الرئيسية / زاد الاخرة / الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٣٤١ – ٣٦٠

طرق العامة التي بمضمون “اول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”.وفي حديث طارق بن شهاب عن أميرالمؤمنين المروي في البحار ٢٥: ١٦٩: “يا طارق الأمام كلمة الله و حجة الله ووجه الله ونور الله وحجاب الله و أية الله يختاره الله ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمن تقدم عليه كفر بالله من فوق عرشه” وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث أنه يكون حرفيا بالنسبة لله مشيرا إليه دائما وأن إمامته تشمل جميع الخلائق،و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما اوردنا البعض فقط من باب التأييد لما يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الامام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الامام العالية وشئونه النازلة.

الفائدة الثانية والعشرون: إن الله عز وجل بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها فلا يقول قائل ملك مقرب أو عبد ممتحن وأنه يجب أن يكون كل شيء عن طريقه، وفي نفس الوقت نؤكد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجاب.

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة على عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة الله تعالى.

الفائدة الرابعة والعشرون: أن اضافة الرب إلى ضمير الخطاب (ربك) يفيد ان هذه السنة الالهية في هذه الامة ايضا، بل ان صياغة التعبير المكرر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخرى بل لنوع البشرية، هذا مضافا إلى ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد ايضا.

الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضى الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار،ومقتضاه الحصر به تعالى في

٣٤١
جعل هذا المقام.الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضى مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلف لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الامر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.

 

ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة

في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الامام (عليه السلام) مقامات الائمة ويتعرض لهذه الآيات:

“الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرما على غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده”.

ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصين به تعالى لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع له متذلل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة الله، ولا يخفى ما في الابتداء من براعة الاستهلال حيث يريد أن يبين في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة وأن لا استقلالية لأحد على الاطلاق وسوف نشاهد أن هذا الامر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهى إلى وجه ركنية الامامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.

(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين).

ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميز المتواضع عن المستكبر ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق حيث أن المتواضع هو الذي لا يرى لنفسه موقعا ومقاما ومكانا، ومنه ايضا يتبين أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة الشهوة والغضب، واختبارهم يدلل على أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن

٣٤٢
اختبار التوحيد – وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية – هو في اتباع ولي الله وهو كما أشرنا إليه مرارا أشق المقامات.(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ}).

ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدى الملائكة علوما وصورا مرتسمة أم لا؟ العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك لكن ما في القرآن {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يدلل على أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركز الامام على الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الاخضاع.

(اعترضته الحمية، فافتخر على أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).

فيشير الامام أن ابليس نازع الله تعالى رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلا له سبحانه واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي الله، وخلع قناع التذلل فجحود خليفة الله تعالى وحجته على خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار على امر الله تعالى ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:

(ألا يرون كيف صغّره الله بتكبره ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا).

وهذه هي نتيجة الكفر الابليسي وعدم الانصياع لاوامر الله تعالى، وعاقبة من لا ينزل نفسه منزلتها ويرى الانا دون خالقه.

(ولو أراد الله أن يخلق أدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول روأؤه

٣٤٣
وطيب يأخذ الانفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوى فيه على الملائكة ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم وإبعادا للخيلاء منهم).فهكذا نرى أن آدم لو كان في خلقه مبهرا للعقول لاستجاب له الملائكة لأنه بهرهم لا لأن الله أمرهم بذلك ومن هنا كان امتحان الامامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعنى حرفيا فقط دالا عليه وبه يكون التوحيد خالصا حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوى حرفيته وآيتيته لله جل وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه فبها، وإلا لم تنفعه عبادته الماضية كابليس.

(فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة ألاف سنة، لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته.كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر أخرج به منها ملكا).

ويتبين أن ابليس كان ملكا، كما يشير إلى ان القانون واحد بين أهل الارض والسماء وسير الكمال واحد وحكمه واحد.

“فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لغد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد…..

فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات الشيطان…

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم وجاحدوا الله على ما صنع بهم..

ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم،

٣٤٤
وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم،فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده”.فهذا تحذير منه (عليه السلام) من عدوى داء ابليس إليهم، ودائه هو عدم التسليم لخليفة الله تعالى والكبر عن طاعة الله في امره بطاعة حجته، وترفع ذاته عن الخضوع لأمر الله بمتابعة خليفته، وأن ابليس أخذ على نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره (عليه السلام) بأن قد وقع منهم تأثر بعدوى ابليس، وهذا إشارة إلى ترك الناس الائتمام بإمامته (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)،وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها ابليس في قلوبهم ايجادا للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة الله تعالى، وأن دواء هذا الداء هو التواضع، ثم يشير مرة أخرى إلى وجود من هو مبتلى بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء ابليس وجحود حجة الله تعالى وأن عليه الوزر والآثام إلى يوم القيامة، ثم يقتبس (عليه السلام) من القرآن قوله تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الامة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة الله تعالى في أرضه، إذا تقلدوا زمام الامور امعنوا في الغي وافسدوا في الارض إلا انه (عليه السلام) يخبر عن تحقق ما حذّرت عنه الآية الكريمة.

ثم انه (عليه السلام) يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر الله في خليفته في ارضه وحجته على عباده الذي هو كبر ابليس أيضا، ووصفهم بأنهم جحدوا الله، وكابروا قضائه…. ومن هنا يتبين ان هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.

(فاعتبروا بما اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوى خدودهم،ومصارع جنوبهم..

 

٣٤٥
فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر….فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم،بأوليائه المستضعفين في اعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون – صلى الله عليهما على فرعون وعليهما مد ارع الصوف وبأيديهما العصي…

ولو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان….ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء معانيها ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفا فيما ترى العين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى،وخصاصة تملأ الابصار والاسماع أذى.

وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل).

فيستعرض (عليه السلام) استكبار الامم الماضية وكيف آل مصيرهم،ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان على أنبياء الله حجه استصغارا لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الابليسي،ثم وصف (عليه السلام) حالة موسى وهارون عند دخولهما على فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان الله لفرعون إذ لو بعث الله انبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الايمان عن خوف القوة أو رغبة فيها لدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس لله تعالى وحده، فمن ثم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلى بوضوح في رسل الله تعالى وخلفائه حيث انه تعالى أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له خاصة أي التذلل له تعالى في كل من التابع وهم البشر والمتبوع وهم الرسل والحجج،فيصفى الامر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين لأن الكبر هو دعوى المخلوق الفقير الغنى والاستقلال عن الباري بأي نحو كان.

 

٣٤٦
(ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الاولين من لدن أدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر…ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار وسهل وقرار جم الاشجار داني الثمار ملتف البنى متصل القرى بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا ذللا لعفوه….

فالله في عاجل البغي وأجل وخامة اللم وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمى ومكيدته الكبرى…

انظروا إلى ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).

يتعرض إلى وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة فيتعرض إلى وجود هذه الحكمة في الحج إلى بيت الله الحرام وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الاعمال ووعورة المسالك كل ذلك اختبارا بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم واسكانا للتذلل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم وخروج منهم عن طورهم وواقعهم وهو الفقر لباريهم بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغنى والعز خاص به تعالى.

ثم انه (عليه السلام) يبين وجود هذه الحكمة ايضا في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحكم الاخرى من انها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة

٣٤٧
لابليس وهي الكبر الذي وصفه (عليه السلام) بأنه مكيدة ابليس الكبرى.(ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة، أما ابليس فتعصب على أدم لأصله وطعن عليه فى خلقته….واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم..

فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال ومحاسن الامور….

فتعصبوا لخلال الخمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والاخذ بالفضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الارض واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذمم الاعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم…

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا اثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالا…… ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وامتم أحكامه).

ثم انه (عليه السلام) يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار على اختلاف الوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالانسان أن يتعصب للفضائل والمكارم المحمودة.

ثم أنه (عليه السلام) بين أن النصرة والعزة لأي أمة من الامم لا تكون إلا بالولاية فإنه بها يذهب تشتت الألفة وتزول اختلاف الكلمة والافئدة، وكذلك كان حال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل، حيث كانت الا كاسرة والقياصرة غالبين لهم قاهرين عليهم، إلا انه بنعمة الله عليهم حين بعث رسولا إليهم انتظمت به ملتهم وطاعتهم وألفتهم واغدقت عليهم البركات فعادوا قاهرين بعد ان كانوا مقهورين،

٣٤٨
كتاب الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – (ج ١) للسّيّد مُحمّد علي بحر العلوم (ص ٣٤٩ – ص ٣٦٢) 

٣٤٩
يتحلى بها سواء للتربية السوية أو الاهلية الروحية الخاصة به حيث يرى نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنك تسمع ما اسمع وترى ما أرى… إي أنه قد أوتي مؤهلات العلم اللدني، ثم يبين أنه اول السابقين إلى الاسلام وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب واشد الناس اتباعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيرها من الصفات التي تشير إلى تقلده الخلافة الالهية.وبهذا يختم خطبته عطفا على ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الاخلاص هو بموالاة ولي الله وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم ولذلك كفر ابليس اللعين ودحر باستكباره عن ولاية خليفة الله.

وبذلك يفصح (عليه السلام) عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكررت في سبع سور من القرآن الكريم،كما أنه (عليه السلام) افصح عن حقه وغصب القوم له، ومن بديع الحكمة الذي أظهره (عليه السلام) أن يبين كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الافعال.وان الاعتقادات جذر للصفات الخلقية، أي ان كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الانسان وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة وهذا يفسر موالاة ولي الله وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسببان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع متسبب عن خلوص الشخص لربه أي خلوص توحيد لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندا لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك لاقامة المتكبر ذات نفسه مستقلة على غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر لله تعالى.

ومن ثم يتبين أن الولاية لخليفة الله في ارضه على أصعدة ثلاث في الفعل وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالاذعان أنه مجعول من قبل الباري.

وهكذا نرى الامام يتدرج من الكفر الابليسي إلى الكفر في النبوة ثم الكفر في الافعال يرى أن جذرها كلها واحد هو الانصياع إلى الانا وعدم تسليم النفس لله

٣٥٠
الواحد الاحد وعدم الانصياع لأوامره وأن كل شيء ذائب فيه وأن لا استقلالية لأحد بل كل في سبيله ومن أجله وكل آية له سبحانه،و أخيرا يصل إلى الاخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلى الكبر ومنشأ كل الفضائل يرجع إلى الخضوع، والامام في كل هذا يربط بين اقسام الكفر ويرجعها إلى الاصل الواحد. 

رابعاً: عصمة آدم

معصية آدم وإخراجه من الجنة، وهذه من المسائل المهمة التي كثرت فيها الاقوال والآراء وزلت الاقدام من القديم وحتى يومنا هذا، وخصوصا أن القران قد عبر {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، فكيف يتناسب هذا التعبير مع غيره من نسبة زلة الشيطان لآدم الذي له تلك المقامات العالية والخلافة عن الحق تعالى وهي خلافة اسمائية، وهذا له جواب نقضي وحلي.

أما الجواب النقضي فهو: أن الواقعة تحكي نوع من المخالفة للملائكة مع أنهم معصومون ولا يعصون الله ما أمرهم، وذلك عندما قال لهم الحق تعالى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإن فيها نوع من التأنيب فأي جواب يذكر للملائكة فيتجه لآدم، ثم إن المكان الذي يجب أن يكون فيه هو الارض وان فعله هذا لم يؤثر على مقامه وخلافته بدليل رد الاعتبار الذي حصل له بالتوبة، وأن الذي فقده هو الخروج من الجنة ولا يعلم أن هذا عقاب حيث أن آدم مخلوق أرضي أصلا، ثم ان الانزال للأرض ليس فيه عقاب بل هو نوع من التكريم لأنها دار الحصاد وفيها الابتلاء والتكامل والسعي نحو الآخرة، وهذه الجنة التي كان فيها ليست جنة الخلد بل هي أقل شأنا من جنة المأوى والآخرة وذلك لأن الخلود في الأخيرة، وهذا كله شاهد على ان الهبوط للارض ليس فيه توهين لآدم.

اما الجواب الحلي:

١ ـ أن الحق تعالى يتعرض في حديثه عن الانبياء دائما إلى جنبتهم البشرية

٣٥١
وأنهم مخلوقون له، وان كمالاتهم بالنسبة إليه ناقصة ومحدودة كما يتعرض إلى كمالاتهم الغيبية التي يفوقون بها على البشر، وهذا ليس لأجل بيان عيوبهم ونقائصهم بل لأجل بيان أنهم ليسوا بآلهة يعبدون من دون الله بل هم عباد مكرمون محتاجون إلى الله، وحتى الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) الذي لا خلاف في مقاماته ومنزلته فإن القران يركز على بشريته،كما يركز على مقاماته الغيبية {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(١) ففي الحين الذي يؤكد على مماثلته لهم بالبشرية يؤكد على اختلافه معهم بالمقام الغيبي وهو الارتباط بالوحي والعوالم الإلهية، حتى لا يعبد من دون الله فهم بالاضافة إلى بارئهم محدودين كمالاتهم ناقصة ولكن بالاضافة إلى ما سواهم فهم المعصومون الانبياء الواجب اتباعهم واتخاذهم قدوة. وهذا كله لأن الواسطة – في الحين الذي هي ضرورة لا بد منها – يجب أن يتوفر فيها خاصية الوساطة لا خاصية الحجاب.وبتحليل آخر يشير علماء النفس إلى أن الانسان يجب ان يستشعر في نفسه النقص فإذا أحس به سار وسعى نحو الكمال، ولذلك كانت العبادة – أي اصل العبادة – تكاملاً لكن المتعلقة بالمعبود الحقيقي، وحيث كان الانبياء هم قدوة المخلوقات فيجب أن يشعر الناس فيهم كلا الجنبتين، يرونهم أعلى منهم شأنا وأرفع منزلة من جهة الهدي الخارق والافعال التكوينية الخارقة ليستشعر الانسان النقص في نفسه فيسعى نحو الكمال الذي يراه، ويجب في نفس الوقت أن يلحظوا فيهم جنبة النقص والحاجة لله وانهم مخلوقون مثلهم حتى لا يكونوا حجابا دون الحق تعالى فيظهر الحق تعالى جانب النقص فيهم من خلال بعض الافعال ويكون جانب النقص بالاضافة إلى من هو أعلى رتبة منه لا بالنسبة إلى من

 

١- فصلت: ٦. 

٣٥٢
هو دونه ممن يكون لهم إماما، فالانبياء والائمة في حركة إلى الله تعالى.٢ ـ الجواب الآخر المذكور في بعض الروايات أن النهي في عالم الجنة ليس هو نهي تكليفي حيث أن الجنة ليست دار تكليف إذ التكليف مقارن مع الكمال والعقاب والثواب وبالتالي لا تكون معصيته معاقباً عليها كما في عالم الارض، مضافا إلى ان هذه الجنة كانت مختصة بأحكام خاصة منها أن لا تجوع ولاتعرى،ومن المتفق عليه بين العامة والخاصة أن المخالفة ليست لعزيمة وليس لها عقوبة أخروية.

٣ ـ أن الآية تدل على ان هناك مقامات ورتب و مدارج في الامامة وهي تلك الوجودات الحية النورية الشاعرة التي عرضها على آدم وهي بالتأكيد غير الذات الالهية المقدسة ونسبتهم لآدم كنسبة آدم لبقية الخلق.

 

الطائفة الثانية: آيات الكتاب

وهي كل آية ورد فيها لفظ القرآن أو الكتاب، وعمدة البحث في آيتين الاولى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(١).

الثانية: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَة مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}(٢).

والبحث في الآية الاولى ويقع في أمور:

١ ـ في شأن النزول المعروف أن سورة الرعد مكية وإن ادعى البعض أن

 

١- الرعد ١٣: ٤٣.٢- هود ١١: ١٧.

 

٣٥٣
خصوص الآية التي هي مورد بحثنا مدنية، على أساس ان المقصود من (من عنده علم الكتاب) هم اهل الكتاب وهؤلاء أسلموا في المدينة، وهذا ليس بشئ لان الاتفاق على نزولها في مكة.كما أن السورة كأغلب السور المكية واردة في بيان التوحيد والرسالة والرسول وتأكيد أن الرسول حق من عند الله عز وجل، وقد ورد فيها لفظ الكتاب ٧ مرات، والآية واردة مورد الاحتجاج مع الكفار حيث ظلوا يجحدون بآيات الله ويستهزؤن بالرسول فهي بقرينة (بيني وبينكم) دالة على ورودها مورد الاحتجاج وهذا كله يدفع ورودها في المدينة حيث لم يتعرض الرسول لمثل هذه المواقف.

٢ ـ أن الآية تذكر شهادتين الأولى شهادة الله تعالى والثانية شهادة من عنده علم الكتاب، واقترانها بالاولى يدل على عظمها وفضلها، وهي غيرها وإلا لما ذكرت ثانية فإن التعدد دال على المغايرة.

٣ ـ كيفية شهادة الله، إن الكفار لما كانوا مشركين فأنهم يؤمنون بالقدرة المطلقة لله غايته أنهم يشركون بعبادته ويكفرون بنبوة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، كما انهم يذعنون بكبرى مؤداها أن الذي يتقول على المقام الربوبي سيما مقام الشريعة وبيان مطلق الارادات الالهية فهذا ليس بكذب في مسألة جزئية بل هو ادعاء مقام من وإلى الرب، ومن هاتين كان وجه حجية المعجزة أنه اقدار الباري بقدرة يعجز عنها بقية البشر وتكون مقرونة بدعوى الوساطة. وهم مع اذعانهم أنها قدرة خاصة لا تصدر من البشر إلا أنهم يغالطون ويقولون أنها قدرة سحرية، فهم يذعنون كبرويا أن القدرات التي لا يقدر عليها البشر لا بد أن يكون منبعها الغيب.

فشهادة الله هي اقداره للنبي (صلى الله عليه وآله) إي اعطاؤه قدرة غيبية، وكيفيتها هي نفس كيفية المعجزات وأنها هي شهادة منه والمعجزة هنا هي القرآن الكريم.

 

٣٥٤
ويمكننا القول ان الشهادة نوع من البرهان وهو لا ينحصر بالعلم الحصولي بل يطلق على ما يولّد العلم الحضوري، وذكرنا أن الكثير – من الفلاسفة من عهد ابن سينا – غفل عن البرهان العياني، وغرضنا أن شهادة الله هي من نوع البرهان العياني خلافا لما هو مشهور عند المتكلمين من الخاصة والعامة من حصر برهانية المعجزة في العلم الحصولي، بيان ذلك:أن معجزات الانبياء المذكورة في الكتاب باقية وليست منصرمة ومختصة بزمن معين، بل هي باقية وذلك لأن الغرض من المعجزة هو تحدي جميع الأقوام وليس خصوص القوم الذي أرسل لهم الرسول، ولو كانت المعجزة خاصة بمن اُرسل إليهم لأمكن أن يطلع على ايجادها الأمم الاخرى فينتهون إلى بطلان نبوته ولا تكون في واقعها معجزة بل أمرا عاديا خفى سببه عن الآخرين، فلابد أن يتوفر في المعجزة أنها تحد أبدي للبشرية أي ما يعجز عنه الاولون والآخرون، ولذا نقول أنه يطلق على المعا جز البرهان العياني.

أما تطبيق البرهان العياني على شهادة الله فذلك بعد كون بعض مواده المؤلفة عيانية لا بتوسط الصور الحصولية، وهنا قد يتساءل عن وجه تقديم(بالله) على (شهيدا) والجواب انه من جهة الحصر ثم من جهة العيانية فالله حاضر بقدرته اللامتناهية واللامحدودة فكفى بالله الحاضر عيانا وكفى بحضوره العياني، ويذكر بعض المفسرين أن التعبير بـ (شهيدا) وليس بشاهد دليل على إرادة الحضور لا الشهادة المنشأة بالكلام.

ومما يدلل على أن المراد من الشهادة التكوينية لا الاعتبارية، هو الرجوع إلى أصل اشتقاقها اللغوي حيث أنها أطلقت على التأدية والاداء مع انها اسم للتحمل والحضور فاطلقت على التأدية باعتبار المنشأ أي أن من له التأدية هو من كان

٣٥٥
حاضرا فتحمّل الشهادة،والشهادة في الامور الاعتبارية تجعل السامع كالحاضر حين التحمل أما في الامور التكوينية فإنها تجعل المشهود له في أكمل إدراك وأقصى ما يمكن تصوره وهذا لا يكون إلا بحصول علم لديه من الشهادة علما حضوريا.وكأن المعنى كفى بالله حاضرا وتشهدون حضوره في بيان الحق حيث ان هذه القدرة المدركة في القرآن التي يعجزون عنها نحو من رفع الستار عن قدرة الغيب فهو ظهور للغيب عياني لهم بعد كونهم يذعنون بأن الله موجود وحاضر.

٤ ـ شهادة من عنده علم الكتاب، وهاهنا تطرح أسئلة متعددة في كيفية شهادة هذا الشاهد وفي امكان كونها شهادة على صدق النبي وفي مصداقها، وذلك لان المشهود به هو النبوة والارسال فكيف يكون هذا الشاهد شاهدا على ارساله وهذا يعني انه يكون حاضرا في مقام انباء الرسول حتى يستطيع تحمّل الشهادة والاداء بها، وإذا لم يكن حاضرا عند تحمله فسوف تكون شهادته اطمئنانا بصدق النبي (صلى الله عليه وآله)، ومقتضى كون النبي في مقام الاحتجاج أن هذا الشاهد حاضر الانباء حتى يستطيع الأداء. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما ورد في الخطبة القاصعة {انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى}، وهذا يعني أن (من عنده) جهز بجهاز وجودي وروح ذات خصائص معينة مشابهة للروح النبوية {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}.

قد يقول قائل ان تحمل (من عنده) ببرهان حصولي ثبت لديه فسوغ له الشهادة كما في قصة ذي الشهادتين حيث شهد لمجرد ان الرسول هو الذي أخبر ان الدرع له.

وهذا القول مدفوع أن تسمية هذا بالشهادة من باب التنزيل وهذا مسلم به، ولو كان حصول العلم لدى الشاهد بهذه الطريقة فالاولى أن يذكر نفس البرهان ولا حاجة حينئذ لشهادته لأن ترامي الشهادة اضعاف للمشهود به فلو أمكن الادلاء

٣٥٦
بالمشهود به فهو أولى،فالغرض من الشهادة ان ما حصله الشاهد بعين الشهود واليقين المستند إلى العلم الحضوري، وهذا يدل على أن مستند الشاهد ليس علما حصوليا.وهاهنا تساؤل يطرح أنه كيف تكون شهادة الشاهد وهو من تابعي النبي يحتج بها على الكفار الذين يشككون في النبي؟

ومن أجل الاجابة على هذا التساؤل يجب الاشارة إلى أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) كان قبل البعثة معروفا لدى قومه ببعض الخصال والصفات التي استيقن منها الجميع كالصدق والامانة وانه من الذين يستسقى بهم الغمام، وهو من عائلة سلمت إليها زعامة قريش وذلك لأهليتهم وصدور خوارق العادات منهم، ومن هنا كان يتهم بالسحر، وقد تواتر النص التاريخي من المشركين على وصفه “أنه سحر قديم في بني هاشم” مع ما هو مقرر عند قريش من كونهم من نسل ابراهيم واسماعيل الذبيح وهم ورّاثهما، وقد ذكر الامام ذلك في ذيل الخطبة القاصعة “وأني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الابرار عمار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرأن يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل” أي انه من قوم وشجرة توفرت فيهم صفات الكمال من الحكمة والصدق والاحسان والعفاف والشجاعة والخلوص لله تعالى والاجتهاد في العبادة والتحلي بالعصمة العملية، فلم يشاهد لهم زلل ولاخطل في جاهلية قريش ولا في الاسلام.

ثم أن نفس ولادة الامام في الكعبة وانشقاق الجدار ودخول فاطمة بنت أسد وبقاؤها داخل الكعبة ثلاثة أيام لم يكن بالامر الذي لاقى استنكارا من قريش لما تعودوه من أهل هذا البيت من خوارق العادات.

وعلى كل حال لا نجد فيما بأيدينا من أخبار وتواريخ اعتراض الكفار على هذه

٣٥٧
الشهادة وطعنهم فيها، ثم إن وصفه بأنه عنده علم الكتاب يعطي الحجية على وجه الاستشهاد به لأن في ذلك اشارة إلى انطوائه (عليه السلام) على العلم الجامع وفي ذلك تبيان لكيفية استعلام ذلك بالمسائلة ونحوها ليتحققوا من ثبوت الوصف ومن ثم يستثبتوا وجه حجية شهادته (عليه السلام)، وهذا الكتاب إما ان يراد به الكتب السماوية أو القرآن الكريم، والاخير هو الارجح حيث أن سورة الرعد نزلت دفعة واحدة غير متقطعة وموارد الكتاب فيها قد قصد منه القران الكريم، بل في بعض الآيات من السورة ارادة كتاب التكوين كما في ام الكتاب.٥ ـ من عنده علم الكتاب، من بين معاني الاضافة الانسب ان تكون الاضافة بيانية استغراقية ولو اريد منها التبعيض لأتى بلفظ من كما في وصف آصف بن برخيا في سورة النمل، وقد ذكرنا ان الاختلافات الواردة في تعابير القرآن تدل على اختلاف المعاني وليس الهدف منها بلاغيا أدبيا، والاحاطة بمعاني الكتاب ليس بالعلم الحصولي بل بالعلم الحضوري، حيث ان الكتاب ليس الموجود النقشي بل كتاب التكوين كما سوف يأتي بيانه فيما بعد.هذا مضافا إلى ان العلم لو كان ببعض الكتاب لما كان في شهادته مزية حيث ان المشهود عليه هو اعظم الغيبيات وهو نبوة النبي الخاتم.

ثم إن ماهية هذا العلم لا يمكن ان تكون حصولية وذلك لما ذكرناه من ان هذا العلم جعل منشأ لحجية الشهادة ومقتضاه ان يكون التحمل حضوريا.

وقد ينقض على هذا المعنى وأن القرآن استشهد بشهادة بعض اصحاب الكتب السابقة وذلك في عدة آيات: منها {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}(١).

 

 

١- الأحقاف: ١٠. 

٣٥٨
منها: {أَوَ لَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(١).ومنها: {لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}(٢).

ومنها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ}(٣).

والجواب العام عن هذه الموارد أن الاستشهاد بطائفة من علماء بني اسرائيل وما شابههم ليس من جهة أشخاصهم بل استشهاد بما ورد في كتبهم من بشارات بالنبي الخاتم، وواضح أن هذه الكتب غيبية من عند الله، والمشركون متأكدون من أن كتبهم متقدمة بقرون على زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي منسوبة إلى السماء وليس هو من السحر، وفي ذلك بينة وبرهان قاطع على نبوة النبي الخاتم فهي شهادة الكتب السماوية بالنبوة وهي تكون من سنخ شهادة الله وهي بمعنى آخر شهادة الانبياء السابقين على صدق النبي الخاتم، وشهادة الملائكة أيضا شهادة غيبية وسنخها ليس بالعلم الحصولي، وعليه نصل إلى نتيجة أن جميع الشهادات ترجع إلى سنخ واحد.

اما الأجوبة التفصيلية:

١ ـ فشهادة الملائكة ليس شهادة عادية وذلك لأنهم لا يستطيعون استنطاق الملائكة فكيفيتها يجب أن تكون بما ذكر في شهادة الله من أن ذلك هو بمحضره وقدرته، حيث ان مشركي قريش يذعنون بوجود الملائكة وانهم اعوان الله وذلك بدليل نسبتهم الأنوثة لملائكة لله وانهم بنات الله والعياذ بالله تعالى.

 

 

١- الشعراء: ١٩٨.٢- النساء: ١٦٦.

٣- النمل: ٤٥.

 

٣٥٩
٢ ـ أن قريش والمشركين كانوا على اطلاع وخبر من علم أحبار اليهود ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله) حيث كانوا من قبل يستبشرون ببعثته ويأملون النصر به على المشركين قال تعالى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}(١).٣ ـ أن الآية الاخيرة ليس فيها استشهاد على أصل الرسالة والبعثة بل دفع لاستبعادهم كون الرسول المرسل بشرا رجلا، ومع ذلك فإن الاستشهاد بأهل الذكر لا باعتبار اشخاصهم كما قدمنا.

٦ ـ ونتعرض فيه لمقام القران الكريم ومراتبه.

وفيه مسائل ثلاث:

المسألة الاولى: ان القران ذو حقيقة تكوينية بمعنى ان القرآن لا تنحصر درجات وجوده بالعبارات الوارد ذكرها بين الدفتين،وأن هذا الوجود للقرآن هو المعبر عنه بالكتبي وأنه معبر عن وجود آخر للقرآن وهو الوجود التكويني، ويدل على هذه المرتبة للقرآن مجموعة من الشواهد:

أ ـ ان التنزل يدل على أن القرآن كان موجودا ثم تنزل بما نراه نحن الآن وهذا التنزل لا يضاهيه التعبير بأنه كان لفظا مصوتا وكلاما نفسيا.

ب ـ بعض الآيات القرآنية التي تدل على آثار للقرآن لا يمكن نسبتها إلى هذا الوجود الاعتباري من نحو {وَلَوْ أَنَّ قُرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بِل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً}(٢)، حيث أنه قد ذكر في شأن النزول أن قريش اقترحت على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يباعد بين جبال مكة لأن مكة ضيقة فتتوسع وتصبح بها وديان وسهول ومزارع وما شابه ذلك، وطلبوا منه أن يحيى لهم قصي جد قريش وأجدادهم ليكلموهم، فالله تعالى يخاطبهم أن القرآن لو أظهر لهم تلك الآثار

 

١- البقرة: ٨٩.٢- الرعد: ٣١.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...