وقد خاف زياد على منصبه من حركة حجر وأصحابه ، لأنها تتهدد وجوده في الكوفة ، لذلك
واجهها بكل عنف وشدة ، حتى يتسنى له المقام في العراق . ففي مروج الذهب : « كان
زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي فمن أبى ذلك عرضه على السيف
» ( 135 ) .
( وكان زياد يتتبع الشيعة ، وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم ، فقتلهم تحت كل حجر
ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون وصلبهم عل جذوع النخل ، وطردهم
وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ) ( 136 ) .
ومن جرائمه قتله لعمرو بن الحمق الخزاعي ، فحين تولى زياد الكوفة ، طلب عمرو بن
الحمق الخزاعي ، فهرب منه فاعتقل زوجته وسجنها ، ثم تعقب عمرا حتى ظفر به جلاوزة
زياد ، وقطعوا رأسه ، فبعث به زياد إلى معاوية ، وهو أول راس طيف به في الاسلام .
وكذلك فعل برشيد الهجري ، وكان من خواص الإمام ( ع ) ، عرض عليه زياد البراءة
واللعن ، فأبى ، فقطع يديه ورجله ولسانه ، وصلبه خنقا في عنقه .
وكذلك فعل بجويرية بن مسهر العبدي ، حيث أخذه زياد فقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع
نخلة .
وقد هدم بيت حجر بعد ان اعتقله وأرسله إلى معاوية .
وفي مروج الذهب ان « معاوية عين زيادا واليا على المدينة ، بالإضافة للكوفة
والبصرة ، وذلك في أواخر حياة زيد . واتصلت ولايته باهل المدينة ، ( فاجتمع الصغير
والكبير بمسجد رسول اللّه ( ص ) وضجوا إلى اللّه ، ولاذوا بقبر النبي ( ص )
ثلاثة أيام ، لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف ، فخرجت في كفه بثرة ، ثم حكها ثم
سرت واسودت فصارت آكلة سوداء ، فهلك بذلك ) ( 137 ) .
موقف حجر من ولاة معاوية :
عرفنا فيما سبق خوف معاوية من الإمام ( ع ) وشيعته ، على سلطانه حيث
كان يرى في شخص الإمام ( ع ) وشخصيته سدا أمام سلطانه . ففي حياته
كان متمثلا بوجوده الشريف ، وأما بعد وفاته ، فكان متمثلا بالشيعة والموالين له ( ع
) ، وفي شخصيته التي كان لها تأثير كبير في الأمة الاسلامية .
فأما الشيعة فقد استخدم معاوية مختلف الأساليب في القضاء عليهم ، وأما شخصيته ( ع ) ،
فقد استخدم معاوية أسلوبا آخر من أجل تشويهها في المجتمع الاسلامي . وقد ذكرنا
أساليبه في ذلك من وضع الأحاديث الكاذبة ، وسبه للإمام ( ع ) على المنابر وفرض ذلك
على أئمة الجوامع والخطباء والولاة ، من أجل توهين سمعة الإمام وأهل البيت عليهم السّلام ، وحط
مكانتهم بين المسلمين .حجر والمغيرة بن شعبة :
عندما أراد معاوية تعيين المغيرة واليا على الكوفة ، دعاه وقال له : ( أما
بعد فان لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد قال المتلمس :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * وما علم الانسان إلا ليعلما وقد يجزي
عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة ، فأنا تاركها اعتمادا على
بصرك بما يرضيني ، ويسعد سلطاني ويصلح به
رعيتي ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لاتتحمَّ ( 138 ) عن شتم علي وذمه ،
والترحم على عثمان والاستغفار له ،
والعيب على أصحاب علي ، والاقصاء لهم وترك الاستماع منهم ، وبإطراء شيعة عثمان
. . . والإدناء لهم والاستماع منهم .
فقال المغيرة : قد جربت وجربت ، وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذمم بي دفع ولا رفع ولا
وضع ، فستبلوا فتحمد أو تذم ، قال : بل نحمد ان شاء اللّه » ( 139 ) .
وأقام المغيرة على الكوفة سبع سنين وأشهرا ، ولم يدع في هذه المدة ( ذم علي ،
والوقوع فيه ، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان
بالرحمة والاستغفار له ، والتزكية لأصحابه ) ( 140 ) . ( وكان المغيرة لا
ينام عن شتم علي ( ع ) وأصحابه واللعنة بهم ) ( 141 ) .
ولكن حجرا المؤمن الموالي لم يسكت ، فكان كلما سمع ذلك قال : « بل إياكم فذمم
اللّه ولعن » ، ثم قال : « ان اللّه عز وجل يقول : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه
) ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لاحق بالفضل ، وأن من تزكّونه وتطرونه أولى بالذم
، فيقول المغيرة : يا حجر ، لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك ، يا حجر ويحك ،
اتق السلطان ، اتق غضبه وسطوته ، فان غضبة السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ، ثم
يكف عنه
ويصفح » ( 142 ) .
واستمر حجر و المغيرة على هذا الصراع ، حتى كان في أواخر أيام المغيرة ، فخطب
كعادته ، ونال من الإمام ( ع ) ، ولعن شيعته ، ولم يسكت حجر ( فوثب ونعر نعرة ،
سمعها كل من كان في المسجد وخارجه . قال له : إنك لا تدري أيها الانسان بمن تولع
أو هرمت ، مر لنا بأعطياتنا وأرزاقنا ، فإنك قد حبستها عنا ، ولم يكن ذلك لك ، ولا
لمن كان قبلك ، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين ، وتقريظ المجرمين ) ( 143 ) .
وكان لهذه الوثبة صداها بين الحاضرين ، إذ قام معه أكثر من ثلثي الناس ، كما في
رواية الطبري . أما في رواية الأغاني فقام معه أكثر من ثلاثين رجلا – ولعل سبب
الاختلاف بين ثلثين و ثلاثين هو اختلاف الخط القديم ، ولعل الأصح هو ( ثلثي الناس )
– يقولون ما قاله حجر ، ويكررون هذه النقمة ، فاضطر المغيرة ان ينزل ويذهب إلى دار
الإمارة ، إلا أن بعض النفعيين والانتهازيين ، الذين يتحينون مثل هذه الفرص ،
ليظهروا ولاءهم للسلطة الحاكمة ، اجتمعوا عند المغيرة ، وقالوا : « علام تترك هذا
الرجل يقول هذه المقالة ، ويجترئ عليك في سلطانك هذه الجرأة ؟ انك تجمع على نفسك
بهذا خصلتين ، اما أولهما فتهوين سلطانك ، واما الأخرى فان ذلك ان بلغ معاوية
كان أسخط له عليك » ( 144 ) . قال لهم : « إني قد قتلته ، إنه سيأتي أمير
بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها مما ترونه يصنع بي ، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله
شر قتلة ، إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي ، ولا أحب ان ابتدى أهل هذا المصر بقتل
خيارهم وسفك دمائهم ، فيسعدوا بذلك وأشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة
المغيرة » ( 145 ) .
وهذا الموقف من المغيرة يتلاءم مع مزاجه وسلوكه ، مضافا إلى أنه يدل على تناقض
بين اعماله ومعتقداته ، فإذا كان يعتقد بان حجرا وجماعته من الأخيار ، وأن البطش
بهم يؤدي إلى الذل يوم القيامة ، فهذا يدل على أنهم على حق ، وأن معاوية على باطل
وضلالة ، فلماذا يستجيب لمعاوية في سب الإمام ( ع ) والطعن فيه ، وفي شيعته
وأنصاره ؟ ولماذا ينحاز إلى صف معاوية ، ويواجه هؤلاء الأخيار ؟ ولعل موقفه هذا
لم يكن عن وازع ديني ، وخوف حقيقي من القيامة ، بل إنه هو الملائم لمزاجه وسلوكه ،
حيث كان يؤثر السلامة ، ويتجنب المشاكل والمصاعب ، أو لان وجدانه يستيقظ في بعض
اللحظات فيبصر الحق ، ولكن حبه للدينا ، وما تراكم في نفسه من أدران ، سرعان ما يقضي
على صوت الوجدان .
حجر وزياد :
ولما هلك المغيرة سنة ( 51 ) هجرية ، عين معاوية زياد ابن أبيه على
الكوفة ، بالإضافة إلى ولايته على البصرة ، وكان عليه ان يتخذ موقفا متشددا مع
الشيعة ، الذين يقود حجر حركتهم في الكوفة .
وفي بداية الأمر حاول زياد اغراء حجر ، لعله يتراجع عن موقفه ، ويكف عن أمره
بالمعروف ونهيه عن المنكر ، لذلك ( وجه إلى حجر فجاءه ، وكان له قبل ذلك صديقا ، فقال
له : « قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة ، فيحمله منك ، وإني واللّه لا احتملك على
مثل ذلك أبدا ، أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده ، فان اللّه قد سلخه من صدري
فصيره بغضا وعداوة ، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته ، فان اللّه قد سلخه
من صدري وحوله حبا ومودة ، وإني أخوك الذي تعهد ، إذا أتيتني وأنا جالس للناس
، فاجلس معي على مجلسي ، وإذا أتيت ولم اجلس للناس ، فاجلس حتى اخرج إليك ، ولك
عندي في كل يوم حاجتان : حاجة غدوة ، وحاجة عشية . إنك ان تستقم تسلم لك دنياك
ودينك ، وإن تأخذ يمينا وشمالا ، تهلك نفسك وتشط عندي دمك . إني لا أحب التنكيل
قبل التقدمة ، ولا آخذ بغير حجة ، اللهم اشهد » ( 146 ) .
فان زيادا حاول إغراءه وتهديده في نفس الوقت ، لما يعرفه من شعبية
حجر وشهرته ، وقدم له الكثير من التنازلات والإغراءات حتى يكف عن
موقفه الاسلامي المشروع ، ولكن حجرا لم يستسلم ولم يسكت ، وكانت
مواقف حجر اللاحقة جوابا على هذا الاغراء والتهديد .
فقد ذكر اليعقوبي في تاريخه : « وحين قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم
يحمد اللّه فيها ، ولم يصل على محمد ( ص ) وارعد فيها وأبرق ، وتوعد وتهدد ، وأنكر
كلام من تكلم ، وحذرهم ورهّبهم » ( 147 ) .
وقال غيره : ولما ولي زياد جمع أهل الكوفة ، فملا منهم المسجد والرحبة والقصر ،
ليعرضهم على البراءة من علي ، فقام في الناس وخطبهم ، ثم ترحم على عثمان ، وأثنى
على أصحابه ولعن قاتليه . فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعله بالمغيرة .
وحين ذهب زياد إلى البصرة بحسب ولايته عليها ، فإنه كان يشتو في البصرة ، ويعين
عمرو بن حريث بالكوفة نيابة عنه ، ويصيف بالكوفة ، ويعين سمرة بن جندب نيابة عنه
في البصرة . فحين ذهب للبصرة كان حجر يجلس في المسجد ، ويجلس حوله أصحابه ، يلهجون
باللعن لمعاوية وشتم زياد ، وتوسعت حلقته أكثر ، ولما ارتقى عمرو بن حريث المنبر ،
وجرى على سنة الولاة آنذاك ، لم يسكت حجر وأصحابه على ذلك ، بل أخذوا بالتكبير ،
ولما دنوا من عمرو حصبوه ، فرجع للقصر ،
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...