لا أحد في الشرق الأوسط يملك مهارة و حنكة و صبر و ذكاء المفاوض الإيراني ، هذه حقيقة تحدثت عنها أغلب وسائل الإعلام العالمية دائما و بالذات بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران و مجموعة الدول الكبرى ، لعب المفاوض الإيراني لعبة التفاوض بكل الوسائل المذكورة و على طريقة البيع و الشراء المعروفة في ” البازار” الإيراني زائد ابتسامة التاجر الرصين العارف بقوانين اللعبة التجارية، و على مدى سبعة عشر يوما من المفاوضات النهائية على المستوى الوزاري لم ينخفض نسق إدارة التفاوض الإيراني و شكل بذلك سابقة تاريخية قل نظيرها في التاريخ الحديث ، و رغم كل محاولات المخابرات الغربية لفك شفرة العقل المفاوض الإيراني و قراءة كف تصريحاته الإعلامية و البحث بكل الطرق عن اختراق ما تحتويه دفاتره و ملحوظاته و تدويناته اليومية فقد ثبت مرة أخرى أن المخابرات الإيرانية قد قامت بدور على مستوى عال من الحرفية لتأمين المفاوض الإيراني و منع أي اختراق و هو ما يمثل حدثا و سابقة تاريخية أيضا على هذا المستوى بالنظر إلى اختراق المخابرات الأمريكية للوفد المصري في كامب ديفيد و الوفد الفلسطيني في محادثات واى ريفر الشهيرة .
من المهم التذكير اليوم ، رغم أنه من المعيب الحديث في هذا الأمر ، أن الشعب الإيراني قد وقف صفا واحدا و في أغلبيته الساحقة و رغم تعدد القوميات فيه وراء المفاوض الإيراني في موقف يشكل سابقة تاريخية أيضا في منطقة الشرق الأوسط بالذات ، الرئيس المصري أنور السادات مثلا واجه انقساما حادا داخل الشارع و داخل الطبقة المثقفة فضلا عن الانقسام الحاد بين الدول العربية الذي نتج عنه نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس في حدث يعد سابقة تاريخية منذ انبعاث الجامعة نفسها ، الرئيس ياسر عرفات عرف نفس المواجهة و إلى اليوم ما زالت فلسطين تعانى من تبعات مفاوضات أوسلو و التي كان من أول ضحاياها الشهيد عصام الصرطاوى ، من المهم التذكير أن هذا الاتفاق يأتي ثمرة صمود الشعب الإيراني بأسره أمام جملة من العقوبات الاقتصادية و السياسية الظالمة و ثمرة إصرار الجانب الإيراني على حقه في التقنية النووية السلمية التي يجمع الملاحظون اليوم أنها تحولت إلى كسب مكن الجانب الإيراني من تقنيات النووي العسكري و من سبر أغوار التقنية المتقدمة في كثير من المجالات.
في المقابل ، فشل المفاوض المصري بعد مفاوضات حرب أكتوبر 1973 ، و فشل العرب في التعبير عن موقف فاعل عند غزو أريال شارون لعاصمة الثقافة العربية بيروت سنة 1982 ، نفس المواقف الفاشلة الهزيلة عند كل الاعتداءات على غزة ، عند ضرب المفاعل العراقي ” تموز “، سنة 1981 ، عند الهجوم الصهيوني على لبنان صيف تموز 2006 ، عند ضرب مدينة حمام الشط التونسية ، عند حصار ياسر عرفات في رام الله طيلة شهور إلى حين استهدافه بالقتل الذي بقى من الأسرار المجهولة ، هذه بعض المحطات المهمة في تاريخ الفشل العربي ، لكن إيران لم تدخل هذه المفاوضات بصف منخرم و غير متناسق و بخيارات غير مضبوطة و غير مقنعة بل بخيار تفاوضي منسجم تماما لم تحركه كل العواصف و التسريبات الإعلامية المغرضة و هو دليل على ذهنية تفاوضية ممتازة بإمكانها انتزاع انتصارات تفاوضية من جبهة عالمية تتكون من ست دول تتزعمها أكبر قوة عالمية تدير السياسة الدولية في جميع مفاصلها ، لكن عرب الفشل المعلن لا يزالون على عنادهم كما فعلوا إبان انتصار تموز 2006 يزعمون أن هذا الاتفاق عنوان فشل كما قالوا أن حزب الله قد خسر الحرب .
لم يكن وراء إيران “جامعة ” تضم دولا متناحرة منبوذة ، و لم تكن إيران في حاجة “لامين” عام ” الجامعة” ليكون عونا في هذه المفاوضات التاريخية العسيرة ، و لم تكن تحتاج إلى مساندة “خادم الشيطانين” السعودي و لا إلى ” حكمة ” رئيس مسافة السكة المصري ليتحدث و ينقل باسمها طلباتها ، و مع ذلك دخلت إيران هذه ” الحرب” التفاوضية الشاقة مستعملة كل أوراقها السياسية الناجحة مثل الورقة السورية ، الورقة العراقية ، الورقة اللبنانية و أخيرا الورقة اليمنية و لم لا الــورقة البحرينية السعودية ، فالعملية و مربط الفرس إن صح التعبير تتعلق باللعب بكل الأوراق التفاوضية الممكنة و في الوقت المناسب خاصة أن الإدارة الأمريكية قد فشلت في تنفيذ مؤامرتها على سوريا ، و فشلت في اليمن و لبنان ، و باتت تبحث عن مخرج من هذا المأزق العراقي و هي تعلم تماما أنه لا منقذ إلا إيران و لا ملاذ في التفاوض حول هذه الأوراق إلا بالجلوس إلى الجانب الإيراني ، و عندما يتم استدعاء وزير خارجية السعودية إلى واشنطن لإبلاغه بالتوقيع النهائي على هذا الاتفاق بعد العدو الصهيوني و تركيا و كثير من البلدان الغربية الأخرى فهذا دليل واضح على المرتبة السياسية المتدنية لهذا النظام في قائمة الدول المهمة في العالم .
لقد كان لافتا منذ نجاح الثورة الإيرانية و كنس بقايا نظام العمالة للشاه محمد رضا بهلوى أن الحكومات الإيرانية المتعاقبة قد فرضت على نفسها ثقافة تقشف “مرعبة” خلافا للتبذير الخليجي ، و قامت بكل ما في وسعها لتخرج من عنق الزجاجة الاقتصادية بحيث تعاطت بكثير من الحنكة و المرونة مع الزوابع الاقتصادية العالمية المتواصلة لتصنع انتصارا اقتصاديا إيرانيا في كل المجالات ، و حين نقف على الكم الهائل من البحوث العلمية الممتازة سنويا ندرك إن الموارد الإيرانية قد تم استغلالها استغلالا جيدا يعود بالنفع على الأمة الإيرانية إن عاجلا أو آجلا و هو انتصار سياسة الحوكمة الإيرانية ، هذا إلى “البنية” التحتية من العلماء في كل المجالات ، هنا يجب أن نقف على حقيقة مهمة مفادها أن هذه القوة الإيرانية الصاعدة تحتاج إلى قوة عسكرية تحميها و هو ما انتبهت إليه القيادة الإيرانية بدليل المناورات العسكرية المتواصلة لتأكيد الجاهزية القتالية وردع المعتدين في حين شكلت “عاصفة الحزم” السعودية عنوانا مثيرا لفشل القدرة العسكرية الخليجية المصرية مجتمعة و تلك قصة فشل أخرى .