الرئيسية / بحوث اسلامية / الإحتجاج (ج1) / للطبرسي

الإحتجاج (ج1) / للطبرسي

الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٢١ – ٤٠

لعيسى، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى،وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها، لأنه إذا قال ” أذهبإلى أبي وأبيكم ” فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه، وما يدريكم لعله عنىأذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكموكذلك نوح، بل ما أراد غير هذا.

قال: فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلكوسننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأنالأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ فقالوا: لأنا لا نحكم إلا بما نشاهدولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنابأنها لا تزال.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاءا أبد الآبد.

فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكمبلا نهاية ولا تزالون كذلك، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمونوالذين يشاهدونكم.

قالوا: بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فلمصرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها، وانقضاؤهاأولى من تارك التميز لها مثلكم، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنهلم يشاهد لها قدما ولا بقاءا أبد الآبد، أو لستم تشاهدون الليل والنهار واحدهمابعد الآخر؟ فقالوا: نعم. فقال: أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا: نعم.

فقال: أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا: لا. فقال صلى الله عليه وآله فإذا منقطعأحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده. قالوا: كذلكهو. فقال: قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروالله قدرته.

٢١

ثم قال صلى الله عليه وآله: أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه، فإن قلتمإنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شئمنهما. قالوا نعم. قال لهم: أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم بهوبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا الذي تشاهدونهمن الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به، كمانرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلكسائر ما نرى.

وقال أيضا: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديمفأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا كانت تكون صفته؟ قال:

فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذاالذي زعموا أنه قديم، فوجموا وقالوا: سننظر في أمرنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبرانفقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟ فقالوا: لأنا وجدنا العالمصنفين خيرا وشرا، ووجدنا الخير ضدا للشر، فأنكرنا أن يكون فاعل واحديفعل الشئ وضده بل لكل واحد منهما فاعل، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخنكما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا. فقاللهم رسول الله صلى الله عليه وآله: أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرةوزرقة، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحدكما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا: نعم قالفهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غيرفاعل الضد الآخر؟ قال: فسكتوا.

ثم قال: فكيف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه منطبعها النزول، أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكانيجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما؟ قالوا: لا. قال: فوجب

٢٢

أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيفوجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبرانجميعا مخلوقان. فقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على مشركي العرب فقال: وأنتم فلم عبدتمالأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بذلك إلى الله تعالى. فقال لهم: أو هيسامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا: لا. قال:

فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا: نعم. قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوزمنها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارفبمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.

قال: فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن اللهقد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمناتلك الصور التي حل فيها ربنا، وقال آخرون منهم: إن هذه صور أقوام سلفواكانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله، وقال آخرون منهم:

إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له [ فسجدوه تقربا بالله ] كنا نحنأحق بالسجود لآدم [ إلى الله ] من الملائكة، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنالها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتمبالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكممحاريب (١) سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى اللهعز وجل لا إليها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أخطأتم الطريق وضللتم، أما أنتم – وهو صلى الله عليه وآله

(١) محاريب جمع محراب، ومحراب المسجد قيل سمي بذلك لأنه موضع محاربةالشيطان والهوى، وقيل بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خص به صدر المجلسفسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد. وكان هذا أصح قال تعالى: ” يعملونله ما يشاء من محاريب وتماثيل “.

٢٣

يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناهافصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا – فقد وصفتمربكم بصفة المخلوقات، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذاك الشئ، فأيفرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقلهوخفته، ولم صار هذا المحلول فيه محدثا قديما دون أن يكون ذلك محدثاوهذا قديما، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجلكان لم يزل، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوهبالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء، لأن ذلك أجمع منصفات الحال والمحلول فيه، وجميع ذلك متغير الذات، فإن كان لم يتغير ذاتالباري تعالى بحلوله في شئ جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيضويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميعصفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم قال رسولالله صلى الله عليه وآله: فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليهقولكم. قال: فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الفريق الثاني فقال: أخبرونا عنكم إذا عبدتمصور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراببالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمهوعبادته أن لا يساوي به عبده، أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيموالخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيمالصغير؟ فقالوا: نعم. قال: أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صورعباده المطيعين له تزرون (١) على رب العالمين. قال: فسكت القوم بعد أنقالوا: سننظر في أمرنا.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا

(١) تزرون: تعيبون وتعاتبون.

٢٤

بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك إنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيها أمرناوننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناهولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأولفهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجهإلى الكعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكونبها فأطعناه، ولم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره، والله حيث أمربالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسواذلك عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينهألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلهابغير أمره، أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابهألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟

قالوا: لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول. قال صلى الله عليه وآله: فأخبرونيالله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا: بل اللهأولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه، قال: فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجودأن تسجدوا لهذه الصور؟ قال فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا.

وقال الصادق عليه السلام: فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثةأيام حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كلفرقة خمسة وقالوا: ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.

احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من المشركين

وقال الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنزل الله ” الحمدلله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم

٢٥

يعدلون ” (١) الآية. وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال” الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ” فكان ردا على الدهرية الذين قالوا:

إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة. ثم قال ” وجعل الظلمات والنور ” فكان ردا علىالثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما مدبران. ثم قال: ” ثم الذين كفروابربهم يعدلون ” فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة.

ثم نزل الله ” قل هو الله أحد ” إلى آخرها، فكان ردا على من ادعى من دونالله ضدا أو ندا.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: قولوا ” إياك نعبد ” أي نعبد واحدالا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، ولا كما قالتالثنوية إن النور والظلمة هما المدبران، ولا كما قال مشركو العرب إن أوثانناآلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولانقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.

قال: فذلك قوله: ” وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى “وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا، قال الله تعالى يا محمد ” تلك أمانيهم “التي يمنونها بلا حجة ” قل هاتوا برهانكم ” وحجتكم على دعواكم ” إن كنتمصادقين ” كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها. ثم قال ” بلى من أسلم وجههلله ” تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته” وهو محسن ” في علمه ” فله أجره ” وثوابه ” عند ربه ” يوم فصل القضاء ” ولاولا خوف عليهم ” حين يخاف الكافرون مما يشاهدون من العقاب ” ولا هم يحزنون ” (٢)عند الموت لأن البشارة بالجنات تأتيهم.

(١) الأنعام: ١.

(٢) البقرة: ١١١ – ١١٢.

٢٦

احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على جماعة من المشركين

عن أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام أنه قال: قلت لأبي علي بن محمد عليه السلامهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: بلىمرارا كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم: ” وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعامويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك ” إلى قوله ” رجلا مسحورا ” (١) وقالوا:

” لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ” (٢)وقوله عز وجل:

” وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ” إلى قوله ” كتابا نقرؤه ” (٣)ثم قيل له في آخر ذلك: لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماءونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسىلموسى عليه السلام.

قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذاجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختريابن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي،وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهمكتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه.

فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوانبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبهعلى أصحابه ويصغر قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمردهوطغيانه، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل: فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية

(١) الفرقان: ٧ – ٨

(٢) الزخرف: ٣١.

(٣) الإسراء: ٩٠ – ٩٣

٢٧

٢٨

يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا به فلعلنا نطغى، وأنك قلت لنا: ” كلاإن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ” (١).

ثم قال: أو ترقى في السماء أي تصعد في السماء ولن نؤمن لرقيك أي لصعودكحتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزوميومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه فيمقالة أنه من عندي، ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لاأؤمن بك، بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرتأبصارنا (٢) وسحرتنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله أبقي شئ من كلامك؟ قال: يا محمدأوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ، ما بقي شئ فقل ما بدا لك وافصح عننفسك إن كان لك حجة وأتنا بما سألناك به.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شئ تعلمما قاله عبادك، فأنزل الله عليه: يا محمد ” وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام “إلى قوله ” رجلا مسحورا ” (٣) ثم قال الله تعالى: ” أنظر كيف ضربوا لك الأمثالفضلوا فلا يستطيعون سبيلا ” (٤) ثم قال: يا محمد ” تبارك الذي أنشأ جعل لكخيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ” (٥) وانزلعليه: يا محمد ” فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ” (٦) الآيةوأنزل الله عليه: يا محمد ” وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضيالأمر ” إلى قوله ” وللبسنا عليهم ما يلبسون ” (٧).

(١) العلق: ٦ – ٧

(٢) سكرت أبصارنا: غطيت وغشيت عن النظر.

(٣) الفرقان: ٧ – ٨.

(٤) الإسراء: ٤٨.

(٥) الفرقان: ١٠.

(٦) هود: ١٢.

(٧) الأنعام: ٨ – ٩.

٢٩

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله أما ذكرت من أني آكل الطعامكما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر للهتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراضعليه بلم وكيف، ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذلبعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا، وكلهم ممن يأكل الطعام،ثم ليس للفقراء أن يقولوا ” لم أفقرتنا وأغنيتهم ” ولا للوضعاء أن يقولوا ” لموضعتنا وشرفتهم ” ولا للزمنى (١) والضعفاء أن يقولوا ” لم أزمنتنا وأضعفتناوصححتهم ” ولا للأذلاء أن يقولوا ” لم أذللتنا وأعززتهم ” ولا لقباح الصور أنيقولوا ” لم قبحتنا وجملتهم ” بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله فيأحكامه منازعين وبه كافرين، ولكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرافعالمغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم ليوالانقياد لحكمي، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرينوبعقوباتي من الهالكين.

ثم أنزل الله عليه: يا محمد ” قل إنما أنا بشر مثلكم ” يعني آكل الطعام” ويوحى إلي إنما إلهكم إله واحد ” (٢) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكمولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمالدون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة [ دونكم ].

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك ” هذا ملك الروم وملك الفرس لايبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيدوخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ” فإن الله له التدبير والحكم لايفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهومحمود، يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (٣)

(١) الزمنى: الذين ألم بهم المرض، المرضى.

(٢) الكهف: ١١٠.

(٣) الكد: الالحاح والشدة في الطلب.

٣٠

نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدميسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ، أو ما ترى الملوكإذا احتجوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.

يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصرلرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته، فهذا بين في قدرته وفي عجزكموسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستوليعليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك لي: ” لو كنت نبيا لكان معك ملكصدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرامثلنا ” فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لاعيان منه، ولوشاهدتموه – بأن يزاد في قوى أبصاركم – لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر،لأنه إنما كان يظهر لكم صورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفواخطابه ومراده، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق، بل إنمابعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتمضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من اللهبالصدق له، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما [ تعجزون عنه و ] يعجز عنه[ جميع ] البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسهمن الملائكة حتى يصير ذلك معجزا، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منهابمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها، ولو أن آدميا طار كطيرانها كانذلك معجزا، فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجتهوأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك ” ما أنت إلا رجل مسحور ” فكيفأكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم، فهل جربتم علي

٣١

منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية (١) أو زلة أو كذبة أو خيانة أوخطأ من القول أو سفها من الرأي، أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحولنفسه وقوتها أو بحول الله وقوته، وذلك ما قال الله ” انظر كيف ضربوا لك الأمثالفضلوا فلا يستطيعون سبيلا ” إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة أكثر من دعاويهمالباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك ” لولا نزل هذا القرآن على رجل منالقريتين عظيم الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة [ بن مسعود الثقفي ] بالطائف “فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندكبل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماءوليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائهوليس هو عز وجل ممن يخاف أحد كما تخافه أنت لما له وحاله فعرفته بالنبوةلذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوةلذلك، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديموإنما معاملته بالعدل، فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضلفي طاعته والأجد في خدمته، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهمتباطأ عن طاعته، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المالوالحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (٢)، فلا يقال لهإذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراههعلى خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه.

ألا تري يا عبد الله كيف أغني واحدا وقبح صورته، وكيف حسن صورةواحد وأفقره، وكيف شرف واحدا وأفقره، وكيف أغنى واحدا ووضعه. ثمليس لهذا الغني أن يقول ” هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ” ولا للجميل أن

(١) وفي بعض النسخ ” خربة ” وهي العيب والعورة والذلة

(٢) الضريبة: التي تؤخذ في الجزية ونحوها. واللازب: اللازم الشديد اللزوم.

٣٢

يقول ” هلا أضيف إلى جمالي مال فلان “، ولا للشريف أن يقول ” هلا أضيف إلىشرفي مال فلان ” ولا للوضيع أن يقول ” هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان “، ولكنالحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء، وهو حكيم في أفعاله محمود في أعمالهوذلك قوله تعالى: ” وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم “قال الله تعالى ” أهم يقسمون رحمة ربك ” يا محمد ” نحن قسمنا بينهم معيشتهم فيالحياة الدنيا ” (١) فأحوجنا بعضا إلى بعض، أحوج هذا إلى مال ذلك، وأحوجذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته. فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلىأفقر الفقراء في ضرب من الضروب: إما سلعة معه ليست معه، وإما خدمة يصلحلها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به، وإما باب من العلوم والحكم هو فقيرإلى أن يستفيدها من هذا الفقير، فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني،وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير، ولا للفقيرأن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذاالملك الغني. ثم قال الله: ” ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاسخريا ” ثم قال: يا محمد قل لهم ” ورحمة ربك خير مما يجمعون ” (٢) أي مايجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك ” لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرضينبوعا ” إلى آخر قلته، فإنك قد اقترحت على محمد رسول الله أشياء: منها ما لوجاءك به لم يكن برهانا لنبوته ورسول الله صلى الله عليه وآله يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلينويحتج عليهم بما لا حجة فيه، ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك، وإنمايؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها، فإنما اقترحتهلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون،ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع

(١) الزخرف: ٣٢.

(٢) الزخرف: ٣٢.

٣٣

معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته، ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتى لايكون لك عنه محيد ولا محيص، ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاندمتمرد لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب اللهالنازل من سمائه أو في جحيمه أو بسيوف أوليائه.

فأما قولك يا عبد الله ” لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكةهذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيونفإننا إلى ذلك محتاجون ” فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد اللهأرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيا؟ قال: لا. قال رسول الله: أرأيتالطائف التي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتهاوكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال: بلى. قال: وهل لك في هذانظراء؟ قال: بلى. قال: فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟ قال: لا. قال:

فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته، فما هو إلا كقولك: لننؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس أو حتى تأكل الطعامكما يأكل الناس.

وأما قولك يا عبد الله ” أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منهاوتطعمنا وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ” أو ليس لك ولأصحابك جنات من نخيلوعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا، أفصرتمأنبياء بهذا؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول الله صلى الله عليه وآله أشياء لوكانت كما تقترحون لما دلت على صدقه، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبهلأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم، ورسول ربالعالمين يجل ويرتفع عن هذا.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله وأما قولك ” أو تسقط السماء كما زعمتعلينا كسفا ” فإنك قلت وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحابمركوم، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم، فإنما تريد بهذا من

٣٤

رسول الله صلى الله عليه وآله أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك، لا يهلكك ولكنهيقيم عليك حجج الله، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده،لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد، وقد يختلفاقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه، والله عز وجل طبيبكم لا يجري تدبيرهعلى ما يلزم به المحال.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضىعلى حسب اقتراحهم، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبه العليل أو كرهه،فأنتم المرضى والله طبيبكم، فإن انقدتم لدوائه شفاكم وإن تمردتم عليه أسقمكم.

وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم منحكامهم فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه، إذا ماكان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بينصادق وكاذب فرق.

ثم قال رسول الله: يا عبد الله وأما قولك ” أو تأتي بالله والملائكة قبيلايقابلوننا ونعاينهم ” فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به، وأن ربنا عز وجل ليسكالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتمبهذا المحال، وإنما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التيلا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.

يا عبد الله أو ليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوام عليها؟

قال: بلى. قال أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟

قال: بسفراء. قال: أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك (١) وخدمك لسفرائك لانصدقكم في هذه السفارة إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ماتقولون عنه شفاها، كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا.

قال: فما الذي يجب على سفرائك أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم

(١) الأكرة: الأجراء والعمال.

٣٥

على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم؟ قال: بلى. قال: يا عبد الله أرأيت سفيركلو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي فإنهم قد اقترحوا علىمجيئك معي أليس يكون هذا لك مخالفا وتقول له إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر؟

قال: بلى. قال: فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتكومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم، وكيف أردت من رسول رب العالمينأن يستذم إلى ربه بأن يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلىأكرتك وقوامك، هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحتهيا عبد الله.

وأما قولك يا عبد الله ” أو يكون لك بيت من زخرف – وهو الذهب – ” أمابلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟ قال: بلى. قال: أفصار بذلك نبيا؟

قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وآله نبوة لو كان له بيوت، ومحمدلا يغتنم جهلك بحجج الله.

وأما قولك يا عبد الله ” أو ترقى في السماء ” ثم قلت ” ولن نؤمن لرقيكحتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ” يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها،وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول، ثم قلت” حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من بعد ذلك ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك “فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك، فلا دواء لك إلا تأديبه لك علىيد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، وقد أنزل الله علي حكمة بالغة جامعةلبطلان كل ما اقترحته فقال عز وجل: ” قل ” يا محمد ” سبحان ربي هل كنتإلا بشرا رسولا ” (١) ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال ممايجوز ومما لا يجوز، وهل كنت إلا بشرا رسولا لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التيأعطاني، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرسول الذيبعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.

(١) الإسراء: ٩٣

٣٦

فقال أبو جهل: يا محمد هاهنا واحدة ألست زعمت أن قوم موسى احترقوابالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة؟ قال: بلى. قال: فلو كنت نبيا لاحترقنانحن أيضا، فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى، لأنهم كما زعمت قالوا ” أرناالله جهرة ” ونحن نقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا نعاينهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفعفي الملكوت، وذلك قول ربي. ” وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرضوليكون من الموقنين ” (١) قوي الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصرالأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاكفهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاكفهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتكعن عبادي وإمائي فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم لا يضرني ذنوب عبادي كمالا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عباديوإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن علي ولا عبادي، وعباديمعي بين خلال ثلاث: إما تابوا إلي فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم، وإماكففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون فارفق بالآباءالكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن منأصلابهم فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي، وإن لم يكن هذا ولا هذافإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم، فإن عذابي لعبادي علىحسب جلالي وكبريائي، يا إبراهيم خل بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك،وخل بيني وبين عبادي فإني أنا الجبار الحليم العلام الحكيم أدبرهم بعلمي وأنفذفيهم قضائي وقدري.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنهسيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك، وسيلي من أمور المسلمين ما إن أطاع

(١) الأنعام: ٧٥.

٣٧

الله ورسوله فيه كان عند الله جليلا وإلا فالعذاب نازل عليك، وكذلك سائرقريش السائلين لما سألوا من هذا إنما أمهلوا لأن الله علم أن بعضهم سيؤمنبمحمد وينال به السعادة، فهو لا يقطعه عن تلك السعادة ولا يبخل بها عليه،أو من يولد منه مؤمن فهو ينظر أباه لإيصال ابنه إلى السعادة، ولولا ذلك لنزلالعذاب بكافتكم. فانظر إلى السماء، فنظر فإذا أبوابها مفتحة وإذا النيران نازلةمنها مسامتة لرؤوس القوم (١) تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم،فارتعدت فرائص (٢) أبي جهل والجماعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لاتروعنكمفإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرة. ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرجمن ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن بعض هذه الأنوار أنوار من قد علم الله أنه سيسعدهبالإيمان بي منكم من بعد، وبعضها أنوار ذرية طيبة ستخرج من بعضكم ممنلا يؤمن وهم يؤمنون.

وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: قيل لأمير المؤمنين يا أمير المؤمنينهل كان لمحمد صلى الله عليه وآله آية مثل آية موسى في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عنقبول ما أمروا به؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أي والذي بعثه الله بالحق نبيا ما منآية كانت لأحد من الأنبياء من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد صلى الله عليه وآلهإلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها، ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله نظير هذهالآية إلى آيات آخر ظهرت له، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أظهربمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده رمته العرب عن قسي عداوتها بضروبمكائدهم، ولقد قصدته يوما لأني كنت أول الناس إسلاما، بعث يوم الاثنينوصليت معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلاموأيد الله تعالى دينه من بعد، فجاء قوم من المشركين فقالوا له: يا محمد تزعم

(١) مسامتة لرؤوس القوم: محاذية لرؤوسهم.

(٢) الفرائص جمع الفريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عند الفزع

٣٨

أنك رسول رب العالمين، ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم،فلئن كنت نبيا فأتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك: مثل نوح الذي جاءبالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليهبردا وسلاما، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوالما دعاهم إليه صاغرين داخرين، وعيسى الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرونفي بيوتهم. وصار هؤلاء المشركين فرقا أربعة: هذه تقول أظهر لنا آية نوح،وهذه تقول أظهر لنا آية موسى، وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم، وهذهتقول أظهر لنا آية عيسى.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما أنا نذير [ وبشير ] مبين أتيتكم بآية مبينة هذا القرآنالذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم، فهو حجةبينة عليكم، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي وما على الرسول إلاالبلاغ المبين إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه، وليس عليه أن يقترح بعدقيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أوالفساد فيما يقترحون.

فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقوللك: إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم،ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك، فقل لهؤلاء المقترحينلآية نوح عليه السلام: امضوا إلى جبل أبي قبيس، فإذا بلغتم سفحه فسترون آيةنوح، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه. وقل للفريقالثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه السلام امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة،فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قدأرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار. وقلللفريق الثالث [ المقترحين لآية موسى: امضوا إلى ظل الكعبة ] فسترون آيةموسى، وسينجيكم هناك عمي حمزة. وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل:

٣٩

وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث، فإن الآيةالتي اقترحتها تكون بحضرتي.

فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمدصلى الله عليه وآله، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراءملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله مؤمنين،وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله صلى الله عليه وآله الإيمان باللهفاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسومبمفاخر الفاطمية تركنا ذكره هاهنا طلبا للايجاز والاختصار.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدواعيانا وهم مؤمنين بالله وبرسوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي جهل:

هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت. فقال أبو جهل: لا أدريأصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحتهعليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمنيتصديق هؤلاء على كثرتهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديقهؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئأسلاف أعدائك، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها،وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائرمن شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كانبأزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا،وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده.

ثم أخبره النبي صلى الله عليه وآله بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكلوادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بمافعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل

شاهد أيضاً

قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الجمعة     أهداف الدرس على المتعلّم مع نهاية هذا ...