الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

وقد ذكـر المـرحوم الطبرسي كـلا التفسيرين فـي مجمـع البيان ويظهر ان معنى الآية يسع كلا التفسيرين.
وقد جـاء في حديث للامام الصادق(عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية قال فيه: (وَاعْرِفْ طَرِيْقَ نَجـاتِك، كَيْـلا تَدْعُوا اللهَ بِشَـيء عَسـى فِيْهِ هَلاكُـكَ وَأَنْتَ تَظنُّ أَنَّ فِيْهِ نَجـاتكَ، قـالَ اللهُ تَعـالـى (وَيَدْعُ الإِنْسـانُ بِالشَرِّ دُعائَهُ بِالْخَيْرِ وَكـانَ الإِنْسـانُ عَجُولا)(4).
وقد جاء في حديث آخر ان آدم نصح اولاده وقال لهم : ( كُـلُّ عَمَل تُريدُونَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 13 الصفحة 49 (ملخص).
2 – نفس المصدر السابق الصفحة 50، وبما ان الباء في «بالخير وبالشر» باء صلة فيكون معنى الجملة هكذا: «يدعو الشر كدعاءه الخير».
3 – تفسير القرطبي الجزء 6 الصفحة 3841، والفخر الرازي الجزء 20 الصفحة 162.
4 – نور الثقلين الجزء 3 الصفحة 141.
[345]
أَنْ تَعْمَلُوا فَقِفُـوا لَهُ سـاعةً فَـاِنِّي لَوْ وَقَفْـتُ ساعةً لَمْ يَكُنْ أصـابَنِي ما أَصابَنِي)(1).
ومن هذا الباب اطلق العرب عبارة «ام الندامات» اسماً للعجلة كما قيل: ان العجلة من الشيطان الاّ في ستة موارد: اداء الصلاة في وقتها، دفن الميت، تزويج البنت الباكر عند بلوغها، اداء الدين عند حلول وقته، اطعام الضيف عندما يحل، والتوبة عند اقتراف الذنب.
اما المراد من «الانسان» في عبارة «وكان الانسان عجولا» وامثالها في القرآن الكريم والتي تعبر عن نقاط الضعف المظيرة في طبيعة الانسان، فهو الانسان الذي لم يتخلق باخلا الله ولم يتربَّ على اساس التربية الرسالية والدينية ـ كما ذكرنا في التفسير الامثل ـ، لا الانسان المهذب.
* * *
وتحـدثت الآية الثانيـة عن فريق مـن المنافقين المعاندين حيث أُشير إليهم في الآيات السابقة بصفة عمي القلوب، واذا تسلموا زمام الحكم ما رحموا صغيراً ولا كبيراً، واعتبرهم الله الملعونين والمطرودين من رحمته، وقال فيهم هنا: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) لا قفل واحد بل أقفال، فكيف يمكنهم إدراك الحقائق؟
هناك بـحيث المفسـرين في ان « أم » متصـلة أو منفصـلة(2)، فـاذا كانت متصلة يكون المعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن أو أن هناك اقفالا على قلوبهم؟ وأما اذا كانت منفصلة فالمعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن؟ كلا، بل إن اقفالا على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح البيان الجزء 5 الصفحة 137.
2 – بنقل الآلوسي في روح المعاني عن سيبويه انها متصلة، بينما ينقل عن ابو حيان وفريق آخر انها منفصلة (الجزء 26 الصفحة 67).
[346]
قلوبهم.
وعلـى كلا المعنـيين فالآيـة دليل على وجود تضاد بـين « التدبر » و«الحجاب على القلوب»، ويمـكن القول: ان الآيـة تشـير الى حجاب ترك التدبر.
وقد جاء في تفسير (في ظلال القرآن):
تدبر القرآن طبقاً لهذه الآية يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب نور المعرفة على القلوب، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير ويجدد الروح ويجعلها اكثر صفاءاً واشراقاً(1).
وقد جاء بعض المفسرين بدليلين لذكر القلوب نكرة في الآية، الاول: انها ذكرت نكرة لبيان حال قلوبِهم المروّع، وانها قلوب مجهولة مليئة بالقساوة والظلمات.
الثاني: إن المراد هو بعض القلوب لا كلها، لأن بعضهم لم يصلوا الى تلك الدرجة من الظلمات بحيث تقفل قلوبهم وتتوقف عن إدراك الحقائق.
وذكر الاقفال بصيغة الجمع إشارة الى الحجب المختلفة التي تجعل على قلوبهم مثل حجاب النفاق والعناد والغرور وحب النفس وغيرها.
كما ينبغي الاشارة الى هذه النقطة وهي: إن بين «ترك التدبر» و«حجاب القلب» تأثيراً متبادلا، فكلٌّ منهما يمكنه ان يكون علة للآخر في مرحلة ومعلولا له في مرحلة اخرى، فتارة ترك التدبر ينشأ عن ظلمات القلب، وتارة اخرى ظلمات القلب تنشأ عن ترك التدبر.
وننهي حديثنا هذا برواية عن الامام الباقر(عليه السلام) جاء فيها:
عن الباقر(عليه السلام) قال: قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حرفه وضيّع حدوده
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – في ظلال القرآن الجزء 7 الصفحة 462.
[347]
واقامه اقامة القدح فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في ساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل الله عزوجل من الاعداء وبأولئك ينزل الله عزوجل الغيث من السماء فوالله لهؤلاء في قرّاء القرآن اعز من الكبريت الاحمر(1).
* * *
14 ـ حجاب الارتداد
في البداية نصغي خاشعين للآية التالية:
( اِتَّخَـذُوا اَيْمـانَهُمْ جُنَّـةً فَصَـدُّوا عَـنْ سَبِيـلِ الله اِنَّهُـمْ سـاءَ مـا كـانُـوا يَـعْمَُونَ * ذلِكَ بِـاَنَّهُـمْ آمَنُـوا ثُـمَّ كَفَـرُوا فَطُبـعَ عَلَـى قُلُـوبِهِـمْ فَهُـمْ لا يَفْقَهُـونَ )
(المنافقون / 2 ـ 3)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
إن هذه الآية ناظرة الى المنافقين، وبالرغم ان النفاق حجاب مستقـل بحـد ذاته إلاَّ ان القرآن هنا يذكر موضوعاً آخر في هذا المجال حيث يقول: ( بِاَنَّهُمْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – اصول الكافي الجزء 2 الصفحة 627 الحديث 1.
[348]
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).
يعتقد بـعض المفسرين : ان الاشخاص المعنيين في الآية هم فريق آمنوا ظاهراً وضلوا كفاراً باطناً.
إلاّ ان ظاهر الآية يكشف عن أنهم في البداية آمنوا حقاً، ثم كفروا بعد ايمانهم، وكان كفرهم هذا متزامناً مع النفاق، لأن التعبير بـ «ثم» يدل على أن كفرهم حصل بعد الايمان لا انه كان متزامناً مع الايمان ليكون احدهما ظاهراً والاخر خفياً. وعلى هذا فالآية تتحدث عن حجاب الارتداد.
ولا عجب في أن يطبع الله على قلب من آمن وذاق طعـم الايمان وحلاوته، وشاهد أنوار الرسالة، ثم كفر كفراً تزامن مع النفاق.
إذا الـتبس الـحق علـى شخص منذ البداية فعـذره يمكن ان يكون وجيهاً، اما اذا ارتد عن الايمان بعد ما عرف الحق وآمن به، فهذا غالباً ما يكشف عن حالة العناد عند هذا الشخص، والله يسلب نعمة المعرفة عن اشخاص كهذا ويطبع على قلوبهم.
بالبطبع لا دليل لنا على أن كل المنافقين كانوا غير مؤمنين منذ البداية، بل إنَّ فريقاً منهم آمنوا في البداية حقاً ثم ارتدوا كما جاء ذلك في سورة التوبة الآية (74): (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسلامِهِمْ)، وهذا النفاق المتزامن مع العناد هو الذي يجعل حجاباً على القلوب.
ونؤكد تـارة اخرى ان هذا الحديث لا يدل على الجبر اطلاقاً، لأن مقدمات هذا الحرمان أوجدها المنافقون بأنفسهم.
* * *
15 ـ حجاب الكذب والافتراء
[349]
في البداية نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ ( اَلَـمْ تَـرَ اِلَـى الَّـذِيْنَ اُوتُـوا نَصِيْبـاً مِـنَ الْكِتـابِ يُـدْعَوْنَ اِلى كِتـابِ اللهِ لِيَـحْكُمَ بَيْنَهُـمْ ثُـمَّ يَتَوَلَّى فَـريْقٌ مِنْهُـمْ وَهُـمْ مُعْـرِضُونَ * ذلِكَ بِـانَّهُمْ قـالُوا لَـنْ تَمَسَّنـَا النّـارُ اِلاّ اَيّـامـاً مَعْـدُودات وَغَـرَّهُمْ فِـي دينِهِـمْ مـا كـانُوا يَفْتَـرُونَ)
(آل عمران / 23 ـ 24)
2 ـ ( وَلَقَـدْ مَـكَنّـاهُمْ فِيـمـا اِنْ مَـكَّنـاكُـمْ فِيـهِ وَجَعَلْنـا لَهُـمْ سَمْعـاً وَأَبْصاراً وَاَفْئِـدةً فَمـا أَغْنَـى عَنْهُـمْ سَمْعُهُـمْ وَلا اَبْصـارُهُـمْ
وَلا اَفْئِدَتُهُـمْ مِنْ شَىْء اِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)
(الاحقاف / 26)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
خُداع الكذب:
يقول بعض المفسرين في شأن نزول الآية الاولى:
ان رجلا وامرأة من اليهود زنَيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في امرهما الى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رجاء ان يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: بيني وبينكم التوراة فان فيها الرجم فمن أعلمكم؟
قالوا: عبدالله بن صوريا الفدكي، فأتوا به واحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام الذي كان على ملة اليهود واسلم.
[350]
قد جاوز موضعها يا رسول الله، فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) برجمهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
يقول القرآن في هذا المجال: (اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِيْنَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ اِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَريقٌ مِنهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
ثـم يـضيف : (ذلِكَ بِـانَّهُـمْ قـالُـوا لَـنْ تَمَسَّنَـا النّـارُ اِلاّ اَيّـاماً مَعْدُودات وغَرَّهُمْ فِي دينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).
«يفترون» من مادة «الافتراء» ومن أصل «فري» الذي يعني القطع وشق الجلد بهدف الاصلاح، إلاّ انه قد تستعمل في صيغة «الافراء» فتعني القطع بهدف الافساد، و«الافتراء» معناه واسع، أي القطع سواء كان بهدف الاصلاح أو الافساد، بالرغم من استعماله في أغلب الأحيان في مجال الافساد والتخريب، كما استعملت هذه المفردة في مجال الكذب والشرك والظلم(2).
أما «غرّهم» فمن مادة «غرور» ومشتثقة مـن «غُر» بمعنـى ظاهـر الشيء، ولهـذا قيل للأثر الظاهر في جبين الحصان «غُرة»، كما تستخدم في القماش اذا طُـوي بشـكل حيث تظهـر عليه آثار الطوي، كما تستعمل هذه المفردة بمعنى الخداع، وكأن الطرف المخدوع يُطوى كالقماش(3).
أما «غَرُور» فيعني الشخص و الشي الذي يخدع الانسان، كما تطلق على الشيطان الخادع(4).
وقد قيل في كيفية أن الكـذب والافتراء يخدعان الانسان ويحجبان عنه المعرفة وما ذكر صاحب الميزان:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 7 الصفحة 232.
2 – مفردات الراغب مادة (فري).
3 – مفردات الراغب مادة (غرور).
4 – لسان العرب مادة (غرور).
[351]
«ان الانسان يجري في اعماله وافعاله على ما تحصل عنده من الاحوال او الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به، كما ان المدمن على اسعمال المواد المخدرة ونحوها يستعملها وهو يعلم انها مضرّة غير لائقة بشأنه وذلك لان حالته وملكته النفسانية زيّنت له هذه الامور واضفت عليها نوعاً من الجاذبية بحيث لم تدع له مجالا للتفكر والاجتناب.
وبعبارة اخرى انهم كرروا الكذب ولـم يزالوا يكـررونه ويلقنـونه أنفسهم حتى اذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا اليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه(1).
إن هذا مجربٌ، فتارة يتفوه الانسان بحديث كذب ويعلم أنه كذب وافتراء، وعلـى ضوءِ اعـادة الحـديث يقع في شك منه، ثـم يعيده مـرات اخـرى فيصدق به، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته، فيصير حجاباً أمام رؤيته العقلية السليمة.
وعلى هذه فلا مـجال للقول بان الكـذابين هم فريق من اليهود ان المخدوعين يمثلون فريقاً آخر.
* * *
وقد أشارت الآية الثانية الى قوم عاد، وهم قوم ذو قدرة، كانـوا يـعيشون في الاحـقاف (جنوب أو شمال الجزيرة العربية)، وابتلوا بالـريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم «هود» وإثر ظلمهم وفسادهم في الارض.
فالآيـة تقول: (وَلَقَدْ مَكَّنـاهُمْ فِيْمـا اِنْ مَكَّنـاكُمْ فِيْهِ وَجَعَلْنـا لَهُمْ سَمْعاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الميزان الجزء 3 الصفحة 125.
[352]
وَأَبْصاراً … وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
إن الآيـة تـؤكد أن تكذيبهم المتـوالي لآيات الله سبَّب سلب إدراكهم ومعرفتهم، فابصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهراً، إلاّ ان الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب الله.
«يجحدون» من مادة «جحود» ويعني في الأصل نفي شيء تيقن الانسان من وجوده أو اثبات شيء يؤمن الانسان بعدمه، وبتعبير آخر: الجحود يعني انكار الواقعيات عمداً وعن معرفة(1).
إن التجربة أثبتت ان الانسان اذا ما استمر في انكار الواقعيات، فستصبح القطعيات عنده ـ تدريجياً ـ شكاً، واذا استمر الانكار أكثر فان قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلا والباطل حقاً.
وهناك مناشيء وعلل لهذا العمل (أي انكار الواقعيات مع العلم والمعرفة)، فتارة ينشأ عن العناد، وتارة اخرى عن التعصب، وتارة عن الكبر والغرور، وتارة يقدم الانسان عليه حفاظاً على مصالحه المادية التي تتعرض للخطر إذا ما كشف عن الحقائق، وتارة لأجل شهوات اخرى، وعلى أي حال فان لهذا العمل مردوداً سلبياً، وهو حدوث حجاب على العقل والفطرة فتنقلبُ قدرة التمييز عند الانسان رأساً على عقب.
* * *
16 ـ حجاب الظن السميك
إن اتباع الظنون الباطلة يغير العقل تدريجياً ويحرفه عن جادة المعارف
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب مادة (جحد)، كما يقول الجوهري: إن الجحود هو الانكار مع العلم. كما ذكر ذلك صاحب مجمع البحرين في مادة (جحد).
[353]
الأصيلة، ويجعل حجاباً أمام عينيه واذنيه.
في البداية نصغي معاً خاشعين للآية التالية:
(وَحَسِبُوا اَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِنْهُم وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)
(المائدة / 71)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
إن هذه الآية ناظرة الى فريق من اليهود الذين عاهدوا الله على أن يتبعوا دعوات الأنبياء ويخضعوا لها، إلاّ أنهم كلما جاءهم رسول يأمرهم بما يخالف أهواءهم النفسية نهضوا ضده أو قتلوه.
ثـم تـضيف الآية: إنـهم حسبوا أن لا تكون فتنة ولا عذاب، وهذا ظن باطل نشأ عن حب الدنيا والكبر والغرور، ظن باطل تدع اليه الشياطين والاهواء النفسية، وهذا الظن هو الذي ألقى بحجابه على أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم فحال دون أن يعقـلوا شيئـاً، فلـم تعد ابصـارهم تدرك الآثار المتبقيـة من المصير المؤلم للاقوام السالفة ولم تعد آذانهم تمتلك قدرة سماع قدرة سمـاع ما يُنقل عنهم، وبهذا فقدوا هاتين الوسيلتين المهمتين للمعـرفة ـ السمع والبصر ـ من الناحية العملية وظنوا انهم في امان من عذاب الله. وقد حصل لهم هذا الظن من خِلال السير في الأرض ودراسة التاريخ والأقوام السالفة، فما سمعوا عن تلك الاقوام بآذانهم، ولا شاهدوا بأعينهم، بل ان ابصارهم وآذانهم وأفئدتهم عاطلة عن العمل فحسبوا أن لا عذاب لهم.
إلاّ أنه بعد انقضاء وطر من الزمن أدركوا خطأهم والتزموا طريق التوبة، وقد
[354]
وسعتهم رحمة الله فقبل توبتهم.
ومرة اخرى خدعتهم ظنونهم الباطلة فظنوا انهم شعب الله المختار في أرضه (بل أبناء الله)، فأسدلت ستائر العمى والصم والجهل عليهم وطُردوا من رحمة الله تارة اخرى.
إن هذه الآية تبين بوضوح ان الظنون الباطلة وخاصة ظن الأمان من عذاب الله يجعل غشاوة على الباصر والمسع ويعطلهما عن العمل.
وعلى هذا، فالمراد من «فعموا وصموا» هو أن أعينهم ما بصرت آيات الله والآثار الباقية من الاقوام السالفة، وان آذانهم ما صغت لمواعظ الرسل.
وبديهي ان اتباع الظن الباطل لمرة أو مرات لا يترك هذا المردد السلبي في الانسان، بل الاستمرار عليه هو السبب في ذلك.
وهناك أقوال في سبب عطف الجملة الثانية على الاولى بـ «ثم» التي تدل على الفاصل الزمني.
فقال البعص : إن استعمالها للاشـارة الـى مصيـرين مختـلفين لليهـود، أحدهما عندما هاجمهم أهل بابـل، والثـاني عندما هاجمهم الايرانيون والروميون وأسقطوا حكومتهم(1)، وقد جاء شرح ذلك في التفسير الأمثل في بداية سورة بني اسرائيل.
وقال البـعض : إن الجملة الاولى اشارة الى عهد زكـريا ويحيـى وعيسى حيث خالفهم اليهود آنذاك، والعبارة الثانية اشارة الى عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أنكروا نبوته ورسالته(2).
وقال البعض: إن العبارة الاولى تبين ان الله لعنهم وطردهم من رحمته وأعمـاهم وأصمهم لأجل ظنهم الباطل من أنهم شعب الله المختار، وقد شملتهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – المنار الجزء 6 الصفحة 481.
2 – وقد ذكر هذا التفسير كاحتمال في تفسير الفخر الرازي الجزء 12 الصفحة 516 وكذا في روح المعاني الجزء 6 الصفحة 184.
[355]
رحمة الله بعد ذلك فتاب عليهم ورفع عن قلوبهم ذلك الظن الباطل، فأبصرهم وأسمعهم تارة اخرى كي يلتفتوا الى حقيقة وهي: عدم وجود فرق بينهم وبين غيرهم إلاَّ بالتقوى.
إلاّ أن حالة الوعي واليقظة هذه لم تستمر عندهم، وتورط بعضهم بنفس الحسبان الخاطيء القائم على اساس التفرقة العرقية تارة اخرى، فأعماهم وأصمهم الله ثانياً(1).
والجمع بين هذه التفاسير ليس بعيداً، ونتيجتها جميعاً واحدة وهي: إن الظن الباطل ( كظن اليهود انهم شعب الله المختار ) يمنع الانسان تدريجياً عن الادراك والفهم ويحرفه عن جادة الصواب، واذا كان هذا الظن في بدايته فيقظة العقل محتملة، ورجوعه عن هذا الحسبان ممكن، اما اذا تفاقمت الظنون وتأصلت في ذاته فيصبح الرجوع عنها أمراً غير ممكن.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 6 الصفحة 71.
[356]
[357]
القسم الثالث:
الحجب الخارجية:
[358]
[359]
الحُجُب الخارجية
17 ـ حجاب القادة الضالين والفسدة
تمهيد:
إن الحجب الخارجية هـي الحجب التي تكـمن وراء أعمال الانسـان وصفاتـه وتؤثر على العقل والادراك وملكة التمييز وتحول دون معرفة الحقائق، وهي عديدة تشكل مساحة واسعة، وقد أشار اليها القرآن بأساليب متعددة وجميلة.
1 ـ ( وَقـالُوا رَبَّنـا اِنّـا اَطَعْنـا سـادَتَنـا وَكُبَرائَنـا فَاَظَلُّونـا السَّبِيلا * رَبَّنـا آتِهِم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)
(الاحزاب / 67 ـ 68)
2 ـ ( وَلَوْ تَـرَى اَذَ الظّـالِمُونَ مَوقُـوفُونَ عِنْـدَ رَبِّهِـمْ يَرْجِـعُ بعْضُهُـمْ اِلـى بَـعْض الْقَـوْلَ يَقُـولُ اَلَّـذِيْنَ اسْتُضْعِفُـوا لِلّـذِينَ اسْتَـكْبَـرُوا لَـوْلا اَنْتُـمْ لَكُنّـا مُؤمِنينَ * قـالَ الَّـذِينَ اسْتَكْبَـرُوا لِلَّـذِيْنَ اسْتُضْعِفُـوا أَنـحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ اِذْ جـائَكُم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)
[360]
(سبأ / 31 ـ 32)
3 ـ ( قـالَ ادْخُلُـوا فِي اُمَـم قَـدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُـمْ مِـنَ الْجِـنِّ وَالإنْـسِ فِي النّـارِ كُـلَّمـا دَخَـلَتْ أُمَّـةٌ لَـعَنَتْ أُخْتَهـا حَتّـى اِذا اِدّارَكُـوا فِيهـا جَمِيعـاً قـالَتْ اُخْراهُمْ لاُِلـهُمْ رَبَّنـا هَؤلاءِ اَضَلُّونـا فَآتِهِم عَذاباً ضِعْفـاً مِنَ النّـارِ قالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)
(الاعراف / 38)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
شجار اصحاب النار:
إن الآية الاولى تبيّن حال فريق من الكفار عندما يرون نتيجة أعمـالهم عند الله، فيقولون: (رَبَّنـا اِنّـا اَطَعْنـا سـادَتَنـا وَكُبَرائَنـا فَاَظَلُّونا السَّبِيلا)، فما كنا نُبتَلى بهذا المصير لولاهم، ثم يقولون: (رَبَّنـا آتِهِم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ) (عذاباً لكفرهم وعذاباً لأنهم أضلونا) (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً).
فهم لا يـريدون سوى تبرير أعمالهم بكلامهم هذا، صـحيح ان لـرؤسائهم دوراً في انحرافهم، لكن هذا الأمر لا يسلب عنهم المسؤولية تجاه أعمالهم.
وصحيح أن وسوسة القادة الفسدة والزعماء الضالين والمضلين جعلت حجاباً على عقولهم وأفكارهم فحال دون تفكيرهم الصحيح، إلاٍّ أن مقدمات هذا الأمر هم هيأوها بأنفسهم لأنهم سلموا أنفسهم عشوائياً الى هؤلاء من دون احراز اهليتهم للقيادة.
وهنـاك خلاف بين المفسـرين في الفـرق بين سـادتا وكبرائنا، أو بالأحرى هل هناك فرق بينهما أم لا؟
يعتقد البعض ان «سادتنا» إشارة الى ملوك وسلاطين المدن والدول،
[361]
و«كبرائنا» اشارة الى الرؤساء المحليين، حيث عُدت طاعة السادة مكان طاعة الله، وطاعة الكبراء مكان طاعة الرسول، فقدرة وصلاحية الفريق الأول أكثر من الفريق الثاني ولهذا قُدِّم.
ويعتقد البعض ان السادة اشار الى الملوك واصحاب القدرة، والكبراء اشارة الى كبار السن، ولهذا يتبعهم بعض الناس.
ويعتقد آخرون ان كليهما بمعنى واحد وانهما قد وردا للتأكيد(1).
ويبدو أن المعنى الأخير أنسب من جميع المعاني السابقة.
وتجدر الاشارة الى أن «سادة» جمع «سيد» والسيد يعني رئيس السواد (اي الجمع الغفير من الناس، وقد اُطلق عليه سواداً من باب انه يبدو أسود اللون من بعيد) ثم اطلقت هذه المفردة على كل رجل كبير.
* * *
وقد تحدثت الآية الثانية عن الكفار الظـالمين الـذين اذا مـا رأوا نتيجة أعمالهم في الآخرة سعى كلٌّ منهم لإِلقاء ذنبه على الآخر، فيقول حينها المستضعفون (أي المغفّلون) للمستكبرين (أي الظلمة وأصحاب السلطة الذين أضلوا الآخرين بأفكارهم الشيطانية): لولا وساوسكم المغرية والشيطانية لَـكُنّا في صفوف المؤمنين، لقد غسلتم أدمغتنا، وأتبعناكم جهلا، وجعـلتمونا آلة بأيديكم لتحقيق مآربكم الشيطانية، وقد فهمنا الآن أن كنّا على خطأ.
بالطبع لم يخرس المستكبرون عندها، بل يجيبون: (أَنحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ اِذ جائَكُم) الرسل بالبينات والحجج الكافية؟ إنكم مخطئون ونحن غير مسؤولين عن ضلالتكم، (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) ومذنبين لأنكم تركتم ما دعتكم إليه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع تفسير روح المعاني الجزء 22 الصفحة 87 والميزان الجزء 16 الصفحة 369 والفخر الرازي الجزء 25 الصفحة 232.
[362]
الرسل واتبعتم الأقاويل الباطلة بالرغم من إرادتكم واختياركم.
* * *
وقد أشارت الآية الثالثة الى شجار «القادة» و«الأتباع» الضالين في جهنم، فكلما دخلت امة لعنت الاخرى واعتبرتها هي المسؤولة عن شقاءها وعذابها في الآخرة، ويقول الأتباع يومذاك: (رَبَّنا هَؤُلاءِ اَضَلُّونا فَآتِهِم عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ)عذاباً لأنهم ضالّون وعذاباً لأنهم أضلونا وأغوونا.
فيجيبهم الله: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).
إن مضاعفة العذاب لقادة الباطل أمر متوقع وليس عجيباً، إلاّ ان مضاعفة العذاب لأتباعهم أمر قد يبدو غريباً للوهلة الاولى، لكنا إذا دققنا في الأمر نجد ضرورة مضاعفة العذاب لهم، عذاب: لأجل أنهم ضالون، وعذاب: لأجل اعانتهم أئمـة الكفر والذود عنهم والقتال دونهم، كما جاء ذلك في حديث للامام الصادق(عليه السلام)عندما جاءه أحد صحابته ملعناً توبَتُه عما قدمة لبني أمية من خدمات، يقول فيه:
( لَوْلا أَنَّ بَـنِي اُميَّـةَ وَجَـدُوا مَـنْ يَـكْتُبُ لَهُـم ويُجْبِـي لَهُمْ الفِيءَ وَيُقاتِلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَمـاعَتَهُمْ لَمـا سَلَبُونـا حَقَّنـا)(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 72 (75) الصفحة 375، وسفينة البحار الجزء 2 الصفحة 107 مادة «ظلمة».

 

شاهد أيضاً

الكبائر من الذنوب

الكبائر من الذنوب – الحاج حسين الشاكري الكبائر من الذنوب الذين ضل سعيهم في الحياة ...