الرئيسية / القرآن الكريم / آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره

٦ ـ الدافع العلمي :

من المستشرقين نفر قليل جدا أقبل على الدراسات الاستشراقية لإشباع نهم علمي متجرد. وذلك بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم ، وأديانها ، وثقافاتها ، ولغاتها. وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه ، حيث جاءت بحوثهم أقرب إلى الحق والصواب ، إلا أن موارد هؤلاء المالية الخاصة بهم كانت قليلة لا تسعفهم بالانصراف لمثل هذه الدراسات والتي لا تلقى رواجا عند رجال الدين ولا عند رجال السياسة في بلدانهم ؛ لذا كسدت بحوثهم فقل عددهم حتى أصبحوا نادرين وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لم يسلموا من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق ، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية وإما لجهلهم بالأجواء التاريخية الإسلامية على حقيقتها ، فيتصورونها كما يتصورون مجتمعاتهم الغربية ، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمانية التي تفرق بين المجتمعين ، ومن استطاع من هؤلاء أن يعيش

__________________

(١) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص ٣٠.

٣٦

بقلبه وفكره ويتجرد من جو البيئة التي كان يعيش فيها ، أتى بنتائج توافق الحق والصدق والواقع ومثل هؤلاء المستشرقين لا يدعهم قومهم وشأنهم ، بل يهاجمونهم ، ويتهمونهم بالانحراف عن المنهج العلمي ، والانسياق وراء العاطفة لمجاملة المسلمين. ومن هؤلاء المستشرقين المستشرق «توماس أرنولد» الذي حين أنصف المسلمين في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) الذي برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين.

ومن هؤلاء المستشرقين من أدى به بحثه الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام كما حصل ذلك مع المستشرق الفرنسي الفنان «دينيه» والذي سمى نفسه «ناصر الدين دينيه» وألف بعد ذلك مع عالم جزائري كتابا عن سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و «لدينيه» كتاب آخر بعنوان (أشعة خاصة بنور الإسلام) بين فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله. ومنهم المستشرق المجري «عبد الكريم جرمانوس» الذي أسلم في الهند سنة ١٩٣٠ م والذي ألف أكثر من (١٥٠) كتابا عن الإسلام ومنهم الطبيب الفرنسي «موريس بوكاي» صاحب كتاب «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» الذي أثبت فيه موافقة القرآن لأحدث الحقائق العلمية التي توصل إليها الناس بوسائلهم المختلفة اليوم (١) ، وغير هؤلاء كثير. ومثل هؤلاء المستشرقين يحتاجون من المسلمين أن يتبنوا كتبهم بنشرها والوقوف بجانبهم في كل ما يحتاجونه من دعم مادي ومعنوي ، فإنهم أقدر منا وأبلغ في إيصال دعوة الإسلام لأبناء قومهم وذلك لمعرفتهم الشاملة بما يناسب قومهم من أساليب وبراهين ، وما هم بحاجة لكشفه من شبهات وتفنيد ما ترسب في نفوسهم من أباطيل وأكاذيب (٢)(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

__________________

(١) والأستاذ «محمد أسد» صاحب كتاب منهاج الحكم في الإسلام.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٩ ـ ١٣١ (بتصرف).

(٣) سورة يوسف (٢١).

٣٧

ب ـ أهداف المستشرقين :

الذي ينظر في أعمال المستشرقين وجهودهم التي بذلوها في سبيل التعرف على الشرق وأحواله ودياناته وحضاراته .. إلخ يتساءل :

ما الذي دعا هؤلاء الباحثين الغربيين لبذل كل هذا الجهد والعمر والمال في دراسة غريبة عنهم. مع أنهم لو بذلوها لدراسة مجالات أوربية أخرى لكانت أكثر فائدة لهم من الناحية العلمية والمادية. ولسلموا من النقد الذي يوجه إليهم دائما ، فلا شك أن هناك دوافع قوية وأهدافا رئيسية كانت وراء كل هذه الجهود وقد وجدت «نجيب العقيقي» في كتابه (المستشرقون) قد جعل الدافع العلمي وراء كل هذه الجهود.

ولكني أجد أن الاستشراق ولد في حضن التنصير ، وكبر في حضن الاستعمار ، ونضج في النهاية في حضن المؤسسات التعليمية.

وقد أكد «رودي بارت» أن الدافع العلمي في الحركة الاستشراقية لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر.

فالذي يرجع لبداية تاريخ الاستشراق يجد أن الهدف الديني هو أساس انطلاقة الحركة الاستشراقية ولم يستطع الاستشراق أن يتحرر من إسار الخلفية الدينية حتى نهاية القرن التاسع عشر إلا قليلا. وقد تمثل هذا الهدف باتجاهات ثلاثة :

١ ـ محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه ، وإبرازها وتضخيمها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية ، والانتقاص من قيمته والحط من قدر نبيه.

٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بحجب حقائقه عنهم ، وتحذيرهم من خطره عليهم.

٣ ـ حملات التنصير بين المسلمين ، لتشكيكهم في دينهم ، وهز ثقتهم

٣٨

فيه وخير ما يوضح هذا الهدف قرارات مؤتمر (فينا) الكنسي الذي عقد سنة ١٣١٢ م.

واعتبار هذا الهدف هو أساس الأهداف كلها لا يعني أنه لا يوجد أهداف أخرى واكبت حركة الاستشراق في خلال مسيرتها. وسأستعرض هذه الأهداف بشيء من التفصيل .. والله الموفق.

١ ـ منع انتشار الإسلام في أوربا وغيرها والحيلولة بينه وبينهم ، حفاظا على سلطان الكنيسة ومغانمها. وذلك لما رأوا في الإسلام من تمتع بقوى ذاتية يصل من خلالها للنفوس ، بسبب جلاء معانيه ، وبساطة تعاليمه ، وانسجامه مع الفطرة ، وصلاحيته لكل زمان ومكان وفي كل الظروف (١) لذا قاموا بتشويه الإسلام ، وحجب محاسنه عن أقوامهم لإقناعهم بعدم صلاحيته لهم كنظام حياة.

وقد استغل المستشرقون كراهية الأوربيين للإسلام بسبب التوسع العثماني في أوربا ، وما صحبه من تعصب وحروب لعدة قرون ، فعمد المستشرقون إلى تعميق هذه الكراهية والأحقاد في نفوس الأوربيين وتغذيتها بالشبهات والأباطيل.

٢ ـ اقتباس أفكار إيمانية من الإسلام لتثبيت أقدام الكنيسة في بلادها بفكر ديني معقول. وهذا يظهر جليا في مسائل القضاء والقدر وكلزوم التداوي من الأمراض اليوم وخلاف ما كان يعتقده القوم سابقا (٢). واختيار الإنسان في أعماله الإرادية .. وفي مسائل الإيمان عامة كالإيمان بوحدة الكون ووحدة نظامه في الأرض والأجرام السماوية. وسلك رجال الكنيسة في إيراد الدلائل العقلية على الإيمان بالله كثيرا آخذيها من مسائل علماء الإسلام المتقدمين الواردة في الكتاب والسنة وكتب علم الكلام. ولا يعني هذا أن الفكر الكنسي الغربي قد خلص من جميع آفاته بل إنه لا يزال يعول على ما نسميه : العقيدة الاحتياطية ، والتي يقصدون بها أن العقيدة الدينية قضايا فوق العقل ، فالتسليم بها واجب

__________________

(١) وحي الله ـ د. عتر ص ٣٢.

(٢) انظر شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ـ ص ٢١٥.

٣٩

ومناقشتها بالدلائل محظور وذلك تخلصا من نقاش عامة النصارى للأسس والعقائد الكنسية المنافية للعقل والعلم كالتثليث ونحوه (١).

٣ ـ جعل الدراسات الاستشراقية مصدرا لتعليم الإسلام للمسلمين أنفسهم ومصدرا للدراسات عن الشرق عامة.

لقد شملت دراسات المستشرقين كافة الدراسات العربية والإسلامية مما دعا قومنا لإكبارهم والإعجاب بإنتاجهم العلمي واثقين بهذه الدراسات كل الثقة لتوهمهم أنها أنشئت على الموضوعية العلمية والحياد والإنصاف في البحث ابتغاء الحقيقة.

وغفل قومنا أن هؤلاء لم يكونوا أمناء على كتابهم المقدس فكيف بهم يؤمّنون على دراساتنا ولغاتنا. والذي يطلع على ما كتب هؤلاء يجد أنهم وضعوا السم في الدسم ، وقلبوا الحقائق وكتموا الحق وهم يعرفونه. وقد وصل الهوان بقومنا أن أصبحت مناهج التعليم في كثير من الدول الإسلامية في المدارس والجامعات من صنع هؤلاء المستشرقين.

قال الأستاذ «عبد الرحمن الميداني» : [وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين ، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها](٢).

وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس ، أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم ، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم.

__________________

(١) وحي الله ـ د / عتر ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ـ للميداني ص ١٥٠ ، طبعة دار القلم ـ دمشق.

٤٠

٤ ـ تمزيق الوحدة اللغوية في الأمة الإسلامية حرصا على تمزيق عقيدة الأمة ووحدتها.

صب المستشرقون وعملاؤهم أشنع الاتهامات على اللغة العربية فزعموا أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحضارة المعاصرة ، وموكب العلم الحديث مع أن هذه اللغة أقوى لغات العالم في توليد الألفاظ والكلمات اللازمة للمعاني المستحدثة بالنحت والاشتقاق ، والقلب والإبدال والتعريب (١).

فركز المستشرقون طعوناتهم في حيوية هذه اللغة وروجوا لغيرها من اللغات بأساليب متعددة منها :

أ ـ زعمهم أن اللغة العربية اقتبست كلمات عربية من لغات قديمة متنوعة. مما يدل على قصورها في تلبية حاجات الشعوب والمعروف أن الشعوب تتأثر ببعضها ثقافة وحضارة إلى غير ذلك من الأمور ، لذا فأمر طبيعي انتقال بعض المفردات من أمة إلى أمة أخرى كما هو ملاحظ اليوم بين شعوب الأرض قاطبة.

ب ـ ومن ذلك زعمهم أن اللغة العربية عسيرة التعلم ؛ لذا تبنوا الدعوة إلى اللغة العامية ليجمدوا تقدم العربية وتمكنها من نفوس المسلمين فيضعف فهمهم للقرآن الكريم.

وكان على رأس الداعين لهذه الدعوة من المستشرقين «د. نللينو» الإيطالي ، و «سيافكوفسكى» الروسي ولكل منهما كتاب بعنوان (دراسة عامية مصر).

والمستشرق «فيليب وولف الألماني» وله كتاب بعنوان (دراسة عامية مصر والشام وفلسطين) ومجموعة من علماء فرنسا برئاسة «ماشويل» ولهم كتاب بعنوان (دراسة عامية المغرب وتونس).

والمستشرق «إلياس برازين» الروسي وله كتاب بعنوان (دراسة عامية

__________________

(١) الفصحى لغة القرآن الكريم. أنور الجندى ، ص ٥١.

٤١

الجزيرة العربية وبين النهرين) والمستشرق «يوريال» الفرنسي وله كتاب (عامية حلب).

والمستشرق «فرانكل» وله كتاب (الكلمات الآرامية الدخيلة في العربية) ، وغير هؤلاء كثير. كما للمستشرقين مجموعة من الصحف التي اعتنت بهذا الجانب ومن المؤسف أن كثيرا من أبناء جنسنا من المفكرين والأدباء والكتاب قد حمل وزر هذه الدعوة منهم :

«لطفي السيد» حيث كتب عدة مقالات في جريدة (الجريدة) سنة (١٩١٣ م) يدعو فيها إلى استعمال الألفاظ العامية وإدخالها حرم اللغة الفصحى ، و «قاسم أمين» حيث أعلن تصريحه عن الإعراب وتسكين أواخر الكلمات عام (١٩١٢ م) ، و «الخوري مارون غصن» حيث ألف كتابا بعنوان (حياة اللغة وموتها) «اللغة العامية» سنة (١٩٢٦ م). و «سلامة موسى» وله كتاب (الدعوة إلى اللغة العامية وكتابة البلاغة العصرية) ، و «طه حسين» حيث ألف كتابه (مستقبل الثقافة) سنة (١٩٣٩ م) ، وقد بلغ ببعضهم المطالبة بتغيير الحروف العربية إلى اللاتينية. كان منهم «عبد العزيز فهمي» حيث قدم مشروعا إلى المجمع اللغوي المصري في ٢٤ يناير ١٩٤٤ م لاتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية (١).

ج ـ دعوا إلى إحياء اللغات القومية لكل جنس كالفارسية والتركية والأوردية والكردية والبربرية وغيرها.

والمعروف أن اللغة العربية من أهم عوامل الوحدة بين الشعوب الإسلامية ، وهي عامل تعلمهم الإسلام وفهمهم للقرآن الكريم ، وعامل توحيدهم فكريا وعقائديا واجتماعيا وشعوريا ، ولكن ضعف المسلمين وغفلتهم هو الذي أدى لخسران المسلمين للغتهم ولكن هذه الدعوات ولله الحمد قد باءت بالفشل بعد ما تبينت أغراضها (٢) وسوء مقاصد أصحابها.

__________________

(١) الفصحى لغة القرآن ص ١٨٥.

(٢) وحي الله ـ د. عتر ٣٨ ـ ٤٠.

٤٢

٥ ـ إضعاف الشخصية الإسلامية بالاحتيال والتزوير في تاريخ الإسلام المجيد ، ومحاولة تحطيمها كذلك بالحرب النفسية.

المعروف أن التاريخ المجيد ذا الصفحة البيضاء لأي أمة يعتبر من أهم العناصر الفعالة في تكوين شخصية المواطن لتصبح قوية وتندفع في سلّم الترقي والتقدم فالتاريخ هو شخصية الأمة.

لذا فالمستشرقون لم يتركوا هذا الجانب من الدراسات الإسلامية دون اهتمام وبحث فدرسوا التاريخ الإسلامي وأخذوا يغيرون حقائقه ويخفون صفحاته البيضاء ، ويظهرون ما كان فيه من ثغرات ويضخمونها كبعض الفتن التي حصلت في تاريخ الإسلام حيث ضخموها أضعاف حجمها ، مضيفين إليها تفسيراتهم الخاصة كالتفسير المادي المنزوع منه الجمال الإيماني ، والرجولة العربية المتميزة كما فعل ذلك بروكلمان وفيليب حتى في كتاباتهم ، وغيرهما.

لذا فالواجب على المهتمين بهذا الجانب من الدراسات من المسلمين أن يعيدوا النظر فيما كتب هؤلاء المستشرقون فينظفوا تاريخنا من دسائسهم وافتراءاتهم وأكثر من حمل وزر هذه الافتراءات «فيليب حتى» ، و «بروكلمان».

٦ ـ تحويل المسلمين عن دينهم ، وإشاعة البلبلة الفكرية في صفوفهم ، وتحطيم الوحدة الفكرية التي تجمعهم ؛ لتصير البلاد لقمة سائغة للأعداء ، ويصير المسلمون أتباعا لهم خاضعين لسلطانهم.

لذا ركز المستشرقون في دراساتهم على تشكيك المسلمين في دينهم وإضعافه في نفوسهم ، والتشكيك في صحة نبوة سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبإضعاف الروح المعنوية عند المسلمين ، وإضعاف ثقتهم في نفوسهم وذلك بتعظيم أمر الحضارة الغربية في أعينهم وتقليل شأن الحضارة الإسلامية حتى ينظر لهم بعين الإعجاب ويتبع ذلك سهولة الانقياد. وركزت دراسات المستشرقين كذلك على كل ما يبعد المسلمين عن دينهم وقيمهم وأخلاقهم بنشر المذاهب الهدامة والمبادئ

٤٣

الفاسدة المخالفة للشرع الإسلامي الحنيف ، وإيهام الشباب أن سبب تخلف البلاد الإسلامية التمسك بالدين الذي يربي أفراده على الجمود والرجعية ـ على حد زعمهم ـ كل ذلك لتذويب الشخصية الإسلامية ولتسييرها في ركب الغرب الغاشم بسهولة ويسر.

٧ ـ تأييد الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين والعمل على تحطيم المقاومة الإسلامية.

لذا قام المستشرقون بتقديم خدمات عدة لهذا الغرض ، من هذه الخدمات : تزويدهم الاستعمار بما يحتاجه من دراسات استشراقية عن مناطق نفوذه مما يسهل له مهمته ويمكنه من رقاب الشعوب الإسلامية وذلك بتعريفه بنقاط القوة في العالم الإسلامي لهدمها ومواطن الضعف للتسلل من خلالها ، فمن أجل هذه المهمة فتح المستشرقون في المنطقة جامعات وزودوها بالأساتذة الفاهمين لدورهم ، وزودوا الحملات الاستعمارية بأصحاب اختصاص ومعرفة بالشرق وأحواله من المستشرقين.

ولتسهيل المهمة أكثر فتحوا كراسي للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعاتهم لتخريج كوادر طلابية تحمل سموم أفكارهم وتهيئ لهم المناخ في بلادنا لتحقيق أهدافهم وغاياتهم كما أنهم أعدوهم لتولي مناصب هامة في بلادنا لتنفيذ مخططاتهم كما أن هؤلاء المستشرقين يبذلون قصارى جهدهم لتحطيم مكامن القوة الإسلامية فشنوا حملاتهم ضد مفهوم الجهاد الإسلامي مع محاولاتهم صرف أنظار المسلمين إلى الدعة والقعود عن هذا الجهاد طالما أنه في سبيل الله. مع دفع مفهوم الجهاد الحقيقي لمعنى آخر وهو :

الاشتغال بالعبادة والزهد وتسميته بالجهاد الأكبر وإكمالا لهذا الأمر تبنوا الجماعات التي تؤول الجهاد عن معناه الحقيقي وتمنعه كالأحمدية والقاديانية في باكستان وغيرها (١) ، كما عمل المستشرقون على تحطيم وحدة المسلمين ، وتمزيق

__________________

(١) الرسول في كتابات المستشرقين ص ١٢٠.

٤٤

الدول الإسلامية ، وعزل الشريعة الإسلامية عن التطبيق في المجتمع المسلم ، وإحلال الأنظمة الوضعية القانونية والسياسية والتربوية محل أنظمة الإسلام العظيم بالقوة.

٨ ـ التنفير من العودة للخلافة الإسلامية :

لا شك أن الخلافة الإسلامية من أهم العوامل في توحيد المسلمين وجمع كلمتهم ، وإعادة مجد قوتهم وعزتهم ؛ لذا ركز المستشرقون والمبشرون والمستعمرون في دراساتهم وأعمالهم للحيلولة بين المسلمين وهذا المطلب العزيز ؛ فأخذ المستشرقون على عاتقهم نشر كل ما يسيء للخلفاء بتوهين شخصياتهم وتشكيك الناس في حسن أخلاقهم وإداراتهم ، فأخذوا يكيلون لهم كل تهمة باطلة كما هو الحال مع الخليفة الصالح «هارون الرشيد» الذي يعتبرونه رجل مجون وفسق زورا وبهتانا ، ناقلين أخباره من كتب غير علمية ، وأكثر ما هاجم هؤلاء المستشرقون الخلافة العثمانية التي تآمر المستعمرون واليهود على إسقاطها والتي يسعى المستشرقون والمبشرون والمستعمرون من الدول الكبرى من الحيلولة دون رجوعها إلى البلاد الإسلامية (١).

وكما ركز المستشرقون في دراساتهم المصدرة لنا بحروبهم النفسية لتحطيم الشخصية الإسلامية كزعمهم أن الناس أجناس فالغرب جنس آري فطر على الذكاء والنبوغ والمواهب والعلم والعبقرية ، وأن الشرق جنس سامي لا يرقى لهذا المستوى وليس هو بأهل له فالغرب غرب والشرق شرق ، كما بثوا زعمهم أن العوالم دول صناعية متقدمة وهي دول الغرب ، ودول نامية متخلفة يقصدون بذلك ما سواهم ، حتى يرسخوا في نفوس المسلمين أنهم شعوب متخلفة لا ترقى لمصاف الدول المتقدمة ، وشنوا حربهم على كل بادرة تقدم في ديارنا ونهبوا خيرات بلادنا باشتراء مواردنا الخام بأرخص الأثمان ليصنعوا منها أسلحتهم ، وصناعاتهم بأنواعها وأخذوا يبيعونها في البلاد الإسلامية بأغلى الأثمان.

__________________

(١) وحي الله ـ د. عتر ص ٤٢ ـ ٤٣.

٤٥

كما قام هؤلاء المستشرقون بإقناع أغنياء العالم الإسلامي بحفظ أموالهم في بلاد الغرب فانجر أغنياء الدول الإسلامية لهذه الخدعة فسلموهم أموالهم وأخذ الغرب يعمل ويصنع بها ، وإذا احتاجت دولة من الدول الإسلامية لقرض من القروض داينوهم من هذه الأموال بفوائد سنوية ربوية كبيرة ، فإن عجزوا عن التسديد تضاعف الربا عليهم ، حتى أثقلوا كاهلهم بالديون ، وقلّ أن تجد دولة إسلامية وليس عليها ديون كبيرة نتيجة لهذه الخطة الماكرة ، فبهذه السياسة الرهيبة تمكن المستعمرون بتوجيه من المستشرقين من رقاب المسلمين ، وحكامهم ، فأصبح الحكام لا يقدرون أن يعصوا لهم أمرا وإلا هددوهم بما عليهم من التزامات مالية كبيرة.

وإذا قام مصلح أو جماعة إصلاحية تنبه لهذا الخطر المدلهم أوعزوا إلى هؤلاء الحكام بالتهديد بديونهم تارة وبتخويفهم من ضياع سلطانهم تارة أخرى بالضرب بيد من حديد على يد هؤلاء المصلحين. وكان لهم ما أرادوا فامتلأت السجون بالدعاة المصلحين ، وحوربوا في أرزاقهم وحرياتهم واعتدي على كراماتهم وأعراضهم ردعا لهم عما قاموا من أجله ، وتفوهوا به من الإصلاح ، ووصل الأمر إلى حد التصفيات الجسدية وبإشراف من هؤلاء الغربيين على الأمر بأنفسهم من خلف الستار.

فبهذه السياسة الرهيبة للمستشرقين والدراسات الحاقدة لهم تكونت عقدة النقص في الشعوب الإسلامية ، مما دعاهم للتقليد الأعمى ، والتبعية دون وعي منهم لهذه الدول الكافرة ، مع الخضوع والذلة لهم والسير كما يريدون.

والحل هو أن ننتبه لخطر هذه الدراسات الاستشراقية ، وخطر سياسات هذه الدول الاستعمارية ، وأن نعرف ما يريدون من بلادنا وشعوبنا وأن نعرف أنهم ذئاب بثياب حملان ، وأعداء بألسنة مطلية بالعسل وحلو الكلام وعلى حكامنا إعادة الثقة بنفوس شعوبهم والتخفيف ما أمكن من حاجاتنا لهذه الدول المستعمرة وتقليل التبعية لهم مع رفع مستوى بلادهم خلقيا ونفسيا وصناعيا.

شاهد أيضاً

السيد رئيسي افتتح معرض القدرات التصديرية: قوة الإنتاج لا تقلّ عن القوة العسكرية

لفت رئیس الجمهوریة الإسلامية في إيران السید إبراهیم رئیسي إلى أنّ الحظر شكل من أشكال ...