والمراد من الموت والحيـاة هنا هو الايمان بعد الكفر، كـما جاء ذلك فـي الآية (24) من سـورة الانفال: ( يـا اَيُّهُا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ اِذا دَعـاكُمْ لِمـا يُحْيِيكُمْ) وعلى هذا فالحياة هي حياة الايمان الحقيقي والصادق، الحياة المقترنة بالنور والضياء والمعرفة.
والجـانب المقابل لجانب الأحياء، هـو جانب اولـئك الذين ضـلوا في ظلمات الكفر ولم يخرجـوا منها أبداً (كَمَنْ مَثَـلُهُ فِي الظُّلُمـاتِ لَيْسَ بِخـارِج مِنْهـا).
يعتقـد كثير من المفسرين أن هذا النور هو نـور القرآن، وقـد فسّـره بعضهم بنور الدين، وبعضهم بنور الحكمة(1)، وقـد أضاف البعض على ذلك نور الطاعة(2)، لكن المسلم ان لهذا النور مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواع المعرفة، ومن البديهي ان مراد القرآن هو اكمل مصاديقه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 13 الصفحة 172 وتفسير القرطبي الجزء 4 الصفحة 214 والمنار الجزء 8 الصفحة 30.
2 – تفسير ابوالفتوح الجزء 5 الصفحة 50.
[412]
إن التعبير بـ «يمشي به في الناس» يتناسب كثيراً مع الحياة الاجتماعية في الدنيا، كما يكشف عن أن «الايمان» يَعِدُّ أرضية «المعرفة» في قلب الانسان ويحول دون ارتكاب الأخطاء في الحياة الدنيا.
* * *
وقد شبهت الآية الثانية غير المؤمنين (أو أعمالهم) بظلمات أعماق بحر لُجّي تتلاطم الامواج على سطحه، وسمائه ملبدة بالغيوم بحيث اذا أخرج شخص يده لم يكد يراها أحد. وقد أكدت في النهاية: ان الذين لم يجعل الله لهم نوراً فما لهم من نور أبداً.
إن عبارات هذه الآية تثبت بوضوح ان الكفر وعدم الايمان ظلمات، وان الايمان والاسلا نور.
إن الأخطاء التي تصدر من غير المؤمنين ومن المنحرفين بدرجة من الكثرة بحيث يحارُ الناظر اليهم كيف انهم لا يكادون يرون حتى موضع اقدامهم؟! وكيف انهم لا يستطيعون تمييز ما ينفعهم عما يضرهم؟
حقـاً انه لا ظلام أشدّ من الظـلام الذي رسمتـه الآيـة، فان طبيعة أعماق البحار هي الظلام، لأن نور الشمس لا ينفذ إلاّ لمـدى أقصاه سبعمائة متر، وبعد ذلك لا شيء سوى الظلام الـدامس، هذا اذا لم يـكن البحر لجياً، وإلاَّ فلا تنفذ أشعة الشمس إلاّ لمدى قريب جداً من سطح البحر، وفضلا عن هذا فان الغيوم تمنع من وصول أشعة الشمس أساساً.
ويقو البعض: إن المراد من الظلمات الثلاثة في الآية هو ظلمات الكفار في الاعتقاد، وظلماتهم في الكلام، وظلماتهم في العمل.
ويعتقد بعض ان المراد منها هو: ظلمات القلب وظلمات الباصرة وظلمات
[413]
السمع، وأضاف بعض آخر: ان هذه الظلمات عبارة عن: انه لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم، ويظن أنه يعلم(1)، ولكن لا منافاة بين هذه التفاسير، ومفهوم الآية يسع جميع هذه التفاسير.
* * *
والآية الثالثة، بعدما وصفت المؤمنين بـ «الصديقين» و«الشهداء» أضافت: «لهم أجرهم ونورهم».
إن «الصدّيق» صيغة مبالغة لصادق، وتعني كثير الصدق، ويقول البعض: إنها تعني الشخص الذي لم يصدر منه كذب أبداً، ويعتقد بعض آخر: انها تعني الذي اعتاد على الصدق بحيث يمتنع عليه الكذب عادةً، وبتعبير آخر: حصلت له طبيعة ثانوية على أساس الصدق وعدم الكذب.
ويقول البعض: إنها تعني الشخص الصادق في اعتقاده وكلامه، يكشف سلوكه عن صدقه اعتقاده(2).
وتـجتمع جميع هـذه المعاني في القـول بانها صيغة مبالغة لصـادق، لأن المفهوم آنذاك يكون شاملا لجميع المعاني المتقـدمة، وعلـى هذا فالمسـلم أن المراد ليس جميـع المؤمنين بل المؤمنـون أصحاب الدرجات الرفيعـة في ايمانهم.
أما «الشهداء» فقد يكون المراد من ذلك هو أن المؤمنين الصديقين له أجر كأجر الشهداء، كما جاء ذلك في حديث للامام الصادق(عليه السلام) عندما جاءه شخص يطلب الدعاء له بالشهادة، فاجابه الامام(عليه السلام): «إن المؤمن شهيد» ثم تلا الآية:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الفخر الرازي الجزء 24 الصفحة 8.
2 – المفردات ومجمع البحرين (مادة صدق)، تفسير الميزان الجزء 19 الصفحة 186، وتفسير المراغي الجزء 27 الصفحة 174، وتفسير مجمع البيان الجزء 9 الصفحة 236.
[414]
(وَالَّذِيْنَ آمَنُوا … )(1).
كما يحتمل ان يكون المراد من الشهداء، هو الشهداء على أعمال الناس، لأن المستشفَّ من آيات عديدة هو أن فريقاً من المؤمنين (الانبياء والأئمة) يشهدون على الامم.
ولا يبعد الجمع بين هذين المعنيين(2).
إن «الاجر» في عبارة «لهم أجرهم ونروهم» تعني جزاء الأعمال، أما «النور» ففسّرَه البعض بأنه النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين الذي يفتح الطريق نحو الجنة يوم القيامة، إلاَّ انه لا دليل على هذا التحديد، وقد جاء هنا مطلقاً، فينبغي القول بعمومية مفهومه وشموله للنور الذي جعله الله للمؤمنين في الدنيا كما يشمل النور الذي يهتدي به المؤمنون الى الجنة يوم القيامة(3).
وقد طـرحت الآية الـرابعة والاخيرة استفهـاماً تقريـرياً قائلة: ( اَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإسلامِ فَهُـوَ عَلَـى نُـور مِنْ رَبِّـهِ)؟ وهذا دليل واضح على أن قبول الايمان متـزامن ومقترن مع شرح الصدر، وشرح الصدر أرضية خصبة للنور الالهـي، النـور الذي يضيء العالم أمام أعين المؤمن، ويكشف له حقائقه كما هي.
إن المراد من «شرح الصدر» هو اتساع الروح الى درجة تكون مستعدة لاستيعاب حقائق كثيرة، وما يقابل شرح الصدر هو «ضيق الصدر» اي تضيق الروح بدرجة لا تتمكن من استيعاب شيء من الحقائق، وبتعبير آخر: إن شرح
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير مجمع البيان الجزء 9 الصفحة 238.
2 – احتمل البعض ان جملة (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ليست عطفاً على الجملة التي سبقتها، وانها جملة مستقلة مركبة من مبتدأ وخبر، إلاّ أن هذا الاحتمال بعيد جداً.
3 – الظاهر من تعبير بعض المفسرين أن الضمائر في جميع هذه الجمل ترجع الى المؤمنين، بينما يصرح صاحب الميزان بأن الضمير في «لهم» يرجع الى «الذين آمنوا» والضميرين الاخرين يرجعان الى «الصديقين» و«الشهداء»، أي اولئك الذين لهم أجر الصديقين والشهداء ولهم نورهم، إلاّ ان هذا الاحتمال بعيد.
[415]
الصدر هو اتساع وعظمة الروح الذي يُعَدُّ الارتباط بالذات اللامتناهية أحد عوامله، نعم إن الروح التي تتخذ صبغة الله وتتسع تكون أهلا لقبول العلوم والمعارف الالهية.
إنها لا تتسع فحسب، بل تلين وتختصب وتتهيء لنثر بذور المعرفة فيها، ولهذا صرحت الآية في النهاية: (فَوَيْلٌ لِلْقـاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله).
* * *
إيضاحات:
علاقة الايمان بالعلم في الروايات الاسلامية:
1 ـ جاء في حديث عن الامام الصادق(عليه السلام) انه قال:
«ان المؤمن ينظر بنور الله»(1) فطلب احد الصحابة بيان معنى الحديث فقال(عليه السلام): هذا انما هو لاجل ان الله تعالى قد خلق المؤمن من نوره واحاطه برحمته.
2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
«اتقوا فـراسة المؤمن فانّـهُ ينظر بنور الله ثم تـلا: ان فـي ذلك للمتوسمين»(2).
3 ـ وفي رواية اخرى عن الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) عن آبائه الكرام عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ايّاكم وفراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله تعالى»(3).
4 ـ ونجد ان هذه الأمثال اتخذت أهميةً كبرى كما هو المشاهد في بعض الروايات حيث ينقل نهج البلاغة عن امير المؤمنين(عليه السلام) انه قال: «اتقوا ظنون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانور الجزء 64 الصفحة 74 الحديث رقم 2.
2 – بحار الانوار الجزء 64 الصفحة 74 الحديث رقم 4.
3 – بحار الانوار الجزء 64 الصفحة 75 الحديث رقم 8.
[416]
المؤمنين فان الله سبحانه جعل الحق على السنتهم»(1).
5 ـ وجاء عنه (عليه السلام) في نهج البلاغة ايضاً انه قال: «وبالصالح يستدل على الايمان وبالايمان يعمر العلم»(2).
6 ـ ونختم البحث بحديث عن الامام الباقر(عليه السلام) يقول فيه: «ما من مؤمن الا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر ايمانه»(3).
وكما قلنا في بداية البحث، فان الايمان الصادق يجعل الانسان عاشقاً للحق والحقيقة ومذعناً أمام الواقعيات والحقائق، وبهذا تتحرر روح الانسان من جميع القيود وتتهيأ لقبول جميع المعارف.
* * *
3 ـ علاقة «الصبر والشكر» بـ «المعرفة»
في البداية نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ ( وَلَقَدْ اَرْسَلْنـا مُوسَى بِآيـاتِنـا اَنْ اَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمـاتِ اِلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِاَيّـامِ اللهِ انَّ فِي ذلِكَ لآيـات لِكُلِّ صَبّار شَكُور)
(ابراهيم / 5)
2 ـ ( اَلَمْ تَرَ اَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيـاتِهِ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيـات لِكُلِّ صَبّار شَكُور)
(لقمان / 31)
3 ـ ( فَقـالُوا رَبَّنـا بـاعِدْ بَيْنَ أَسْفـارِنـا وَظَلَمُـوا اَنْفُسَهُـمْ فَجَعَلْنـاهُمْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الكلمات القصار جملة رقم 309.
2 – نهج البلاغة خطبة رقم 156.
3 – عيون الاخبار الجزء 2 الصفحة 200 (ينقله عن كتاب الحياة الصفحة 92).
[417]
اَحـادِيثَ وَمَـزَّقْنـاهُمْ كُلَّ مُمَـزَّق اِنَّ فِـي ذلِكَ لآيـات لِكُـلِّ صَبّـار
شَكُور)
(سبأ / 19)
4 ـ ( وَمِنْ آيـاتِهِ الجَوارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * اِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَضْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيـات لِكُلِّ صَبّار شَكُور)
(الشورى / 32 ـ 33)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
السير في الآفاق والأنفس مع الصابرين:
تحدثت الآيـة الاولى عن « بني اسرائيل »، حـيث بُعثَ فيهم مـوسى (عليه السلام)بمعاجز وآيات إلهية واضحة، وكان موظَّفاً بأن يخرجهم من ظـلمات الشرك والكفر والفساد الى نور التوحيد الذي هو ينبوع جميع البركات والخيرات، ولأن يذكرهم بأيـام الله، ثـم قالت الآيـة في النهاية: (انَّ فِي ذلِكَ لآيـات لِكُلِّ صَبّار شَكُور).
ما المراد من أيـام الله؟
هناك بحث بين المفسرين في هذا المجال، فمنهم من فسرها بالنِّعَم والابتلاءات الالهية(1)، ومنهم من فسرها بأيام انتصار الرسل والأمم الصالحة، ومنه مَنْ اعتبرها اشارة الى أيام عذاب الأقوام الطاغية والعاصية والظاهر عدم المنافاة بين هذه التفاسير لانها كلها من «ايام الله».
إنّ الـ « الأيام » معنـاها واضح، واضافتها الى الله « اضافة تشريفية »، والمراد منها هو جميع الايام المهمة من حيث أهميتها البالغة، أو من حيث أن فيـها نعمة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لقد جاء هذا التفسير في عدد من الاحاديث النبوية. تفسير الميزان الجزء 5 الصفحة 15 و 16، وتفسير نور الثقلين الجزء 2 الصفحة 526.
[418]
إليهة شملت أقواماً صالحين كالانتصارات العظيمة على جند الشرك والظلم، وكالنجاة من الظَّلَمَة والطواغيت وكالموفقية لأداء الجهاد أو فريضة عـظيمة اخرى.
أو من حيث شمول عذاب الله ونقمته لأقوام عصاة وهلاكهم، أو شمول نبذة من العقاب الالهي لهم ليستيقظوا من غفلتهم ويعوا، كل هذه هي «أيام الله» وداخلة في مفهومها الواسع.
أما سبب كون هذه الآيات عبرة للصـابرين والشاكرين فقط دون غيرهم (ينبغي الالتفـات هنا الـى أن « صبور » « وشكور » صيغةٌ مبالغةٌ، الاولى تعني كثير الصبر والثانية كثير الشكر)، فـذلك لأجل ان دراسة دقائق هذه الحوادث وجذورها من جهة، ونتائجها من جهة اخرى يحتاج الى صبر وتأن.
إضافـة الى هذا، فانه لا يستفيد من هذه الحـوادث إلاَّ اولئك الذين يقدّرون نعَم اللهِ ويشكرونه عليها، وعلى هذا، فالصبر والشكر أرضيتان ملائمتان للمعرفة والعلم.
كما يحتمل ان يكون تقارن الصبر مع الشكر لأجل أن هؤلاء مجهزون بالصبر عند المصائب، وبالشكر عند النِعَم، وعلى هذا فلا يركعون أمام المصائب، ولا يغترون عند نزول النِعَم، فلا يضِلون أنفسهم على أي حال، فهم مؤهلون لتقبل المعرفة وأخذ العِبَر والدروس من هذه الحوادث العظيمة.
* * *
في الآية الثانية والـرابعة جاءت هذه العبارة: (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِكُلِّ صَبّار شَكُور)، وقد ذُكِرَت بعد التعرض لحركة السفن في البحار والمحيطات التي تتم باِيعاز من الله وبالاستعانة بالرياح فتطوي المسافات البعيدة وتصل الى مقاصدها
[419]
بسرعة.
بديهي ان هذا الموضوع هو إحدى آيات الله التكوينية، وآية من آيات النظام الالهي وقدرة الله.
لكن هل يا ترى يكون استثمار هذه الآيات الالهية الموجودة في عالم الوجود وحتى الكامنة في هبوب الرياح ممكناً للجميع، أو أنه خاص بأُولئك الذين يدرسون ويتابعون نظام الخلق العجيب بدقة وصبر وتأن الى المستوى الذي يتيح لهم العلم البشري فرصةَ الاستثمار، ومن جهة اخرى فان الدافع نحو «شكر المُنعِمِ» نفسه عامل للسعي والحركة في طريق المعرفة.
يقول «القرطبي» في تفسيره:
«والآية: العلامة، والعلامة لا تبين في صدر كل مؤمن إنما تتبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء»(1).
وقد جاء في تفسير «روح البيان»:
«مبـالغ في الصبـر على المشاف فـيتعب نفسه في التفكر في النفس والآفاق»(2).
والجميـل هنا هو ان الهواء الذي يحيط بالكرة الأرضية من ألطف الموجودات، وبالرغم من ذلك فهو عندما يتحرك ويتنقل فانه لا يحرك السفن العظيمة في البحار فحسب، بل كذلك الغيوم التي تُعَدُّ ينابيعَ للغيث، فيأخذ بها نحو الصحاري والأراضي الميتة فيحيها، كما أنه بانتقال الهواء الحار الى المناطق الباردة والهواء البارد الى المناطق الحارة تتهيأ الأراضي الميتة للحياة، واضافة الى هذا فان الهواء يلقح النباتات كالزهور والاشجار ويحمل احياناً البذور فتُزرع في الأماكن التي تسقط فيها، ألَمْ تكن هذه من آيات الله؟ ومن يمكنه استثمار هذه الآيات غير الصابرين والشاكرين؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير القرطبي الجزء 14 الصفحة 79.
2 – روح البيان الجزء 7 الصفحة 98.
[420]
وقد جاء في حديث للرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم): «الايمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر»(1) وهذا الحديث تأكيد لما جاء في الآيات.
* * *
وأخيراً فان الآية الثاثة أشارت الى قوم سبأ، حيث شملهم التوفيق الالهي فاستطاعوا أن يوجدوا سداً عظيماً بين الجبال في «اليمن»: وادخروا فيه الماء الكثير، وتمكنوا من ايجاد بساتين كثيرة، فغُمروا في النِعَم والفـرح، إلاّ أنّـهم سلكوا طريق كفران النعمة، فتسلطت الأقوام المرفهة على الأقوام الضعيفة ظلماً وجوراً فَعَـمَّ مساكنَهُم الخرابُ والدمار، بحيث هلك الحرث والنسل لانفجـار السد، فتفككوا وتشتتوا بشكل حيث جعلهم الله أحاديث للآخرين (فجعلناهم أحاديث)وأهلكهم جميعاً (ومزقناهم كلّ ممزق)، ثم أضاف القرآن: (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيـات لِكُلِّ صَبّار شَكُور).
وذلك لأنهم يستخلصون الدروس والعِبر بدقتهم وتأنيهم.
ومن جهة فان هذه الحقيقة تثبت، وهي: ان بـين الحياة والممـات مسافة قصيرة جداً، بحيث يمكنك البحث عن الممات في قلب الحياة، فان وفرة الماء التي سببت تقدم قوم سبأ وازدهار بلادهم وتطور حضارتهم، سبب هلاكهم يوماً ما!
ومن جهة اخرى فان هذا يكشف عن شدة ضعف هذا الانسان المغرور، وذلك لأنه يقال انّ السدّ (الذي اُطلق عليه سدّ مأرب)، قد ثُقب بواسطة الجرذان الصحراوية ثقباً صغيراً في البداية ثم توسع الثقب الى أن أدى بالسدّ لأن ينهدم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير مجمع البيان الجزء 7 الصفحة 323، تفسير الفخر الرازي الجزء 25 الصفحة 162، وتفسير المراغي الجزء 21 الصفحة 97، وتفسير القرطبي الجزء 5 الصفحة 3571، وتفاسير اخرى.
[421]
بالكامل، وبهذا نرى أن جرذاناً صحراوية أبادت حضارة عظيمة.
ومن جهة ثالثة، فان المستكبرين من قوم سبأ الذين ما استعدوا لأن يروا المستضعفين بقربهم، وحسبوا أنه ينبغي وجـود فاصلة او سد عظيم كسد مأرب بين أقلية الأشراف والأكثرية المستضعفة، طلبوا من الله ان يبعد مدنهم عن مدن المستضعفين كي لا يتمكنوا من السفر مع المستكبرى، ويبـقى امتيـاز السفر خاصاً بهم (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) إلاّ أن الله فرقهم بشكل حيث لا هم بقوا ولا ظنونهم الباطلة.
ومن جهة رابعة، فان حياتهم المرفهة أغفلتهم عن ذكر الله، وما صحوا إلاّ بعد أن انتهى كل شيء.
وعلى هذا، فيمكننا بالتأمل والدقة والاستعانة بالعقل أن نستشف آيات كثيرة من هذه القصة وهذا الحديث(1).
* * *
النتيجة:
ان المستشف من الآيات الاربع الماضية هو: ان كل من كان أدق وأكثر صبراً في دراسته لاسرار الخلق والحياة الاجتماعية، ولكل من كان شاكراً للنعم ومستعيناً بوسائل المعرفة فان له نصيباً أوفر وأكثر من المعرفة، ولهذا كان الصبر والشكر أرضيتين ممهدتينِ للمعرفة.
* * *
4 ـ المعرفة تهيء الارضية للمعرفة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ينبغي الالفتات الى ان مفردة «أحاديث» التي جاءت في الآية، منتهى الجموع وتكشف عن وجود أحاديث وقصص كثيرة في ماضي قوم سبأ لا قصة واحدة.
[422]
تمهيد:
المعروف هو ان الثروة تجلب الثـروة، اي ان مقداراً من رأس مال يكون ارضية لربح رأس مال ابر، ولما ازداد مقداره ازداد مورد الانسان من رأس مال ذلك.
ان هذا الامر يحكم العلوم والمعارف كذلك، فالذين يملكون رأس مال من العلوم تتوفر عندهم الارضية الخصبة لتقبل علوم ومعارف اخرى، ولهذا قلنا: ان المعرفة تهيء الارضية للمعرفة اي لنيل معارف اخرى هي ارفع واوسع.
وقبل الخوض في البحث نستمع خاشعين للآيات التالية:
1 ـ ( وَمِنْ آيـاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالاْرْضِ وَاختِلافِ اَلْسِنَتِـكُمْ وَاَلْوانِـكُمْ اِنَّ فِي ذلِكَ لايـات لِلْعـالِمِينَ)
(الروم / 22)
2 ـ ( فَتِـلْكَ بُيُوتُهُـمْ خـاوِيةً بِمـا ظَلَمُـوا اِنَّ فِـي ذلِكَ لآيَـةً لِقَـوْم
يَعْلَمُونَ)
(النمل / 52)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
مالم تكن منّا لن تطلع على اسرارنا:
ان الآية الاولى من جملة الآيات الكثيرة في سورة الروم التي اشارت لآيات الآفاق والانفس، وعدت بعضاً من آيات الله في العالم الاكبر (الكون) وبعضاً من آيات العالم الاصغر «الانسان» فاشارت الآية الى العالم الاكبر من جهة (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ)، ثم اشارت الى بعض دقائق خلق الانسان من
[423]
جهة اخرى (وَاختِلافِ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوانِكُمْ).
الاختلاف ليس في الالسنة والالوان الظاهرة فحسب، بل في السنة الفكر والوان الذلواق والبواطن، فانها مختلفة الى درجة بحيث لا يمكن العثور على شخصين متشابهين بالكامل، وهذا الاختلاف جار حتى بالنسبة للتوأم.
ان هذا الاختلاف بسبب ـ من جهة ـ التمايز بين الناس، لانه اذا لم يكن تمايز بين الناس اختل النظام الاجتماعي للحياة، كما هو الحال بالنسبة للتوأم فالذي يعاشرهم كثيراً ما يقع في اخطاء تجاههم، فقد يقدم احدهم من السفر ويقوم صديقهم بزيارة الآخر الذي لم يسافر. او يتمرض احدهم فيزور الآخر وهو صاح. أو يعطي الابوان الدواء للسليم لعدم التمييز بينهما.
تصوروا ما الذي يحصل لو كان الناس جميعاً متشابهين من جميع الجهات؟!! ومن جهة اخرى. فان هذا التنوع والاختلاف يسبب انخراط كل مجموعة من الناس في جانب من جوانب الحياة وبهذا الاختلاف في الاذواق والقابليات تسدّ جميع احتياجات البشر الاجتماعية فلا يحصل خللٌ في هذا المجال، الم تكن هذه الدقة العجيبة في هذا النظام من آيات الله؟!
والجدير بالذكر ان المفسرين ذكروا احتمالات عديدة في تفسير (اختلاف الألسنة) فتارة قالوا: إن المراد منه هو الاختلاف في اللغة، حيث نعلم ان اللغات الموجودة حالياً اكثر من الف لغة، وهذا التنوع الذي لا نريد الخوض في تفصيلاته فعلا، جيد لتتعرف الاقوام المختلفة على بعضها البعض.
وتارة قالوا : ان المراد هو اللـهجات وكيفية حديث الاشخـاص التي تختلف من شخص إلى آخر اختلافاً كبيراً، فكلّ منطق واسلوب في البيان يعبّر عن شخصيته.
وتارة قالوا: ان المـراد هو الاصوات او ما يصطلح عليه بـ «الذبذّات» الذي يختلف عند الاشخاص اختلافاً فاحشاً، ولهذا فان العمى يميز الاشخاص من
[424]
اصواتهم، كما ان البصير يميزهم من وجوههم.
ومن هنا يتضح ان اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والارض في الآية هو لأجل الاشارة الى ان جميع موجودات العالم ـ صغيرها وكبيرها، وابسطها واعقدها ـ بحسب الظاهر ـ تحكمها قوانين وانظمة دقيقة، و.هي آيات لعلم الله وقدرته وينبغي الاشارة الى ان الآية صرحت في النهاية (اِنَّ فِي ذلِكَ لايات لِلْعالِمِينَ) نعم ان العلماء هم الذين يدرسون اسرار الكون ويتفحصونها واحدة تلو الاخرى، وهم الذين تكون معرفتهم السابقة ارضية خصبة لمعارفهم الاكثر والأدقّ.
* * *
وقد تحدثت الآية الثانية عن مجاميع صغيرة مفسدة تعيش في «وادي القرى» بين قوم صالح (على ما يقوله المفسرون)، وكان عددهم تسعة رهط (اي مجموعات صغيرة)، وكانوا يفسدون في الأرض دائماً كما يصفهم القرآن الكريم (وَكَانَ فِي الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْط يُفْسِدُونَ فِي الاْرْضِ).
أمهلهم الله كثيراً كفرصة للتوبة والرجوع الى أنفسهم، لكن ما زادهم الإمهال إلاّ غروراً، وكان نهاية أمرهم أن أنزل اللهُ عليهم صاعقة من السماء، وزلزلة من الارض ختمت حياتهم.
يقول القرآن فيهم: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيةً بِما ظَلَمُوا) أي خالية منهم بسبب ظلمهم وطغيانهم.
ثم يضيف: (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَعْلَمُونَ).
إن عبارة (بِما ظَلَمُوا) تدل على ان الظلم هو السبب في دمـار البيوت وخرابها، وقد نُقِل عن ابن عباس ان قال: إني وجدت هذه الحقيقة في كتاب الله
[425]
وهي: إن الظلم يهدم البيوت، ثم تلا الآية المذكورة.
وقد جاء في التوراة: يابن آدم لا تظلم فيُهدم بيتك(1).
وينبغي الالتفات هنا الى أن مفردة «خاوية» تعني ـ في الأصل ـ خالية، إلاّ أن كثيراً من المفسرين فسرها بالخربة، وهذا قد يكون لأجل أن البيت اذا خلى وهُجِر خرِبَ وانهدم(2).
* * *
النتيجة:
من المعلوم ان آيات الله ـ سواء كانت آفاقية او في الانفس او تعلقت بدروس وعبر تاريخ الاقوام الغابرة ـ تخص الجميع، وبما ان الجميع لا يستفيد منها ولا يستمثرها يقول القرآن عنها (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيةً لِقَوْم يَعْلَمُونَ).
![](https://wilayah.info/ar/wp-content/uploads/2023/01/WhatsApp-Image-2021-12-09-at-6.27.37-PM-660x330.jpeg)