في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران…
دراسة كتبتها في 2012 نعيد نشرها للفائدة
بقلم د. أكرم الحكيم
محور هذا القسم من دراستنا, أي الخطط والسياسات التي أعتمدتها الولايات المتحدة في مواجهة الثورة الشعبية في أيران قبل ثلاث وثلاثين سنة…وقبل ذلك نريد أن نصحّح رقما ذكرناه في القسم السابق عن عدد الخبراء والمستشارين الأمريكان الموجودين داخل أيران قبل أنتصار الثورة,الصحيح هو 58000 أمريكي وليس 40000 كما ذكرناه . يمكن تقسيم تلك الخطط والسياسات الى أربعة مراحل بحسب درجة أستقرار نظام الشاه الحاكم, ودرجة فاعلية القوى المعارضة له ,أضافة الى طبيعة السياسات الخارجية الأمريكية في المنطقة والمتغيرات الأقليمية والدولية في كل مرحلة. وأهم تلك المراحل :
1ـ المرحلة الممتدة من الأنقلاب العسكري في 19/8/1953م على حكومة محمد مصدق
الوطنية,الذي قام به الجنرال فضل الله زاهدي والمدعوم أمريكيا بواسطة مبعوث المخابرات الأمريكية (كيرمت روزفلت) ,ولغاية بدء الأحتجاجات الشعبية ضد الشاه عام 1978 ,وتميزت بالدعم المطلق لنظام الشاه من قبل الولايات المتحدة, بل وتميّزت بالتدخل المباشر وبناء الأجهزة الأمنية للشاه (الساواك) التي تميزت بوحشيتها في التعامل مع المعتقلين السياسيين بأعتراف نفس التقارير الأمريكية ,فضلا عن الدعم العسكري والسياسي والأعلامي والتحريض على مواجهة القوى الرجعية (أي القوى الأسلامية وعلماء الدين ).
2ـ المرحلة التي تقع بين تاريخ بدء الأحتجاجات 1978 وبين تاريخ أتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها الرئيسيين مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا قرارا يقضي بمغادرة الشاه لأيران(تم أتخاذه في أجتماعهم في جزيرة غوادلوب بتاريخ 7/1/1979), وفي هذه المرحلة حاولت الأدارة الأمريكية المحافظة على جوهر النظام الملكي أي ركائزه الأساسية ( منظومته العسكرية والأمنية والأدارية ) والقيام بأصلاحات شكلية وتغيير بعض الوجوه ,مع المحافظة على سياسة تشويه صورة الحركة الشعبية وصورة قيادتها الأسلامية (بأتهامها بالرجعية وسعيها للعودة بأيران الى القرون الوسطى تارة أو بأتهامها بالسقوط في أحضان الشيوعيين و بالتبعية لأوامر الأتحاد السوفيتي تارة أخرى…!!), وأستمرار سياسة التحريض على أستخدام العنف المفرط ضدها كما حصل في مجزرة ميدان (جالة /حاليا ميدان الشهداء في طهران)وغيرها.
3ـ المرحلة الثالثة والأخيرة قبل الأنتصار : وهي الفترة بين أتخاذ قرارمغادرة الشاه لأيران
وتاريخ أنهيار حكومة بختيار وفراره وأنهيار المجلس العسكري (الذي كان يديره الجنرال الأمريكي روبرت داج هايزر المبعوث من واشنطن) وسقوط النظام وأنتصار الثورة الشعبية في (11/2/1979) , وفي هذه الفترة كان واضحا أن الأدارة الأمريكية أقتنعت بعدم قدرة الشاه على أعادة السيطرة على الأوضاع وبعدم قدرة النظام الملكي على البقاء في السلطة والفشل
الذريع لكل خطط وسياسات ماأعتبروه أصلاحا للنظام من الداخل وكذلك فشل خداع الجماهير الثائرة وقيادتها وفشل سياسات التخويف من عواقب سقوط أو تغيير النظام ( تقسيم أيران وسيطرة الشيوعيين والفوضى الشاملة …الخ), وأقتنعت أيضا بعدم أمكان الأستبعاد الكامل للقوى المعارضة للشاه ونظامه بمافيهم الأسلاميون …في هذه المرحلة قامت الأدارة الأمريكية بأخراج الشاه وأبرز رموز نظامه من معادلة النظام المستقبلي , وقامت بتحشيد أبرز رجالها في المؤسّسة العسكرية والأمنية الأيرانية لدعم حكومة بختيار وكل سياساتها في هذه المرحلة كانت تستهدف كسب الوقت, لأنها تعلم أن لاقاعدة شعبية حقيقية لبختيار وليس له أيضا أية مقبولية لدى رجال الشاه ومؤسّساته, كما أن أغلب ضباط جيش الشاه الكبار كانوا يفضّلون الخروج مع الشاه من أيران على البقاء لدعم حكومة بختيار, ولهذا السبب أرسلت الأدارة الأمريكية الجنرال هايزر.. أولا لدفع ضباط الشاه الى دعم حكومة بختيار ,وفي حالة سقوطها يتم تنفيذ سيناريو الأنقلاب العسكري وتنفيذ مجازر وحشية بحق الجماهير الثائرة وأعلان حالة الطواريء والحكم العسكري وبعد ضبط الأوضاع والقضاء على قيادة الثورة الشعبية وكوادرها, يتم التهيئة لأيجاد نظام حكم مدني مع حريات ومؤسسات وأنتخابات وأعلام حر ولكن دون أن تؤثر على الركائز الحقيقية للنظام الدكتاتوري التابع للنفوذ الأمريكي…
أضافة الى أرسال الجنرال الأمريكي هايزر ,قام الرئيس الأمريكي كارتر بأرسال رسالةسرية و شخصية الى الأمام الخميني بواسطة الرئيس الفرنسي,تضمّنت ثلاثة نقاط أساسية هي طلب دعم حكومة بختياروأعطائها المهلة اللازمة للأصلاح وتأخيرعودته ( الأمام) الى وطنه و التهديد بأنقلاب عسكري ودعوة الأمام للحفاظ على أرواح المواطنين..وكما بينا سابقا كان هدف الرسالة كسب الوقت لتمكين بختيار من توطيد ركائز حكمه وتحقيق بعض الأصلاحات الجزئية وسحب البساط من تحت أقدام القيادة الأسلامية للثورة.. وقامت قيادة الثورة بعكس ماطلبه كارتر.
4ـ المرحلة الرابعة وهي ليست موضع أهتماننا كثيرا بأستثناء السنوات الأولى, لأنها تتعلق بسياسات الولايات المتحدة تجاه النظام السياسي الجديد الذي أنبثق نتيجة الثورة الشعبية , وهي الفترة الممتدة من 11/2/1979 ولغاية يومنا الراهن , وتراوحت السياسات الأمريكية من دعم عمليات أغتيال قادة الثورة خاصة بعد فشل محاولة أختراقها(بدأت التصفيات الكبيرة لقادة الثورة بعد هروب الرئيس الأول للجمهورية أبو الحسن بني صدر وأفتضاح الدور الحقيقي لمنظمة مجاهدي خلق وفرزها بشكل كامل عن جسم الثورة والنظام ),ومرورا بالعمليات العسكرية الخاصة(طبس) ثم سياسة تطويق أيران بأنظمة معادية لتحجيم النظام الجديد تمهيدا لأسقاطه…. حيث تم تنفيذ أنقلابات عسكرية في عام1979م في تركيا والباكستان(الأنقلاب العسكري ضد الرئيس ذوالفقار علي بوتو والمجيء برجل السعودية وأمريكا ضياء الحق) والعراق(أزاحة البكر والمجيء بصدام) ..ودعم النظام البعثي في بغداد لشن الحرب العدوانية الشاملة على أيران لأسقاط النظام الأسلامي في طهران أو أحتلال مناطق النفط في الجنوب على الأقل…و تحشيد دعم الحكومات العربية الرجعية في الخليج والمنطقة لدعم صدام في الحرب ..ومرورا أيضا بالحصار الأقتصادي والحرب النفسية والأعلامية وأثارة الصراعات المذهبية والقومية وتأجيجها في الدول العربية والأسلامية (سنّة و شيعة وعرب وفرس ) لمنع تفاعل شعوبها مع الثورة ونظامها السياسي الجديد في ايران ,أضافة الى محاولة خلق الفتن الداخلية في أوساط القوميات الأيرانية المتنوعة وتأجيج دعوات الأنفصال (العرب في خوزستان والكرد في كردستان والترك في آذربيجان والبلوش في بلوشستان) ودعم المجموعات الأرهابيةالأيرانيةمثل منظمة مجاهدي خلق ماديا وتسليحيا و سياسيا…وليس آخرها السعي لتعبئة دول المنطقة لدعم حرب أخرى ضد أيران…
كل الخطط والسياسات التي أشرنا اليها قبل قليل, موثّقة ومعروفة حتى في التقاريروالمصادر الأمريكية الرسمية وغير الرسمية, ولنستعرض وبأختصار شديد بعض الوثائق الرسمية الأمريكية المنشورة وكذلك مذكرات بعض المسؤولين الأمريكيين الذين كانت لهم مأموريات في أيران قبل أنتصار الثورة , للتعرّف على بعض مصاديق ماذكرناه:
جاء في تقريرمنشور مؤرّخ في 4/10/1978م كتبه مشاور هيئة التخطيط السياسية في وزارة الخارجية الأمريكية, سبعة نقاط تتناول المخاوف من حالة عدم الأستقرار المتصاعدة في ايران ويشير الى ان الدولة الأيرانية بمنظوماتها ووزاراتها الطويلة العريضة والتسليح الحديث و الصناعات المونتاجية ليست سوى طبل فارغ, ويشير الى ظاهرة تمرد الكثير من الجنود على أوامر أطلاق النار على المتظاهرين السلميين وخطورة هذه الظاهرة في تدمير هيبة الشاه والنظام ويشير أيضا الى خطأ أطلاق المسؤولين لوعود لايمكن تحقيقها للجماهير الثائرة…و ينصح ببرامج واقعية طويلة الأمد قادرة على تسكين الطموحات والهوية الأسلامية التقليدية, و بتشكيل حزب سياسي لدعم الطبقة المتوسطة والطبقات التي تحتها من خلال ضمان أستفادة تلك الطبقات من برامج الدولة..ويعترف التقرير بعجز رجال الشاه عن القيام بمثل تلك الخطوة والفشل الذريع لحزب السلطة (راستاخيز أي البعث) ويعتبر فشل حزب السلطة فشلا للشاه,و يحذّر التقرير بقوله (ايران بدون الشاه سوف تقود الى أنقلابات متلاحقة والى موجات من الأضطراب وعدم الأستقرار وتدمير قدرات البلد والقضاء على دور ايران في المنطقة).وفي تقرير آخر مؤرّخ في 16/10/1978م كتبه السفير الأمريكي في طهران الى الخارجية في واشنطن ,يتضّمن تحليلا لحكومة شريف أمامي(وهي من الحكومات التي جاء بها الشاه وأمريكا ضمن سياسة تغيير الوجوه وخداع قوى الثورة الشعبية),وخلاصة التقرير:
ــ حكومة المصالحة التي يرأسها شريف أمامي وبالرغم من بدء حركتها في ظل التهديد
بمجيء حكم عسكري, الاّانها تسعى من خلال التقرب الى علماء الدين وأعطائهم بعض المكاسب (أعادة التقويم الأسلامي الهجري وأغلاق النوادي الليلية وكازينوات القمار وعزل البهائيين عن مواقع الدولة ومنع بث أخبار أشرف أكثر أعضاء عائلة الشاه فسادا) وزيادة أجور العمال والموظفين وأصلاح القوانين بأتجاه حرية الأعلام, تسعى الى كسب الدعم وأمتصاص النقمة الشعبية..بالطبع فشل مباحثاتها مع علماء الدين سيؤدي بالتأكيد الى التسريع بسقوطها .
ــ معنويات شريف امامي تأثّرت وأنهارت كثيرا بعد أعلان الأحكام العرفية والحكم العسكري
وأيضا بسبب المذبحة التي أرتكبتها قوات الشاه ضد المتظاهرين في ميدان(زالة), والتي تسبّبت في أنضمام علماء الدين المحافظين الى المعارضة.
ــ يقوم شريف امامي ايضا برفع شعار مكافحة الفساد, وأتهام وزراء سابقين وموظفين كبار في حكومة هويدا السابقة وعدد من التجار الكبار والحديث عن قائمة بألف أسم مطلوب التحقيق معهم بتهم الفساد ومنع المئات من السفر وطرح ملف أقامة الدعوى ضد رئيس الساواك السابق (الجنرال نصيري),وطرح مطلب منع عائلة الشاه من المشاركة في المعاملات التجارية.
ــ أيضا في الجانب السياسي تمت المطالبة بحل حزب السلطة (راستاخيز) والسماح بتشكيل الأحزاب والتشجيع عليها تمهيدا للأنتخابات التي وعد الشاه بأجرائهاقريبا وبصورة حرة وطرح مشاريع قوانين حرية الأعلام والأجتماعات وأستقلال الجامعات , وبث جلسات البرلمان من الراديو والتلفزيون مباشرة وفيها نقد للحكومة…ويعترف التقرير بفشل أكثر هذه التكتيكات الحكومية في أمتصاص النقمة الشعبية , بسبب شخصية الشاه المعتد برأيه والبعيد عن واقعيات الواقع وحالة الغضب التي تسيطر عليه وعلى كبارالقادة العسكريين …ويؤكد التقرير على أهمية حصول تفاهم بين شريف أمامي مع القادة الدينيين لتحقيق الأستقرار السياسي, ويحذرمن سياسة السعي لكسب رضا الناس بأية طريقة وأحتمال بروز نتائج عكسية لذلك..ثم يعطي توجيه غير مباشر للحكومة ,وهو أنه في حالة عدم نجاح التفاهم مع علماء الدين أوعدم قدرتهم على أيقاف الأضطرابات لابد للحكومة من مواجهة الأحتجاجات وقمعها بقوة, وهوماسيجبر القادة الدينيين الى النزول الى ميدان المواجهة … وتتطرّق وثيقة منشورة أخرى مكونة من أكثر من ثلاثين صفحة الى محاور هامة لتكوين رؤية شاملة عن الواقع الأيراني أواخر عام1978م , وأهم العناوين : { أسباب الأضطرابات الأخيرة ــ الأوضاع الأجتماعية غير الطبيعية ــ المشكلات الأقتصادية ــ الأنسداد أو العجز السياسي ــ التوقعات القريبة الأمد ــ فرض الحكومة العسكرية ــ تهدئة المعارضين ــ التأثيرات على السياسات الخارجية والدفاعية لأيران ــ المشكلات الطويلة الأمد ــ الأقتصاد والنفط ـ الدور الأقليمي ــ التوقعات لحقبة الثمانينات ــ مستقبل الدور السياسي للعائلة المالكة ــ الحكم العسكري ــ دور السياسيين المدنيين} ..والتقرير يتضمن الكثير من التوصيات للحكومة الأمريكية والمكتوبة بصيغة ديبلوماسية وغير مباشرة,و فيها أيضا رسائل ربما يراد تمريرها الى حكومة الشاه ومراكز القرار في النظام, من أهمّها:
ــ النظام السياسي القائم في أيران عاجز عن تلبية الأحتياجات النابعة من المشكلات المتعددة
الأجتماعية والأقتصادية,والتناقضات الناتجة عن تعارض سياساته, من جهة يسعى النظام للقيام بأصلاحات سياسية مثل أعطاء حرية للأعلام والسماح بتشكيل الأحزاب وأعطاء وعود بأجراء أنتخابات حرة في 1979 ومن جهة أخرى لاتوجد فرص حقيقية لمشاركة عموم الشعب ..حزب السلطة فاشل والقادة الدينيين هم الأوسع قاعدة والأكثر تأثيرا,وباقي القوى اليسارية والليبرالية موجودة ولها فعالياتها وتنظيمها أفضل ولكن أتباعها قليلين..يشعر قادتها بضرورة التنسيق وتوحيد حركتها ولكن أختلاف الأهداف والأساليب يجعل ذلك بعيد المنال.
ــ الأشهر القادمة لغاية أواسط عام1979م, ستحدّد مدى قدرة الشاه على الأحتفاظ بالسلطة ومستقبل العائلة الملكية والنظام السياسي القائم في ايران , في هذه الفترة على الشاه أن يثبت قدرته على التصميم وأتخاذ القرارات المناسبة للمحافظة على ثبات أوضاع البلاد,يستطيع تمديد الحكم العسكري الذي ينتهي في مارس/آذار 1979م,ولكن مثل هذه الخطوة تؤدي الى مزيد من تضعيف الشاه,لأنه أعتراف ضمني بعجزه عن حفظ النظام …
ــ القوات المسلحة تدافع حاليا عن النظام ومستعدة لأستخدام القوة, ولكن من الواضح أيضا أن ضمن صفوفها درجات متباينة من الأخلاص والأسناد لنظام الشاه.الضباط الكبار هم الأكثر وفاء لأن كل ماعندهم هو من هذا النظام..ولكن معلوماتنا قليلة عن حقيقة مواقف الضباط الصغار وجنود الخدمة الألزامية ,خاصة وأن أغلبهم مثل المتظاهرين من الطبقات المتوسطة و
الفقيرة والمحرومة,لذا اذا تدهورت الأوضاع الأمنية بدرجة أكبر من الأكيد أن طاعة هذه الشريحة من القوات المسلحة لأوامر أطلاق النار على المتظاهرين لحماية نظام الشاه ستكون معدومة..وهناك عدة فرق يمكن الأعتماد عليها اذا أراد النظام فرض الأحكام العسكرية و هي قوات الحرس الملكي(جاويدان) المستقرة في طهران والقوات الخاصة والقوة الجوية.
ــ آية الله شريعتمداري عالم الدين المعروف له موقف أقل تطرفا تجاه الشاه, فهو يطلب
تشكيل هيئة من الفقهاء تكون وظيفتهم دراسة مدى مطابقة قوانين الدولة مع الشريعة الأسلامية, ومثل هذه المادة موجودة في الدستور الأيراني ولكنها لم تطبّق أطلاقا. بالرغم من عدم وجود أي أحتمال أن تكون مثل هذه الهيئة المقترحة قادرة على نقض قوانين الشاه, مع ذلك يمكن أن تكون الفكرة فرصة مناسبة لحل أصلاحي بين الطرفين…
ــ السياسيون وخاصة المرتبطين منهم بالجبهة الوطنية,وقيادات الأحزاب الصغيرة المستقلة
,هؤلاء عموما لايريدون أسقاط النظام ولكنهم يطلبون تقليل صلاحيات الشاه بشكل محسوس وأيجاد نظام ملكية دستورية مقيدة ورئيس وزراء ذو صلاحيات حقيقية ومستقل عن الشاه, ومع ميل أولئك السياسيين عموما بأتجاه اليسار الاّ أنهم يطلبون المزيد من الحقوق المدنية وأنهاء الأمتيازات والفساد وألتزام سياسة خارجية مستقلة وتقليل الأرتهان لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية, هؤلاء السياسيين مدعومين من قبل نسبةهامة من الطبقة المتوسطة المتعلّمة..بالطبع ليست لهم قاعدة شعبية واسعة كالتي يملكها علماء الدين المتعصبين (الكلمة الأخيرة وردت في نص التقرير ــ الكاتب) ويدعوالتقرير الشاه الى السعي للتفاهم مع هؤلاء السياسيين وستكون الحكومة محظوظة اذا تمكنت من ذلك ..ويعتبر الفرصة لازالت سانحة لهكذا تحرك والترغيب بالمشاركة في الأنتخابات من قبل المعارضين المعتدلين مع تأكيد الوعود الواقعية بتحسين الأوضاع المعاشية لعموم الناس والدفاع عن القيم الأسلامية وزيادة أمتيازات علماء الدين وأنهاء الحكم العسكري وأعطاء المزيد من الحريات السياسية وتشكيل الأحزاب وربما تشكيل حكومة جديدة مستقلة بدرجة أكبر عن الشاه.
في وثيقة أخرى ,وهي عبارة عن طلب موجه من وزير الخارجية الأمريكية الى السفارة في طهران ومؤرّخ في 28/10/1978 ,ويطلب بيان وجهة نظرهم وتحليلهم للتبعات والنتائج القصيرة الأمد والطويلة الأمد, في حالة أعتماد سياسة القوة والعنف لأعادة المضربين الى أعمالهم وأبعاد المتظاهرين عن الشوارع..ويمكن أن يكون الى جانب ذلك تشديد الرقابة على الصحف والجامعات وأعتقال عدد كبير من علماء الدين والمعارضين, ويطلب من السفارة بيان تأثير كل ذلك على معنويات القوات المسلحة ومدى أستمرار وفائها وطاعتها للنظام..وطبيعة ردود الفعل للقوى المعارضة وردود الفعل الشعبية عموما على فكرة تأخيرموعد الأنتخابات… أنتهت أقتباساتنا من بعض التقارير الأمريكية السرية( والتي تم نشرها فيما بعد), والمتأمل لتلك النصوص وباقي أجزاء التقارير,يفهم وبدون صعوبة طبيعة الدور الأمريكي ودور السفارة الأمريكية في أدارة سياسات الأنظمة التابعة لها في مواجهة الثورات الشعبية ومنها الثورة الشعبية في أيران وهي محور هذا الجزء من دراستنا…(وأكثر ماأخشاه أن تكون هذه نموذجا واقعيا للسياسات الأمريكية التي تنفذها حاليا سفاراتها ومبعوثيها في مصر واليمن والبحرين وربما في تونس والمغرب والجزائر…!!) .
أما ماجاء في مذكرات (هايزر) الجنرال الذي أرسله الرئيس الأمريكي كارتر الى أيران في الأسابيع الأخيرة من عمر نظام شاه أيران (4/1/1979م) , فيمكن أعتبارها فضائح من النوع الثقيل لأي نظام يحترم حكّامه أنفسهم ولأية دولة تعتبر نفسها مستقلة وذات سيادة…لأن الدور الذي مارسه هذا الجنرال ذو الأربعة نجوم خلال الأسابيع التي بقاها في طهران كان أكبر من دور شاه أبران ودور رئيس وزرائه ودور القيادة العامة لقواته المسلّحة…ولمن أراد مطالعة المذكرات فقد تم نشرها في لندن 1986م من قبل دارنشر Ebenezer Baylis and Son Ltd
وعنوان الكتاب (Mission To Tehran), وسوف أستعرض مقاطع مختصرة من نص ماكتبه الجنرال في مذكراته للتعرّف على طبيعة مأموريته التي كانت ستؤدي الى مجزرة بحق مئات الآلاف من المواطنين الأيرانيين..لولا حكمة وشجاعة ووعي قيادة الثورة وقوة وطاعة قواعدها الشعبية , وهي الشروط التي أنقذت الثورة آنذاك من الفخاخ التي نصبها ذلك الجنرال, وأهمها فخ أعطاء فرصة لآخر حكومة نصّبها الشاه قبل فراره (حكومة بختيار) وفخ البيان الكاذب حول حيادية الجيش (وذلك للمحافظة على المؤسسة العسكرية كأداة أحتياطية بيد الولايات المتحدة الأمريكية لأستخدامها مستقبلا ضد الثوارو ضد النظام السياسي الجديد, لأن نخبة الضباط الكبار موالين لأمريكا بخلاف صغار الضباط والجنود)..وهي الحيلة التي نجحت في مصر ..لأن مبارك وبتوجيه من أمريكا ورّث كبار جنرالاته السلطة والحكم…
نعود الى مذكرات هايزر, وفيمايلي بعض كلماته وعباراته التي لها مغزى يفهمها القرّاء :
ــ قناعتنا كانت ,أنه اذا ترك الشاه أيران فأن كبار قادة الجيش يرغبون أيضا بترك البلاد
معه, واذا ذهب كبار الضباط سوف يتلاشى الجيش الأيراني..بينما تمثّل المؤسّسة العسكرية مفتاح الحل للأزمة الأيرانية..
ــ علمت بأن الرئيس كارتر لايرغب أعطائي تعليمات مكتوبة حول مأموريتي الى طهران, ولكنني أصررت على أستلامها كتبيا بالرغم من سريتها , وتم ذلك في النهاية, وخلاصتها:أبلاغ كبار قادة الجيش الأيراني قلق الرئيس كارترمن الأوضاع وأنه يطمأنهم في هذه الفترة الحرجة بدعمه لهم وأنه يعتقد بأن حكومة قوية ومستقرة في أيران ومؤهّلة لأن تكون صديقة وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية..مهمة جدا وحيوية للشعب الأيراني وللحكومة الأمريكية.. والجيش الأيراني هو مفتاح تحقيق هذا الهدف..وأية حكومة مدنية لاتستطيع الحكم وأدارة السلطة بشكل مناسب دون دعم الجيش..ولذا من المهم جدا بذل كل المساعي من أجل تقوية الجيش والمحافظة على وحدته وأنسجامه ليتمكن من تقديم الدعم لحكومة مدنية ومساعدتها في أداء وظائفها .. ولاتتمكن المؤسّسة العسكرية من حمل هذه المسؤولية الاّ بالحفاظ على وحدتها وتعاون نخبتها فيما بينهم ويجب أن لايترك أي أحد من قادة الجيش البلد في هذه المرحلة ..ويجب أن يعرف الجيش الأيراني أن مايقوم به في هذه الفترة مورد تأييد قوي من قبل الجيش الأمريكي والحكومة الأمريكية , ونحن مستعدون أن نبقى الى جانبكم, وعلاقاتنا في مجال توفير مايحتاجه الجيش الأيراني والمحافظة على منظوماته وتأسيساته والتدريب والتعليم العسكري الذي يحتاجه…تلـك العلاقات ستبقى محفوظة .
ــ المحتوى العجيب لرسالة كارتر أي الرسالة التي تحدد مأموريتي (هايزر) لم تتميز فقط
بالغموض , وأنما كانت لها تفسيرات متباينة لدى أعضاء الحكومة الأمريكية ,بريجينسكي (كان مستشارا للأمن القومي) كان يفهم الرسالة بمثابة الضوء الأخضر للجيش الأيراني للقيام بأنقلاب عسكري , بينما كان كارتر يعتبر الأنقلاب العسكري الحل الأخير في حالة فشل باقي الحلول .
ــ في لقاء مع الجنرال قره باغي رئيس الأركان الأيراني, برزت فرصة للتحدّث معه حول
(المجلس العسكري)و ضرورة أن يكون لدينا تصور ..في حالة سقوط الحكومة أو حصلت ضرورة لأن يقوم الجيش بتحرك ..لابد أن نكون جاهزين للقيام به..ونجاح المجلس العسكري يعتمد على دقة التخطيط والبرنامج الذي يتحرك وفقه, وعندها أقترحت (والكلام لهايزر)العمل بشكل جماعي وتحت أمرة رئيس الوزراء وأضفت نتمكن عندها وضع برامج لكسرالأضرابات والسيطرة على قطاعات النفط والكهرباء والأتصالات والكمارك وكل المناطق الحسّاسة وأنهاء حالة الشلل التي أصابت البلد…بغير ذلك أقول لكم بأن مصير حكومة بختيارالفشل والأنهيار…
ــ في ملاحظاتي كنت قد أقترحت ثلاث طرق يستطيع بختيار من خلالها الأستفادة من قدرات الجيش في التحرك :الأول من خلال جذب تأييدهم يستطيع أيجاد حكومة قانونية,و الثاني اذالم ينجح الخيارالأول يقوم رئيس الوزراء بأعلان حالة الطواريء والأحكام العرفية والسيطرة على المرافق الحساسة للدولة من قبل الجيش .. والثالث وضع البلد كله تحت سيطرة العسكريين .. بالطبع الخيار الأول هو الأفضل أي نجاح حكومة بختيار,بينما يكون الأتجاه نحو الخيار الثاني في حالة فشل حكومة بختيار وعدم أمكان أستمرارها , بل وعدم أمكان تشكيل أية حكومة مدنية أخرى ..وفي هذه الحالة الشخصية التي تقوم بتشكيل الحكومة يجب أن تكون مقبولة من الأمام الخميني والجناح الديني في المعارضة ولها ميول نحو الغرب…واذا فشل الخيار الثاني , فلابد من القيام بأنقلاب عسكري والسيطر ة على البلاد وكسر الأضرابات والمظاهرات والأعتصامات بالقوة وبحزم …لأن الخيار الرابع سيكون أقامة الجمهورية الأسلامية بقيادة ( الأمام) الخميني ..والخيار الخامس أقامة نظام شيوعي ..!!.
ــ بتاريخ 17/1/1979 وخلال أحدى مكالماتي الهاتفية مع وزير الدفاع (هارولد براون)و بعد أعطائه التقرير اليومي للأحداث, الوزير جرّ الحديث الى موضوع الأنقلاب العسكري..و كان يخشى من أضمحلال الجيش خلال الفرصة التي نريد أن نعطيها لحكومة بختيار,ويصبح قوة غيرمؤثّرة ويعجز حتى عن القيام بأنقلاب عسكري..وأنا (هايزر)لم أكن قادرعلى الأختلاف مع وجهة نظر كهذه ,لأنني كنت شاهدا على فقدان الجيش في كل يوم جزء من قوته…ولكني ما أزال أعتقد بقدرتنا على تنفيذ كل البرامج التي وضعناها..
ــ قلت لوزير الدفاع, أفضل عمل نقوم به هو أيجاد الأنقسام في صفوف المعارضين…و
تحقيق تقدم ملموس يمكن ملاحظته في المجال الأقتصادي.. وسألني الوزير مجددا في حالة المبادرة الى أنقلاب عسكري فمن هو الجنرال الذي يصلح لقيادته وتنفيذه ضد مواطنيه…و ما هي معنويات المجلس العسكري ..
نجاح الثورة الشعبية في أيران قبل حوالي ثلاث وثلاثين سنة وأنتصارها على خطط وسياسات نظام الشاه وآخر حكومة نصبها قبل فراره من طهران وعلى خطط وسياسات الولايات المتحدة التي كانت تدعمهما بقوة, تجربة جديرة بالدراسة العميقة , خاصة وأن مايجمع الشعب الأيراني وباقي الشعوب العربية والأسلامية من مشتركات أكثر بكثير مما تختلف فيه وحوله…والدراسة مطلوبة بألحاح من قبل الحركات الشبابية العربية التي لازالت ثوراتها تراوح في مكانها منذ حوالي سنة بالرغم من ضخامة التضحيات …كما هو الحال في مصر واليمن والبحرين وحتى تونس والمغرب …