بن عدي من عدول الصحابة ، أو أحد الصحابة
العدول ، راهب أصحاب محمد ( ص ) كما قاله الحاكم . من أفاضل الصحابة وكبارهم مع
صغر سنه ، مستجاب الدعوة ، كما
في الاستيعاب . وكان ثقة معروفا كما قال ابن سعد .
وقال المرزباني : انه وفد إلى رسول اللّه ( ص ) وكان من عباد اللّه وزهادهم ،
وكان بارا بأمه ، وكان كثير الصلاة والصيام . وقال أبو معشر : كان عابدا وما أحدث
إلا توضأ وما توضأ إلا صلى . وكان له صحبة ووفادة وجهاد وعبادة كما في الشذرات ، وكان
صاحب كرامة واستجابة دعاء مع التسليم إلى اللّه » ( 48 ) .
وقد لخص الشيخ الأميني أقوال العلماء ومترجميه في حقه .
وذكره السيد الأمين في الأعيان ، وذكر فضائله وأحواله بما يدل على الوثاقة ، أو
بما يزيد على الوثاقة ( 49 ) .
وقال عنه الشيخ التستري في قاموس الرجال : « وبالجملة جلاله لا يحتاج إلى برهان »
( 50 ) .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن وثاقة الرجل لا تنحصر في ذكره بلفظ ( ثقة ) أو ( عدل )
بل هناك ألفاظ وقرائن أخرى تشير إلى مدحه بأفضل المدح والتقدير ، تدل على هذا المعنى
( 51 ) . وربما فاقت الوثاقة المصطلحة أحيانا ، وقد استفاد بعض العلماء هذا
المعنى من هذه الأقوال والشواهد ، كالسيد الأمين في أعيان الشيعة ، والأميني في
الغدير ، وغيرهم ، كما يجدها القارئ ، ومن هذه
القرائن والامارات ، تعيينه من قبل المعصوم ( ع ) لأداء الشهادة أو تحملها ،
لأنه تشترط العدالة في الشاهد ، أو محبة المعصوم له ،
وتعيينه واليا على بلدة أو قيما على أموال الوقف والصغار أو وكيلا من
قبله في الأمور الدينية وغيرها ، من الامارات التي ذهب البعض إلى دلالتها على وثاقة
الشخص ، سواء تقبلها العلماء أو ناقشوا في مدى دلالتها على ذلك ( 52 ) .
على كل حال فان هذه الأقوال والاخبار والسيرة وغيرها ، شواهد وقرائن موجبة
للقطع أو الاطمئنان بوثاقته اصطلاحا ، فلا مجال للتأمل في ذلك ، بان يعتبر حديثه
حسنا في اصطلاح علم الدراية .
وقد ذكرنا ان الشيخ الطوسي قال عن حجر : « إنه كان من الابدال » ، وقد فسر
السيد الأمين واحد الابدال ، كما فسره غيره بقوله : ( رجل بدل بالكسر ويحرك شريف
كريم والجمع ابدال ) . ويظهر منه موافقته لهذا التفسير ، ولعل هذا المعنى يناسب ما
ذكره البعض في تفسير الابدال ( قال أبو الحسن الخوارزمي : إنما سموا أبدالا لأنهم
أبدلوا من كل خلق دني بخلق سني ) ( 53 ) ، ولكني أظن أن هذا هو المعنى اللغوي ،
وأما المعنى الاصطلاحي للفظة الابدال ، فلعله أعمق من هذا المعنى ، وهو ما ذكره
الشيخ الطريحي في مجمع
البحرين : ( وفي الحديث : « ان جامعت ليلة الجمعة بعد العشاء
الآخرة فإنه يرجى أن يكون الولد من الابدال » ، الابدال : قوم من الصالحين لا
تخلوا الدنيا منهم إذا مات واحد أبدل اللّه مكانه آخر ) ( 54 ) .
وهذا المعنى أكثر ملاءمة لسيرة حجر وحياته وأعماله ومواقفه ، ولأقوال الرسول ( ص
) والأئمة : ، والعلماء والمؤرخين في حقه .
وفي النهاية لابن الأثير في مادة ( بدل ) : « في حديث علي 2 : ( الابدال بالشام ) هم
الأولياء والعباد ، الواحد بدل كحمل وأحمال ، وبدل كجمل ، سموا بذلك
لأنهم كلما مات واحد منهم أُبدل بآخر » ( 55 ) .
وفي سفينة البحار في مادة ( بدل ) ذكر عدة معاني للفظة الابدال ، ومنها : ( ويحتمل أن
يكون المراد به خواص أصحاب الأئمة : » ( 56 ) .
وفي لسان العرب : « قال ابن السكيت : سمي المبرزون في الصلاح أبدالاً لأنهم
أبدلوا من السلف الصالح ، والابدال : الأولياء والعباد ، سموا بذلك لأنهم كلما مات
منهم واحد ابدل آخر » ( 57 ) .
وهذا المعنى هو المناسب لحجر ، ولما وصف به من أوصاف وفضائل من أنه راهب
أصحاب محمد ( ص ) ، وانه مستجاب الدعوة وغيرها من الصفات ، وكذلك هو المناسب
لذكره في كتب الرجال .
أحاديث و روايات من طريق حجر
لم تنقل عن طريق حجر أحاديث وروايات كثيرة ، وأكثر ما رواه عن
الإمام أمير المؤمنين ( ع ) بسبب علاقته الشديدة به ، وولائه له .
وفي الطبقات : « كان ثقة معروفا لم يروعن غير علي شيئا » ( 58 ) ، كما ذكر له
بعض الأحاديث عن الرسول ( ص ) . وننقل هنا بعض الأحاديث والروايات التي نقلت من طريقه
عن الرسول ( ص ) أو الإمام ( ع ) أو غيرهما : ذكر الحاكم في المستدرك : « عن مخشي بن
حجر بن عدي عن أبيه أن نبي اللّه ( ص ) خطبهم فقال : أي يوم هذا ؟ فقالوا : يوم حرام .
قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام ، قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام ، قال :
فان دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، كحرمة شهركم هذا ،
كحرمة بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم
رقاب بعض » ( 59 ) .
وذكر في الإصابة : « روى ابن قانع في ترجمته ، ( أي ترجمة حجر بن عدي )
من طريق شعيب بن حرب عن شعبة عن أبي بكر بن حفص عن حجر بن عدي رجل من أصحاب النبي ( ص ) عن
النبي ( ص ) قال : « ان قوما يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها » ( 60 ) .
وفي الطبقات بسنده عن غلام لحجر بن عدي الكندي قال : « قلت لحجر : اني رأيت ابنك
دخل الخلاء ولم يتوضأ ، قال : ناولني الصحيفة من الكوة . فقرا : بسم اللّه الرحمن
الرحيم ، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب يذكر : ان الطهور نصف الايمان » ( 61 ) .
يظهر منه ان له صحيفة أو كتابا سجل فيها الأحاديث التي سمعها من الإمام ( ع
) ، فان مصطلح ( الصحيفة ) يطلق على الكتاب الذي سجل فيه الأحاديث ( 62 ) .
وروى ابن عساكر في تاريخه عن حجر أنه قال : « سمعت علي بن أبي طالب يقول :
الوضوء نصف الايمان » وروى ابن عساكر أيضا باسناده إلى حجر بن عدي قال : « سمعت
شراحيل بن مرة يقول : سمعت النبي ( ص ) يقول لعلي : ابشر يا علي ، حياتك وموتك معي
» ( 63 ) .
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : « وروى شريك قال : أخبرنا
عبد اللّه بن سعد عن حجر بن عدي قال : قدمت المدينة فجلست إلى أبي
هريرة ، فقال : ممن أنت ؟ قلت : من أهل البصرة ، قال : ما فعل سمرة بن
جندب ؟ ، قلت : هو حي ، قال : ما أحد أحب إلي طول حياة منه ،
قلت : ولم ذاك ؟ قال : ان رسول ( ص ) قال لي وله ولحذيفة بن
اليمان : « آخركم موتا في النار ) ، فسبقنا حذيفة ، وأنا الآن أتمنى أن أسبقه ، قال :
فبقى سمرة بن جندب ، حتى شهد مقتل الحسين » ( 64 ) .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...