الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٣٦١ – ٣٨٠
لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ” وقوله: ” اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهموتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ” فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطنذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، المراد: يكفر أهل المعاصي بعضهمببعض، ويلعن بعضهم بعضا، والكفر في هذه الآية: ” البرائة ” يقول: فيبرأبعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: ” إني كفرت بماأشركتمون من قبل ” وقول إبراهيم خليل الرحمن: ” كفرنا بكم ” يعنيتبرأنا منكم.
ثم يجتمعون في مواطن أخر يبكون فيها، فلو أن تلك الأصوات فيها بدتلأهل الدنيا لا زالت جميع الخلق عن معايشهم، وانصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ولايزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع، ويفضوا إلى الدماء.
ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه، فيقولون: ” والله ربنا ما كنامشركين ” وهؤلاء خاصة هم: المقرون في دار الدنيا بالتوحيد، فلا ينفعهم إيمانهمبالله لمخالفتهم رسله، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهمواستبدا لهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذبهم الله فيما انتحلوه من الإيمانبقوله: ” انظر كيف كذبوا على أنفسهم ” فيختم الله على أفواههم، ويستنطقالأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهمالختم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.
ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه منصعوبة الأمر، وعظم البلاء فذلك قوله عز وجل: ” يوم يفر المرء من أخيه وأمهوأبيه وصاحبته وبنيه الآية “.
ثم يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه، فلا يتكلمأحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالةالتي حملوها إلى أممهم، وتسأل الأمم فتجحد كما قال الله تعالى: ” فلنسألن الذينأرسل إليهم ولنسألن المرسلين ” فيقولون: ” ما جائنا من بشير ولا نذير ” فتشهد
الرسل رسول الله صلى الله عليه وآله فيشهد بصدق الرسل، وتكذيب من جحدها من الأمم،فيقول – لكل أمة منهم -: ” بلى قد جائكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير “أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم، كذلكقال الله – لنبيه -: ” فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاءشهيدا فلا يستطيعون رد شهادته، خوفا من أن يختم الله على أفواههم، وأن تشهدعليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، ويشهد على منافقي قومه، وأمته، وكفارهمبإلحادهم، وعنادهم، ونقضهم عهده، وتغييرهم سنته، واعتدائهم على أهل بيته،وانقلابهم على أعقابهم، وارتدادهم على أدبارهم، واحتذائهم في ذلك سنة منتقدمهم من الأمم الظالمة، الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: ” ربنا غلبت عليناشقوتنا وكنا قوما ظالمين “.
ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وهو: ” المقام المحمود “فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني على الملائكة كلهم، فلا يبقىملك إلا أثنى عليه محمد، ثم يثني على الأنبياء بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثنيعلى كل مؤمن ومؤمنة، يبدأ بالصديقين والشهداء، ثم الصالحين، فيحمده أهلالسماوات وأهل الأرضين، فذلك قوله تعالى: ” عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا “فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلكالمقام حظ ولا نصيب.
ثم يجتمعون في موطن آخر ويزال بعضهم عن بعض، وهذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه، نسأل الله بركة ذلك اليوم.
قال علي عليه السلام وأما قوله: ” وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ” ذلك فيموضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل، بعدما يفرغ من الحساب، إلى نهر يسمى:
” نهر الحيوان ” فيغتسلون منه، ويشربون من آخر فتبيض وجوههم، فيذهب عنهمكل أذى وقذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلىربهم كيف يثيبهم، ومنهم يدخلون الجنة فذلك قول الله عز وجل – في تسليم
الملائكة عليهم -: ” سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ” فعند ذلك قوله تعالى:
أثيبوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم الله عز وجل، فلذلك قوله تعالى:
” إلى ربها ناظرة ” والناظرة في بعض اللغة هي: المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى:
” فناظرة بم يرجع المرسلون ” أي: منتظرة بم يرجع المرسلون؟ وأما قوله:
” ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ” يعني: محمدا كان عند سدرة المنتهىحيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل، وقوله – في آخر الآية -: ” مازاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ” وأي جبرئيل في صورتهمرتين: هذه مرة، ومرة أخرى، وذلك إن خلق جبرئيل خلق عظيم، فهو منالروحانيين الذين لا يدرك خلقهم، ولا صفتهم إلا الله رب العالمينقال علي عليه السلام وأما قوله: ” ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو منوراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ” كذلك قال الله تعالى قد كانالرسول يوحي إليه رسل من السماء فتبلغ رسل السماء إلى الأرض وقد كان الكلامبين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء وقدقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” يا جبرئيل هل رأيت ربك؟ ” فقال جبرئيل: ” إن ربيلا يرى “.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” من أين تأخذ الوحي؟ ” قال: ” آخذه من إسرافيل “قال: ” ومن أين يأخذه إسرافيل؟ ” قال: ” يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين “قال: ” ومن أين يأخذه ذلك الملك؟ ” قال: ” يقذف في قلبه قذفا “.
فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام ليس بنحو واحد، منه:
ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذف في قلوبهم، ومنه رؤيا يراها الرسل، ومنهوحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله عز وجل.
قال علي عليه السلام وأما قوله: ” كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ” فإنما يعنيبه يوم القيامة عن ثواب ربهم لمحجوبون. وقوله تعالى: ” هل ينظرون إلا أنتأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ” يخبر محمدا عن المشركين
المنافقين، الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله، فقال: ” هل ينظرون إلا أن تأتيهمالملائكة ” وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آياتربك يعني بذلك: العذاب، يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذاخبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ثم قال: ” يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساإيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية ” يعني: لم تكن آمنت من قبل أن تأتيهذه الآية، وهذه الآية هي: طلوع الشمس من مغربها، وقال – في آية أخرى -:
” فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ” يعني: أرسل عليهم عذابا، وكذلك إتيانهبنيانهم حيث قال: ” فأتى بنيانهم من القواعد ” يعني: أرسل عليهم العذاب.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: ” بل هم بلقاء ربهم كافرون ” وقوله” الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ” وقوله: ” إلى يوم يلقونه ” وقوله: ” فمن كانيرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ” يعني: البعث، فسماه الله لقاء، كذلك قوله” من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ” يعني: من كان يؤمن أنه مبعوثفإن وعد الله لآت: من الثواب، والعقاب، فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية، واللقاءهو: البعث، وكذلك: ” تحيتهم يوم يلقونه سلام ” يعني: أنه لا يزول الإيمان عنقلوبهم يوم يبعثون.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: ” ورأى المجرمون النار فظنوا أنهممواقعوها ” يعني: تيقنوا أنهم يدخلونها، وكذلك قوله: ” إني ظننت أني ملاقحسابيه ” وأما قوله عز وجل – للمنافقين -: ” ويظنون بالله الظنونا ” فهو: ظنشك وليس ظن يقين، والظن ظنان: ظن شك، وظن يقين، فما كان من أمر المعادمن الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: ” ونضع الموازين القسط ليوم القيامةفلا تظلم نفس شيئا ” فهو: ميزان العدل، يؤخذ به الخلايق يوم القيامة، بدينالله تبارك وتعالى، الخلايق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، ويقتص للمظلوممن الظالم، ومعنى قوله: ” فمن ثقلت موازينه، ومن خفت موازينه ” فهو: قلة
الحساب وكثرته، والناس يومئذ على طبقات ومنازل، فمنهم: من يحاسب حسابايسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لأنهملم يتلبسوا من أمر الدنيا، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا، ومنهممن يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير، ومنهم أئمة الكفر وقادةالضلالة، فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، ولا يعبؤ بهم بأمره ونهيه يوم القيامةوهم في جهنم خالدون، وتلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون.
ومن سؤال هذا الزنديق أن قال أجد الله يقول: ” قل يتوفاكم ملك الموتالذي وكل بكم (١) “.
ومن موضع آخر يقول: ” والله يتوفى الأنفس حين موتها ” (٢) ” والذينتتوفاهم الملائكة طيبين ” (٣) ” وما أشبه ذلك فمرة يجعل الفعل لنفسه، ومرة لملكالموت، ومرة للملائكة.
وأجده يقول: ” ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ” (٤)ويقول، ” وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ” (٥) أعلم في الآيةالأولى: أن الأعمال الصالحة لا تكفر، وأعلم في الثانية، أن الإيمان والأعمالالصالحات لا تنفع إلا بعد الاهتداء.
واجده يقول: ” واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا ” (٦) فكيف يسألالحي من الأموات قبل البعث والنشور.
واجده يقول: ” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أنيحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ” (٧) فما هذه الأمانةومن هذا الإنسان؟ وليس من صفته العزيز العليم التلبيس على عباده.
واجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله: ” وعصى آدم ربه فغوى ” (٨)
(١) السجدة – ١١.
(٢) الزمر – ٤٢.
(٣) النحل – ٣٢.
(٤) الأنبياء – ٩٤.
(٥) طه – ٨٢.
(٦) الزخرف – ٤٥.
(٧) الأحزاب – ٧٢.
(٨) طه ١٢١.
وبتكذيبه نوحا لما قال: ” إن ابني من أهلي ” (١) بقوله: ” إنه ليس من أهلك ” (٢)وبوصفه إبراهيم بأنه: عبد كوكبا مرة، ومرة قمرا، ومرة شمسا، وبقوله في يوسف:
” ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ” (٣) وبتهجينه موسى حيثقال: ” رب أرني أنظر إليك قال لن تراني الآية ” (٤) وببعثه على داود جبرئيلوميكائيل حيث تسور المحراب، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضباوأظهر خطأ الأنبياء وزللهم، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل، وكنىعن أسمائهم في قوله: ” ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت معالرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذجائني ” (٥) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟
واجده يقول: ” وجاء ربك والملك صفا صفا ” (٦) ” وهل ينظرون إلا أنيأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ” (٧) ” ولقد جئتمونا فرادى ” (٨) فمرةيجيئهم، ومرة يجيئونهواجده: يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه، وكان الذي تلاه عبد الأصنام برهةمن دهره.
واجده يقول: ” ولتسألن يومئذ عن النعيم ” (٩) فما هذا النعيم الذي يسألالعباد عنه؟
وأجده يقول: ” بقية الله خير لكم ” (١٠) ما هذه البقية؟
وأجده يقول: ” يا حسرتي على فرطت في جنب الله ” وأينما تولوا فثموجه الله ” (١١) ” وكل شئ هالك إلا وجهه ” (١٢) ” وأصحاب اليمين ما أصحاب
(١) هود – ٤٥.
(٢) هود – ٤٦.
(٣) يوسف – ٢٤.
(٤) الأعراف – ١٤٣.
(٥) الفرقان – ٢٧.
(٦) الفجر – ٢٢.
(٧) الأنعام – ١٥٨.
(٨) الأنعام – ٩٤.
(٩) التكاثر – ٨.
(١٠) هود – ٨٦.
(١١) البقرة – ١١٥.
(١٢) القصص – ٢٨.
اليمين ” (١) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ” (٢) ما معنى: الجنب، والوجهواليمين، والشمال، فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟
واجده يقول: ” الرحمن على العرش استوى ” (٣) ويقول: ” أأمنتم من فيالسماء ” (٤) ” وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ” (٥) ” وهو معكم أينماكنتم ” (٦) ” ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ” (٧) ” وما يكون من نجوىثلاثة إلا هو رابعهم الآية ” (٨)واجده يقول: ” وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكممن النساء ” (٩) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتامفما معنى ذلك؟
واجده يقول: ” وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ” (١٠) فكيفيظلم الله ومن هؤلاء الظلمة؟
وأجده يقول: ” إنما أعظكم بواحدة ” (١١) فما هذه الواحدة؟
وأجده يقول: ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” (١٢) وقد أرى مخالفيالإسلام معتكفين على باطلهم، غير مقلعين عنه، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفينفي مذاهبهم، يلعن بعضهم بعضا، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟
واجده قد بين فضل نبيه على سائر الأنبياء، ثم خاطبه في أضعاف ما أثنىعليه في الكتاب من الازراء عليه، وانتقاص محله، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه،ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء، مثل قوله: ” ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلاتكونن من الجاهلين ” (١٣) وقوله: ” لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم
(١) الواقعة – ٢٧.
(٢) الواقعة – ٤١.
(٣) طه – ٥
(٤) الملك – ١٦.
(٥) الزخرف – ٨٤.
(٦) الحديد – ٤.
(٧) ق – ١٦.
(٨) المجادلة – ٧.
(٩) النساء – ٣.
(١٠) الأعراف – ١٦٠.
(١١) سبأ – ٤٦.
(١٢) الأنبياء – ١٠٧.
(١٣) الأنعام – ٣٥.
شيئا قليلا ” (١) ” إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينانصيرا ” (٢) وقوله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أنتخشاه ” (٣) وقوله: ” وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ” (٤) وقال: ” ما فرطنا فيالكتاب من شئ ” ” وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ” (٥) فإذا كانت الأشياء تحصىفي الإمام وهو وصي النبي فالنبي أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها: وماأدري ما يفعل بي ولا بكم، وهذه كلها صفات مختلفة، وأحوال متناقضة، وأمورمشكلة، فإن يكن الرسول والكتاب حقا فقد قلت لشكي في ذلك، وإن كاناباطلين فما علي من بأس.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، تباركوتعالى، هو الحي الدائم، القائم على كل نفس بما كسبت، هات أيضا ما شككت فيهقال: حسبي ما ذكرت يا أمير المؤمنين.
قال: سأنبئك بتأويل ما سألت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليهأنيب، وعليه فليتوكل المتوكلون.
فأما قوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وقوله يتوفاكم ملك الموت،وتوفته رسلنا، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين، والذين تتوفاهم الملائكة ظالميأنفسهم، فهو تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه، وفعل رسلهوملائكته فعله، لأنهم بأمره يعملون، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا وسفرةبينه وبين خلقه، وهم الذين قال الله فيهم: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناسفمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان من أهلالمعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمةوالنقمة، يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وكل ما يأتون منسوب إليه، وإذا كانفعلهم فعل ملك الموت، وفعل ملك الموت فعل الله، لأنه يتوفى الأنفس على يد من
(١) الإسراء – ٧٤.
(٢) الإسراء – ٧٥.
(٣) الأحزاب – ٣٧.
(٤) الأحقاف – ٩.
(٥) يس – ١٢.
ولا يستكبرون عن أمر ربهم، فما أجابه منهم إلا الحواريون، وقد جعل الله للعلمأهلا، وفرض على العباد طاعتهم بقوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرمنكم، وبقوله: ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذينيستنبطونه منهم، وبقوله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وبقوله: وما يعلم تأويلهإلا الله والراسخون في العلم، وأتوا البيوت من أبوابها، والبيوت هي: بيوت العلمالذي استودعته الأنبياء، وأبوابها أوصيائهم، فكل من عمل من أعمال الخير فجرىعلى غير أيدي أهل الاصطفاء، وعهودهم، وشرائعهم، وسننهم، ومعالم دينهم،مردود وغير مقبول، وأهله بمحل كفر، وإن شملتهم صفة الإيمان، ألم تسمع إلىقوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتونالصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فمن لم يهتد من أهل الإيمانإلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حق أوليائه، وهبط عمله، وهو فيالآخرة من الخاسرين، وكذلك قال الله سبحانه: فلم يك ينفعهم أيمانهم لمارأوا بأسنا، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل، والهداية هي: الولاية كما قالالله عز وجل: ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون،والذين آمنوا في هذا الموضع هم: المؤتمنون على الخلائق من الحجج، والأوصياءفي عصر بعد عصر، وليس كل من أقر أيضا من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناإن المنافقين كانوا يشهدون: أن لا إلا إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويدفعون عهدرسول الله بما عهد به: من دين الله، وعزائمه، وبراهين نبوته، إلى وصيه ويضمرونمن الكراهة لذلك، والنقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم، فيما قد بينه اللهلنبيه بقوله: ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدونفي أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ” وبقوله: ” وما محمد إلا رسول قد خلتمن قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ” ومثل قوله: ” لتركبنطبقا عن طبق ” أي: لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم: في الغدر بالأوصياءبعد الأنبياء، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل، وقد شق على النبي ما يؤول إليه
عاقبة أمرهم، واطلاع الله إياه على بوارهم، فأوحى الله عز وجل إليه، ” فلا تذهبنفسك عليهم حسرات ” ” ولا تأس على القوم الكافرين “وأما قوله: ” واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا ” فهذا من براهين نبينا التيآتاه الله إياها، وأوجب به الحجة على سائر خلقه، لأنه لما ختم به الأنبياء، وجعلهالله رسولا إلى جميع الأمم، وسائر الملل، خصه الله بالارتقاء إلى السماء عند المعراجوجمع له يومئذ الأنبياء، فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من: عزائم الله وآياتهوبراهينه، وأقروا أجمعون بفضله، وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعدهوفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات، الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم، ولميستكبروا عن أمرهم، وعرف من أطاعهم وعصاهم من أممهم، وسائر من مضىومن غبر، أو تقدم أو تأخر.
وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه، ووقوع الكناية من أسماءمن اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء، ممن شهد الكتاب بظلمهم، فإن ذلك منأدل الدلائل على: حكمة الله عز وجل الباهرة، وقدرته القاهرة، وعزته الظاهرةلأنه علم: أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم، وأن منهم من يتخذ بعضهمإلها، كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمالالذي تفرد به عز وجل، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي أمه:
” كانا يأكلان الطعام ” يعني: أن من أكل الطعام كان له ثقل: ومن كان له ثقلفهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم، ولم يكن عن أسماء الأنبياء تبجرا وتعزرا (١)بل تعريفا لأهل الاستبصار.
إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليستمن فعله تعالى، وإنها من فعل المغيرين والمبدلين، الذين جعلوا القرآن عضينواعتاضوا الدنيا من الدين، وقد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله: ” الذينيكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ” وبقوله
(١) البجر: العيب. والتعزير: اللوم والتأديب.
” وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ” وبقوله: ” إذ يبيتون ما لا يرضى منالقول ” بعد فقد الرسول مما يقيمون به أود باطلهم (١) حسب ما فعلته اليهودوالنصارى بعد فقد موسى وعيسى من: تغيير التوراة والإنجيل، وتحريف الكلم عنمواضعه، وبقوله: ” يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نورهولو كره المشركون ” يعني: أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقةفأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على ما أحدثوه فيه، وبين عن إفكهم، وتلبيسهموكتمان ما عملوه منه، ولذلك قال لهم: لم تلبسون الحق بالباطل، وضرب مثلهمبقوله: ” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ” فالزبدفي هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، فهو يضمحل، ويبطلويتلاشى عند التحصيل، والذي ينفع الناس منه: فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيهالباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والقلوب تقبله، والأرض في هذا الموضع فهي:
محل العلم وقراره.
وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياتهعلى ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيلوالكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكانله الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم، والرضا بهم، ولأن أهلالباطل في القديم والحديث أكثر عدا من أهل الحق، فلأن الصبر على ولاة الأمرمفروض لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: ” فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل “وإيجابه مثل ذلك على أوليائه، وأهل طاعته، بقوله: ” لقد كان لكم في رسولالله أسوة حسنة ” فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت، فإن شريعةالتقية تخطر التصريح بأكثر منه.
وأما قوله: وجاء ربك والملك صفا صفا، وقوله: ” ولقد جئتمونا فرادى “وقوله: ” هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض
(١) الأود: الاعوجاج.
آيات ربك ” فذلك كله حق، وليست جيئته جل ذكره كجيئة خلقه، فإنهرب كل شئ.
ومن كتاب الله عز وجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويلهبكلام البشر، ولا فعل البشر وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إنشاء الله تعالى وهوحكاية الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام حيث قال: ” إني ذاهب إلى ربي ” فذهابهإلى ربه توجهه إليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال:
” وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ” وقال: ” وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد “فإنزاله ذلك: خلقه إياه.
وكذلك قوله: ” إن كان للرحمن ولد فإنا أول العابدين ” أي: الجاحدينوالتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.
ومعنى قوله: ” فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتيبعض آيات ربك ” فإنما خاطب نبينا محمدا صلى الله عليه وآله هل ينتظر المنافقون والمشركونإلا أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعنيبذلك: أمر ربك، والآيات هي: العذاب في دار الدنيا، كما عذب الأمم السالفة،والقرون الخالية، وقال: ” أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ” يعنيبذلك: ما يهلك من القرون فسماه إتيانا، وقال: ” قاتلهم الله أنى يؤفكون ” أيلعنهم الله أنى يؤفكون، فسمى اللعنة قتالا، وكذلك قال: ” قتل الإنسان ما أكفره “أي: لعن الإنسان، وقال: ” فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميتولكن الله رمى ” فسمى فعل النبي صلى الله عليه وآله فعلا له، ألا ترى تأويله على غير تنزيلهومثل قوله: ” بل هم بلقاء ربهم كافرون ” فسمى البعث: لقاء، وكذلك قوله:
” الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ” أي: يوقنون أنهم مبعوثون، ومثله قوله: ” ألايظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ” أي: ليس يوقنون أنهم مبعوثون، واللقاءعند المؤمن: البعث، وعند الكافر: المعاينة والنظر.
وقد يكون بعض ظن الكافر يقينا، وذلك قوله: ” ورأى المجرمون النار
فظنوا أنهم مواقعوها ” أي: تيقنوا أنهم مواقعوها، وأما قوله في المنافقين: ” ويظنونبالله الظنونا ” فليس ذلك بيقين ولكنه شك، فاللفظ واحد في الظاهر، ومخالففي الباطن، وكذلك قوله: ” الرحمن على العرش استوى ” يعني: استوى تدبيرهوعلا أمره، وقوله، ” وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ” وقوله: ” هومعكم أينما كنتم ” وقوله: ” ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ” فإنما أرادبذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وأن فعله فعلهم.
فافهم عني ما أقول لك، فإني إنما أزيدك في الشرح لا ثلج في صدركوصدر من لعله بعد اليوم يشك في مثل ما شككت فيه، فلا يجد مجيبا عما يسألعنه، لعموم الطغيان، والافتنان، واضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب، إلى الاكتتاموالاحتجاب، خيفة أهل الظلم والبغي.
أما إنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا، والباطل ظاهرامشهورا، وذلك إذا كان أولى الناس به أعدائهم له، واقترب الوعد الحق، وعظمالإلحاد، وظهر الفساد، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونحلهمالكفار أسماء الأشرار، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليهثم يتيح الله الفرج لأوليائه، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.
وأما قوله: ” ويتلوه شاهد منه ” فذلك حجة الله أقامها على خلقه، وعرفهمأنه لا يستحق مجلس النبي إلا من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلا من يكون في الطهارةمثله، لئلا يتسع لمن ماسه حس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاقبمقام رسول الله صلى الله عليه وآله، وليضيق العذر على من يعينه على إثمه وظلمه، إذ كانالله قد خطر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله لإبراهيم:
” لا ينال عهدي الظالمين ” أي: المشركين، لأنه سمى الظلم شركا بقوله: ” إن الشركلظلم عظيم ” فلما علم إبراهيم عليه السلام أن عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لاينال عبدة الأصنام، قال: ” فاجنبني وبني أن نعبد الأصنام “واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى
إثما عظيما، إذا كان قد بين في كتابه الفرق بين المحق والمبطل، والطاهر والنجسوالمؤمن والكافر، وأنه لا يتلوا النبي عند فقده إلا من حل محله صدقا، وعدلا،وطهارة، وفضلا.
وأما الأمانة التي ذكرتها فهي: الأمانة التي لا تجب ولا تجوز أن تكونإلا في الأنبياء وأوصيائهم، لأن الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه، وجعلهم حججافي أرضه والسامري ومن أجمع معه وأعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبةموسى ما تم انتحال محل موسى من الطغام، والاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغيإلا لطاهر من الرجس، فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهمولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: ومن استن سنة حق كان له: أجرها وأجر من عمل بهاإلى يوم القيامة، ولهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله شاهد من كتاب الله، وهو: قول اللهعز وجل في قصة قابيل قاتل أخيه: ” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنهمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياهافكأنما أحيى الناس جميعا ” والإحياء في هذا الموضع تأويل في الباطن ليسكظاهره، وهو من هداها، لأن الهداية هي: حياة الأبد، ومن سماه الله حيا لميمت أبدا، إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة ومنحة.
وأما ما كان من الخطاب بالانفراد مرة، وبالجمع مرة، من صفة الباريجل ذكره، فإن الله تبارك وتعالى اسمه، على ما وصف به نفسه بالانفرادوالوحدانية، هو: النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شئ، لا يتغير، ويحكمما يشاء ويختار، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزهولا نقص منه ما لم يخلقه، وإنما أراد بالخلق إظهار قدرته، وإبداء سلطانه، وتبيينبراهين حكمته، فخلق ما شاء كما شاء، وأجري فعل بعض الأشياء على أيديمن اصطفى من أمنائه، وكان فعلهم فعله، وأمرهم أمره، كما قال: ” ومنيطع الرسول فقد أطاع الله ” وجعل السماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه، ليميزالخبيث من الطيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، وليجعل ذلك مثالا
لأوليائه وأمنائه، وعرف الخليقة فضل منزلة أوليائه، وفرض عليهم من طاعتهم مثلالذي فرضه منه لنفسه، وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابا يدل على انفراده وتوحدهوبأن له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم: ” العباد المكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ” ” هو الذي (١) أيدهم بروح منه ” وعرفالخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله: ” عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلامن ارتضى من رسول ” وهم: النعيم الذي يسأل العباد عنه، لأن الله تبارك وتعالىأنعم بهم على من اتبعهم من أوليائهم.
قال السائل: من هؤلاء الحجج؟
قال: هم رسول الله، ومن حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسهورسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه، وهمولاة الأمر الذين قال الله فيهم: ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم “وقال فيهم: ” ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم “قال السائل: ما ذاك الأمر؟
قال علي عليه السلام: الذي به تنزل الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كل أمرحكيم، من: خلق، ورزق، وأجل، وعمل، وعمر، وحياة وموت، وعلم غيبالسماوات والأرض، والمعجزات التي لا تنبغي إلا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبينخلقه، وهم وجه الله الذي قال: فأينما تولوا فثم وجه الله ” هم بقية الله يعنيالمهدي يأتي عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلماوجورا، ومن آياته: الغيبة والاكتتام، عند عموم الطغيان، وحلول الانتقام، ولوكان هذا الأمر الذي عرفتك بأنه للنبي دون غيره، لكان الخطاب يدل على فعلماض، غير دائم ولا مستقبل، ولقال: ” نزلت الملائكة ” ” وفرق كل أمر حكيم “ولم يقل: ” تنزل الملائكة ” ويفرق كل أمر حكيم ” وقد زاد جل ذكره فيالتبيان، وإثبات الحجة، بقوله – في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام -: ” أن تقول نفس
(١) في بعض النسخ: ” وهم الذين “.
يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ” تعريفا للخليقة قربهم، ألا ترى أنك تقول:
” فلان إلى جنب فلان ” إذا أردت أن تصف قربه منه.
وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره، وغيرأنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من: إسقاط أسماءحججه منه، وتلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم، فأثبت به الرموز،وأعمى قلوبهم وأبصارهم، لما عليهم في تركها وترك غيرها، من الخطاب الدال علىما أحدثوه فيه، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من:
شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: يظهرمثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها، أهل الشجرة الملعونةالذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، فأبي الله إلا أن يتم نوره، ولو علم المنافقونلعنهم الله: ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها، لأسقطوها معما أسقطوا منه، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه،كما قال الله تعالى، ” فلله الحجة البالغة ” أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهمأكنة عن تأمل ذلك، فتركوه بحاله، وحجبوا عن تأكيد الملتبس بإبطاله،فالسعداء ينهون عليه، والأشقياء يعمون عنه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلونمن تغيير كتابه، قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه: يعرفه العالم والجاهلوقسما: لا يعرفه إلا من صفى ذهنه، ولطف حسه، وصح تميزه، ممن شرح اللهصدره للإسلام، وقسما: لا يعرفه إلا الله، وأمناؤه، والراسخون في العلم، وإنما فعلالله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علمالكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهمفاستكبروا عن طاعته، تعزرا (١) وافتراء على الله عز وجل، واغترارا بكثرةمن ظاهرهم، وعاونهم، وعاند الله عز وجل ورسوله.
(١) أي: تمنعا وتمردا.
فأما ما علمه الجاهل والعالم، فمن فضل رسول الله في كتاب الله، فهو قولالله عز وجل: ” من يطع الرسول فقد أطاع الله ” وقوله: ” إن الله وملائكته يصلونعلى النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ” ولهذه الآية ظاهر وباطنفالظاهر قوله: ” صلوا عليه ” والباطن قوله: ” وسلموا تسليما ” أي سلموا لمنوصاه واستخلفه، وفضله عليكم، وما عهد به إليه تسليما، وهذا مما أخبرتك: أنهلا يعلم تأويله إلا من لطف حسه، وصفى ذهنه، وصح تمييزه، وكذلك قوله:
” سلام على آل يس ” لأن الله سمى به النبي صلى الله عليه وآله حيث قال: ” يس والقرآنالحكيم * إنك لمن المرسلين ” لعلمه بأنهم يسقطون قول الله: سلام على آل محمدكما أسقطوا غيره، وما زال رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم، ويقربهم، ويجلسهم عنيمينه وشماله، حتى أذن الله عز وجل في إبعادهم بقوله: ” واهجرهم هجرا جميلا “وبقوله، ” فما للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمعكل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ” وكذلك قولالله عز وجل: ” يوم ندعو كل أناس بإمامهم ” ولم يسم بأسمائهم. وأسماءآبائهم وأمهاتهم.
وأما قوله: ” كل شئ هالك إلا وجهه ” فإنما أنزلت كل شئ هالك إلادينه، لأنه من المحال أن يهلك منه كل شئ ويبقى الوجه، هو أجل وأكرم وأعظممن ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: ” كل من عليها فان ويبقىوجه ربك ذو الجلال والإكرام ” ففصل بين خلقه ووجهه.
وأما ظهورك على تناكر قوله: ” فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحواما طاب لكم من النساء ” وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء. ولا كل النساءأيتام، فهو: مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول فياليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن وهذا وماأشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهلالملل المخالفة للإسلام مساغا إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كلما أسقط
وحرف وبدل مما يجري هذا المجري لطال، وظهر ما تخطر التقية إظهاره منمناقب الأولياء، ومثالب الأعداء (١).
(١) في ج ١ ص ١٥ من تفسير مجمع البيان للطبرسي قال:
ومن ذلك: الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادةفيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم منحشوية العامة: أن في القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافهوهو الذي نصره المرتضى ” قدس الله روحه ” واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء، فيجواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم:
بالبلدان، والحوادث الكبار، ولوقايع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العربالمسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته. وبلغت إلى حدلم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكامالدينية.. إلى أن قال: وذكر أيضا رضي الله عنه: إن القرآن كان على عهد رسولالله ” ص ” مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك: بأن القرآن كانيدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له،وأنه: كان يعرض على النبي ” ص ” ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بنمسعود، وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي ” ص ” عدة ختمات، وكلذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا، مرتبا، غير مبتور، ولا مبثوث، وذكرأن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلكمضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلهاعن المعلوم المقطوع على صحته.
وقال الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتاب ” أصل الشيعة وأصولها “وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للاعجازوالتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه، ولاتحريف، ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرقالمسلمين: إلى وجود نقص فيه، أو تحريف، فهو مخطئ، يرده نص الكتاب العظيم” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم، الظاهرة
=>
وأما قوله: ” وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ” فهو تبارك اسمهأجل وأعظم من أن يظلم، ولكن قرن أمناءه على خلقه بنفسه، وعرف الخليقةجلالة قدرهم عنده، وأن ظلمهم ظلمه، بقوله، ” وما ظلمونا ” ببغضهم أولياءناومعونة أعدائهم عليهم ” ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ” إذ حرموها الجنة، وأوجبواعليها خلود النار.
وأما قوله: ” إنما أعظكم بواحدة ” فإن الله جل ذكره نزل عزائم الشرائعوآيات الفرائض، في أوقات مختلفة، كما خلق السماوات والأرض في ستة أيام،ولو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ولكنه جعل الأناة والمداراة أمثالا لأمنائهوإيجابا للحجة على خلقه، فكان أول ما قيدهم به: الإقرار بالوحدانية والربوبيةوالشهادة بأن لا إله إلا الله، فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه صلى الله عليه وآله بالنبوةوالشهادة له بالرسالة، فلما انقادوا ذلك فرض عليهم الصلاة، ثم الصوم، ثم الحجثم الجهاد، ثم الزكاة، ثم الصدقات، وما يجري مجراها من مال الفيئ، فقالالمنافقون: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضه شئ آخر يفترضه. فتذكرهلتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره، فأنزل الله في ذلك: ” قل إنما أعظكم بواحدة “يعني: الولاية، وأنزل، ” إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاةويؤتون الزكاة وهم راكعون ” وليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذأحد وهو راكع غير رجل، ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط منمعناها المحرفون فيبلغ إليك وإلى أمثالك، وعند ذلك قال الله: ” اليوم أكملتلكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا “.
وأما قوله للنبي: ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” وأنك ترى أهل المللالمخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية
<=
في نقصه أو تحريفه، ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علما ولا عملا، فإما أنتأول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها عرض الجدار.