آراء وتحليلات
13/04/2023
ضحايا الدولار.. عرض مستمر
أحمد فؤاد
أفاق العالم على واقع جديد، مع تبعات وضرائب المواجهة الروسية الأميركية، والتي تشتعل فوق أوكرانيا، وتمتد نيرانها اللافحة إلى كل أنحاء العالم، كمواجهة كبرى استطاعت كل قوة فيها أن تحشد حلفاءها وأن تحصن خنادقها وخطوطها، وكظرف صراع تاريخي غير مسبوق، وعلى القمة، فإن الكل استشرس، وحاول أن يخصم من أعدائه أوراق قوتهم وسيطرتهم، وفي هذا المناخ مع إضافة أزمات أخرى متتالية، يأتي دور كسر الدولار الأميركي وسيطرته النافذة على العالم كهدف أساس لروسيا وحلفائها.
لكن القصة التي نحن بصددها معقدة إلى أبعد حد، كونها ليست تغييرًا اعتياديًا في قواعد التعامل والتجارة وتسوية التبادل العالمي، بل هي قضية كسر الذراع الطويلة لإمبراطورية امتلكت من أسباب النفوذ ما لم تحلم به أية إمبراطورية سبقتها في التاريخ الإنساني المعروف. ثم إن هذه الورقة الخضراء –الدولار- صارت عنوان قوتها والتعبير الأمثل عن هيمنتها وأخطر أسلحتها وأمضاها، وتكمن فيها مفتاح استمرارها أو مبتدأ سقوطها، في آن.
ومع انضمام الصين ودول “البريكس” ثم بعض دول أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا إلى صفوف خندق الحرب على الدولار، لم يعد السؤال هو هل ينهار الدولار وينزل من القمة التي بقي فيها من بعد الحرب العالمية الثانية، بل تحول إلى صيغة أقرب للواقع، هي: متى سيسقط، وكيف سيسقط؟
لكي يفهم المرء جيدًا، وبوعي، قصة اللحظة الحالية، لا بد من عودة ضرورية إلى الخلف وإلى التاريخ، فهناك كان حاضرنا اليوم عند مرحلة الجنينية والتشكل، كما أن الحاضر اليوم هو المستقبل والغد عند مرحلة الخلق الأولى، ومتابعة أحداث الأزمات كخيوط حوادث ممتدة عبر الأيام الماضية والجارية، يضمن للمتابع أن يتجنب أخطاء يميل معها ميزان الحساب، أو تختل به الخطوط وتختلط به الحدود بين الأماني الكاذبة والأحلام المشروعة.
بداية صعود الدولار إلى قمة هرم التعاملات الدولية، وعملة عالمية ووحيدة للتبادل التجاري جاءت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة، عبر رعاية الولايات المتحدة لإنشاء النظام المالي العالمي القائم حتى يومنا هذا، والذي تم بأشهر اجتماع في التاريخ الإنساني المعروف، مؤتمر النقد الدولي بغابات ولاية نيوهامبشير، خلال الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية في عام 1944، والمعروف أكثر باسمه المختصر “بريتون وودز”.
في هذا المؤتمر تعهدت حكومة الولايات المتحدة باعتماد قاعدة الذهب مقابل الدولار، حيث كل من يقدم 35 دولارًا يحصل على أوقية من الذهب الخالص، لتضع عنوانًا لعملتها هو “الثقة”، وبالثقة أصبح الدولار الأميركي مقبولًا لدى كل طرف متعامل على وجه الكوكب، فهو يظن أنه –وفي أي وقت- يستطيع ببساطة استبدال هذه الأوراق مقابل الذهب.
في الحقيقة كانت الخدعة الأميركية هي أن كل الدول التي حضرت ووقعت على الاتفاقية كانت تتوهم أنها تتجه إلى نظام نقد يقوم على الذهب، اعتمادًا على التعهد الأميركي باستبدال الدولار بالذهب في أي وقت، لكن التخطيط الشيطاني الأميركي كان يرسم خطواته بمكر إبليس ويحكم الخناق على ضحاياه بخيوط وحبال وضعوها هم حول رقابهم.
ثمة حقائق أخرى أضافت إلى قوة الدولار وعززت دوره كعملة عالمية، فالولايات المتحدة عقب انتصارها في الحرب قد نقلت ذهب قارة أوروبا كله إلى الاحتياطي الفيدرالي –بنكها المركزي- سواء كان في صورة ضرائب نصر فرضتها على حليفيها المنهكين بريطانيا وفرنسا، أو في شكل تعويضات وعقوبات أخضعت لها المهزومين، ألمانيا وحلفاءها، ومع ظرف تاريخي نادر، وهو أن كل القوى الكبرى خرجت من الحرب منهكة مدمرة وعاجزة، عدا أميركا البعيدة خلف المحيطات الشاسعة، فقد كان الأمان يضاف إلى عاملي الثقة والقبول من العالم كله، مجبرًا أو مضطرًا.
خرجت الولايات المتحدة وهي المنتصرة الحقيقية والكبرى، من هذه الحرب الكونية، وفوق كل شيء، كان سلاحها النووي عنوانًا وإلهًا متجسدًا للقوة الفتية الجديدة، قوة قاهرة فوق أية قوة، لا يجرؤ أحد -ولا يريد- مواجهتها أو مضاهاتها، وكانت مصانعها البعيدة عن مدى طائرات دول المحور تعمل على مدار الساعة وطوال الوقت، لتوفر الإنتاج اللازم للمجهود الحربي للحلفاء، وفي نهاية الحرب كانت نتيجة طبيعية أن تستحوذ واشنطن على 45% من حجم الإنتاج العالمي كله، بشكل لم يسبق لقوة منفردة أن قامت به عبر التاريخ.
لكن كل هذه العوامل التي استغلها التسويق الأميركي الغادر لم تلبث أن تلاشت وانتهت، واحدة وراء الأخرى، في عام 1961، ومع ارتفاع سعر الذهب في العالم إلى 40 دولارًا للأوقية الواحدة، أجبرت واشنطن سبع دول أوروبية على استخدام احتياطياتها من الذهب للدفاع عن سعر الدولار، ونشأ “مجمع لندن للذهب”، بحيث يضخ الذهب إلى الأسواق لضمان استقرار سعر الدولار عالميًا، وقدمت البنوك المركزية الثمانية (أميركا- بريطانيا- فرنسا- ألمانيا الغربية- إيطاليا- بلجيكا- هولندا- سويسرا) ما تملكه من مخزون لهذه المهمة العجيبة.
إلا أن الاستنزاف المتسارع للاحتياطيات الأوروبية، مع دخول الأميركي إلى حرب فيتنام، وقيام الاحتياطي الفيدرالي بعملية طباعة هائلة للدولار لتوفير نفقات الحرب الطويلة، قد أدى إلى انهيار مجمع لندن للذهب، ثم إلى أزمة اقتصادية عاتية من التضخم المنفلت، ضرب الولايات المتحدة أولًا، ثم انتقل إلى الغرب كله.
في هذا الوقت قامت الولايات المتحدة بأكبر عملية “نصب” في التاريخ الإنساني المعروف، يوم 15 آب/ أغسطس 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وقف العمل بنظام تحويل الدولار إلى الذهب، ما سيعرف تاريخيًا باسم “صدمة نيكسون”، وبهذا التصرف فقد حصلت الولايات المتحدة على ذهب العالم وسرقت موارده واستولت على احتياطياته وثرواته، مقابل أوراق خضراء لا تساوي شيئاً على الإطلاق، وكان من الطبيعي أن ترتفع أوقية الذهب لتصل إلى 850 دولارًا في 1980 من 35 دولارًا فقط طبقًا للتعهد الأميركي، وهذا الفارق المروع كله هو قيمة عملية السطو الأكبر والأضخم.
بعد صدمة الذهب جاء الدور على الطاقة الإنتاجية الأميركية، والتي كانت الأضخم في العالم حتى عشر سنوات من مطلع الألفية الجديدة، لكنها تغيرت، والاقتصاد الأميركي الذي خرج بعد الحرب العالمية الثانية بحصة من الناتج المحلي العالمي تبلغ 45-50% تراجعت حاليًا أمام التنين الصيني الصاعد كالصاروخ إلى معادلة الاقتصاد العالمي، واليوم يبلغ الناتج المحلي الأميركي 19% من الناتج المحلي العالمي بطريقة تعادل القوة الشرائية “PPP”، بينما يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 23% وفقًا للمؤشر ذاته، وحتى بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي الأسمي، فإن الاقتصاد الصيني لا يبتعد كثيرًا عن نظيره الأميركي، إذ تمثل الصين 18% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 20% للأميركي، واللحاق به وتجاوزه مسألة وقت ليس أكثر في ظل النمو الصيني القوي والمستمر.
إذا كانت الأوضاع العالمية وطموحات الدول الرافضة لسياسات الهيمنة الأميركية، والتي انتهى زمنها وذهب عصرها، تحملنا إلى التعويل على انتقال حتمي من اعتماد الدولار كعملة عالمية وحيدة إلى العودة للمبادلات التجارية القائمة على معيار أكثر ثباتًا، ويحقق مصالح أطراف عالم اليوم، عوضًا عن أن يلقي بإيراداته ومكاسبه في شرايين الاقتصاد الأميركي المأزوم، فإن التعبير عن هذا الاحتمال يصبح أفضل لو كان صادرًا من فم أحد أبناء العم سام.
الملياردير إيلون ماسك، قال إن “سياسة الولايات المتحدة النقدية الصارمة للغاية، ستجبر دول العالم على التخلي عن الدولار، إذ إنها تتسبب في تصدير الجزء الأكبر من التضخم الأميركي إليهم، وبالتالي فإن الدولار مهدد بفقد مكانته كعملة تداول عالمية”.
بالطبع لا يريد ماسك أن ينهار الدولار أو يفقد مكانته، إذ إن الجزء الأكبر من الثروات الهائلة التي تتكون في الولايات المتحدة هي نتيجة الأوراق عديمة القيمة التي تسرق بها فائض القيمة من العالم كله، وتركزه عندها، ثم تعيد تركيزه إلى يد أقلية من المليارديرات الصغار، وهو يصدر تحذره بغرض تخفيف وطأة النهب الأميركي المستمر للعالم، لكي يستمر.
إن سياسة تصدير التضخم عن طريق رفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة ينعكس بشكل مباشر على حياتنا اليومية العادية، نتيجة منطقية ووحيدة لربط العملات العربية –والسياسات كذلك- بالدولار الأميركي، مع موجات التضخم المتتالية يقوم الاحتياطي الفيدرالي برفع الفائدة، ويخبرنا صندوق النقد الدولي، أو يجبرنا، على رفع الفائدة، الأمر الذي تعجز معه الاقتصاديات العربية التابعة والقائمة على الريع عن توفير مصادر لدفع الفوائد المرتفعة، وبالتالي تدخل إلى الدائرة الجهنمية بإرادتها عن طريق خفض متتالي في قيمة العملات المحلية أمام الدولار، الأمر الذي يحملنا بدوره إلى زيادات جديدة في التضخم، أي أننا نحل مشكلة المجتمع الأميركي وننقلها إلينا لندفع تكاليفها، مع الآثار الجانبية المعروفة لخطط اقتصادية من هذا النوع، وأولها رفع الدعم وخفض الإنفاق على المشروعات وتراجع القيمة الحقيقية للأجور والغلاء الفاحش والطاحن للناس، وهذا كله غيض من فيض التبعية وأثمان السير وراء الأميركي وعلاجاته القاتلة.
ما تفعله الصين، هذه الأيام، بشراء وتكديس كميات هائلة من الذهب، لتدعم بها سعيها المحموم في اتفاقيات ثنائية مع غيرها تحول اليوان إلى عملة تبادل مقبولة على الصعيد العالمي، بعد أن بلغ تطورها الاقتصادي هذا الحد المذهل، وهي أكبر شريك تجاري لآسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، يحقق مصلحة عربية في كسر هذه اليد الأميركية الملتفة حول أعناقنا كطوق فولاذي، وما يتوجب قوله وفعله هو التجاوب الرسمي الواسع مع هذه التغيرات العالمية، التي جاءت كهدية نادرة من الأيام، وبالتأكيد هي لن تستمر في منحنا الهدايا المجانية.