الرئيسية / من / طرائف الحكم / تذكرة المتقين – موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

تذكرة المتقين – موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

ثانياً: إنَّ لقمان عليه السلام يريد أنْ يعظ ابنه بحكمٍ تعلّمها وعمل بها، فإذا نظرنا إِلَى ذلك من البعد الفقهي، نجده مستكملاً للشرط الَّذِي يذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهو شرط العلم بما يأمر وينهى. هذا بما يرتبط بتعامله مع الآخرين، وأمّا ما يرتبط بوظيفته تجاه تكليف نفسه، فهو يزكّي علمه الَّذِي ورد فيه الخبر: “وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ”7. كما أنَّ لحن الخطاب والشفقة يدلّان ـ من البعد الأخلاقي ـ على أنَّ لقمان الحكيم لم يكن مِمّن ينطبق عليه قول الشاعر:8

تدلُّ على التقوى وأنت مقصِّرٌ                 أيَا مَنْ يداوي الناسَ وهو سقيمُ

ومثله قول الآخر الَّذِي ذهب شطره الثاني مثلاً:

وغير تقيٍّ يأمر الناسَ بالتُّقى                 طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ

بل كان ـ في وعظه لابنه ـ مصداقاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: “إنَّ الوَعظَ الَّذي لا يَمُجُّهُ سَمعٌ ولا يَعدِلُهُ نَفعٌ ما سَكَتَ عَنهُ لِسانُ القَولِ ونَطَقَ بِهِ لِسانُ الفِعلِ9.

ثالثاً: إِنَّ هذه الموعظة التي هو بصدد ذكرها لابنه تحتاج إِلَى الحفظ, لكي يترتّب عليها الأثر. ويمكن أنْ يكون المقصود من الحفظَ على مستويين:

المستوى الأوّل: الحفظُ في مقابل النسيان, بأنْ يكون الإنسان متذكّراً لهذه الموعظة المتضمّنة للكلمات الأربع، بحيث يكون مستحضراً لها بشكلٍ مستمرٍّ, فإنّ الذُّنوب والمعاصي تجتمع مع الغفلة عن رقابة الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ10.

7- المصدر نفسه، 434.

8- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني 4، 327، نشر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

9- اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، 51، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني البيرجندي، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.

10- الروم،7.
المستوى الثاني: الحفظ بمعنى العمل، وإنّما يطلق الحفظ على العمل باعتبار أنَّ العاملَ فاعلٌ مختار، والفاعل المختار يكون فعله مسبوقاً بالاستذكار، والخطور في الذهن الَّذِي هو الحفظ في مقابل النسيان.

 

فالموعظة ينتفع بها ويبقى أثرها سارياً ما دام الإنسان مستذكراً لها غير غافلٍ عنها، وتترتّب الثمرة عليها بالعمل على وفقها.

رابعاً: نلاحظ في هذه الموعظة أنَّ لقمان الحكيم على الرغم من تعلُّمه لـ (سَبعَة آلاف مِنَ الحِكمَةِ)، لم يطنب في موعظته لابنه بتكثير الحِكَم, وذلك لأنّ الحِكَم التي تحصل نتيجة تجارب طويلة مرّت مع لقمان، من خلال ما مرّ من أنَّه “كان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء”، يحتاج إلقاؤها إِلَى مناسبات وظروف ملائمة وخاصّة.

 

كما أنَّ تأثير الموعظة ليس من الضروري أنْ يكون بالإكثار، فكم من كتبٍ قُرِئت لم تؤثّر في قارئها قيد أنملةٍ، وكم من كلمةٍ قليلة الحروف حرّرت قلباً من مخالب الشيطان ووضعته في أنامل الرحمن.

 

ومن شاء التصديق بذلك، فليطالع ما حصل بين بِشر بن الحارث المروزي، المعروف ببشر الحافي، والإمام الكاظم عليه السلام, وذلك عندما مرّ على داره ببغداد فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة، فرمت بها في الدرب، فقال عليه السلام لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ. فقال: “صدقتِ لو كان عبداً خاف من مولاه”. فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأكِ؟ فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي مولانا الكاظم عليه السلام، فتاب على يده، واعتذر وبكى لديه استحياءً من عمله.

 

خامساً: استعمل لقمان الحكيم عليه السلام مفردة (المرور) للتعبير عن الأثر المترتّب على حفظ الكلمات الأربع، فقال: “ومُرَّ مَعي إلَى الجَنَّةِ”، بدلاً من: (ادخل

الجنّة)، وليس ذلك إِلَّا لما في لفظ (المرور) من الدلالة على سرعةِ ترتُّب الأثر, لأن المرور في اللغة بمعنى المضيّ والاجتياز بالشيء11، وهذا يقتضي عدم المكث والتمهُّل، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا12. وفيما يلي شرح موجز لبعض مواعظ لقمان الحكيم عليه السلام.

 

https://t.me/wilayahinfo

[email protected]

الولاية الاخبارية

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...