تتمة في موجز حياة الامام الباقر عليه السلام . ولكن لماذا جعل حبّ موسى عليه السلام في قلب آسية ولم يجعله في قلب فرعون؟
ولماذا اشتعل قلب جابر والكميت ومحمد بن مسلم بهذه الدرجة من الحب ولم يحصل مثل هذا لغيرهم؟
الجـواب
هو أن الله حين ألقى المحبة ليس المراد منه أنه جبر تلك القلوب بل إنها تحب ضمن قانون الله جَبَل القلوب على حب من اتصف بالجمال فإذا أبصرت الجمال أصبت وإلا فلا، وهنا يأتي دور الإنسان في هذه المعادلة فقد يجعل قلبه منكوساً بسبب المعاصي حتى يرى الجمال قبيحاً والقبيح جمالاً فيحب من يستحق البغض ويبغض من يستحق الحب أو يعمي القلب بالمعاصي والتبصر في الدنيا ومن أصبر منها أعمته فلا يرى الجمال فلا يحب، فحين حصل لهؤلاء هذه الدرجة من الحب فان هذا كاشف عن صفاء تلك القلوب وطهارتها وبعدها عن الحجب والمعاصي.
وهذا ما صرّح به الإمام عليه السلام في خبر صحيح السند رواه الكليني (قده) في الكافي:
(أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن أبي عبيده الحذاء عن أبى جعفر عليه السلام قال سمعته يقول أما والله إن أحب أصحابي إلى أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا) (البحار ج2 ص186 روايه12 باب26).
فحين أحبّ هذه الثلة بهذه الدرجة كشف حّبه عن الورع الذي كانوا عليه، وعدم وجود حجاب غرور أو كبر أو رضا عن النفس فهم مع ما كانوا عليه في مقام الذم لأنفسهم وعدم الرضا عنها.
(فحين دخل محمد بن مسلم الطائفي مع أبي كريبة لأداء الشهادة عند شريك القاضي فقال: جعفريان فاطميان… فبكيا، فقال شريك: ما يبكيكما؟ قالا: نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم لما يروون من سخف ورعنا، ونسبتنا إلى رجل لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من شيعته فان تفضّل وقبلنا فله المّن علينا والفضل، فتبسم شريك ثم قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكم)(اختيار معرفة الرجال ص162).
وهاهو حمران بن أعين ذلك الرجل الفقيه يبين لنا عدم رضاه عن نفسه ولم يقطع رغم إخلاصه بأنه من شيعتهم فيقول لإمامه الباقر عليه السلام:
(( إني أعطيت الله عهداً لا أخرج من المدينة حتى تخبرني عما أسألك فقال عليه السلام: سل.
فقال: أمن شيعتكم أنا؟
فقال عليه السلام: نعم في الدنيا والآخرة))(اختيار معرفة الرجال ص176).
وهو من أصحاب الحب الشديد حيث يسأل الإمام عليه السلام أحد الحجاج ما فعل حمران؟ فقال:
(لم يحج العام على شوق شديد منه إليك)(اختيار معرفة الرجال ص180).
وهكذا لا تجد في قلوبهم حجاب حسد أو لؤم أو شح أو استطالة يمنعهم من المحبة الشديدة أو يحجب تلك القلوب من النظر إلى جمال الإمام عليه السلام وهاهو زرارة يفصح عن طيب نفسه ولا يستأثر بشيء من العلم لتكون له السيادة على غيره بل يريد أن يكون هو مع أصغر إنسان في الشيعة سواء، ولا يريد أن يحتكر ذلك له فقط…
فيقول:
(لوددت أن كل شيء في قلبي في قلب أصغر إنسان من شيعة آل محمد صلوات الله عليهم)(اختيار معرفة الرجال ص179).
وغير ذلك من الشواهد الدالة على الحبّ الشديد وطهارة تلك القلوب التي حملت ذلك الحبّ .
الثانية: من الصفات التي اتصفوا بها وهي ثمرة من ثمرات ذلك الحبّ الاعراض عن الدنيا بجميع صورها من جاه ومال ومنصب وسلطان ونساء وغير ذلك،
(..فلما ذاقت قلوبهم طعم حبهم لم تأنس بحب غيره ولم تستذق غيره، فلم يطلبوا الرئاسات مع المؤهلات العلمية التي كانت فيهم، فلما أنشد الكميت قصيدة عند الإمام عليه السلام أعطاه الإمام مالاً فأبى أن يأخذ منه درهماً واحداً وقال: جعلت فداك ما أحبكم لغرض دنيا، وما أردت بذلك إلاّ صلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أوجب الله عليّ من الحق..)(البحار ج46 ص240).
وفي رواية أخرى
(قال عليه السلام له : يا كميت هذه مائة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي فقال الكميت: لا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عزّ وجّل الذي يكافيني ولكن تكرمني بقميص من قمصك)(اختيار معرفة الرجال ج46 ص333).
وعاشوا الفقر وقد كانوا قادرين على تحصيل الدنيا.
الثالثة : الصفة الثالثة من صفاتهم والتي هي من ثمرات الحب الشديد مسألة التسليم المطلق للإمام عليه السلام والطاعة التامة له مهما كلف أمر الإمام.
فلم يطيعوا في شيء ليس فيه مشقة على النفوس ويخالفوا فيما سواه بل عندهم الأمر سواء، وهذا من مفاتيح الخيرات كما قال عليه السلام:
(عن على عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زراره عن أبي جعفر عليه السلام … ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمان الطاعة للإمام بعد معرفته ..)(البحار ج68 ص332 روايه10 باب27)
وكانوا يعبرون عن الكثير منهم (بالمخبتين)، وأذكر لك بعض الشواهد على هذا التسليم :
(1) حادثة جنون جابر بن يزيد الجعفي وهو من حملة الأسرار والعلوم العالية وأمره الإمام عليه السلام أن يتظاهر بالجنون من دون أن يوضح له السبب وامتثل الأمر بكامل الانصياع ومن دون تلكؤ أو تردد، وخرج في الكوفة يعلب مع الصبيان وهو راكب على قصبة على أنها جواد وبيده قصبة أخرى على أنها سيف والأطفال يسقطون صرعى من بين يديه، وإنما أراد الإمام عليه السلام بذلك حفظ دمه لان الدولة كانت تبحث عنه آنذاك فلما وصل الطلب إلى الكوفة وسأل عنه الوالي اخبروه بأنه قد جُّن فقال الحمد لله الذي كفاني دمه، والحادثة مروية في كتاب البحار.(البحار: ج46 ص282).
وقد يكون سماع هذه الحادثة سهل ولكن عند التدبر فيها بحيث تتصور أن إنسان عالم فقيه وبتلك المنزلة كما نتصور مرجع من المراجع ينزل إلى هذا الحال بحيث يعلب مع الصبيان على أنه مجنون، وكم يحافظ الإنسان على سمعته ووجاهته ووقاره بين الناس، وهو ينزل إلى هذا المستوى امتثالا لأمر الإمام عليه السلام.
وحينما أو دعه الإمام عليه السلام بعض الأسرار وطلب منه كتمانها، كتمها وإن كانت تجيش في صدره وتؤلمه لكن لم يبيح بها وإنما كان يذهب خارج المدينة فيحفر حفيرة ويدلي رأسه فيها فيتكلم بأمر الإمام عليه السلام كما نقل ذلك العلامة المجلسي في البحار (البحار: ج46 ص340).
(2) والشاهد الثاني على الطاعة والتسليم هو ما فعله محمد بن مسلم الطائفي حين قال له الإمام عليه السلام: (تواضع يا محمد) وقد كان رجلاً شريفاً موسراً، وهو عالم من العلماء فقد حفظ ثلاثين ألف حديث عن الإمام الباقر عليه السلام فقط، فماذا صنع بعد قوله عليه السلام؟ ذهب وأخذ قوصرة من تمر وميزان وجلس بباب المسجد ليبيع التمر ليذلل هذه النفس ويروّضها عليه، حتى أن قومه لما رأوه قالوا فضحتنا، فقال: إن مولاي أمرني بأمر فلن أخالفه ولن أبرح حتى افرغ من بيع باقي هذه القوصرة.(اختيار معرفة الرجال ص165).
وهذه الحادثة لا تقل عن الحادثة السابقة فمن يطيق أن يتحمل هذا المشهد رجل بتلك المنزلة العلمية والشرافة في قومه والجلالة التي له في أعين الناس ومع ذلك يجلس بباب المسجد أمام الأعداء والأصدقاء ليبيع التمر مع عدم حاجته إلى المال، والإمام لم يقل له افعل هذا وإنما قال له تواضع فأخذ يبحث عن أتم مصاديق التواضع وأكملها فاختاره وعمله بجد وبكل رحابة صدر، وهذه الحالة التي عاشوها من الطاعة هي جعلتهم موضع أسرار الإمام عليه السلام.
ولذا قال إمامنا الصادق عليه السلام:
(فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي أصحابه أن أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً وأمواتا)(اختيار معرفة الرجال ص170).
الرابعة: من صفاتهم والتي أوضحها الإمام الباقر عليه السلام: (أنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم…) صفة العلم والتفقه في الدين الذي يجعل الإنسان يعرف قدره ويعرف إمامه وماذا يجب عليه وماذا يحرم عليه وأين يصح له أن يضع قدمه أولا يصح…وهكذا.
وهؤلاء كانوا متفانين في طلب العلم والتفقه في الدين ليعرفوا مسؤولياتهم ويعلموا إخوانهم ويقووا حجتهم ويحاججوا العدو الناصب فيوقفوه عند حده، ولا يمكن التحدث عن هذه الصفة التي عندهم بعد أنّ قال عنهم الإمام الصادق عليه السلام:
(لولا هؤلاء لظننت أن أحاديث أبي ستذهب)
ويصفهم في خبر آخر:
( بأنّهم أمناء الله على الحلال والحرام) .
فيقول محمد بن مسلم: ما شجر في رأيّ شيء قط إلا سألتُ عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، ولم يكتف بذلك فبعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام رافق ولده الصادق عليه السلام ويقول: وسألت أبا عبدالله عن ستة عشر ألف حديث.(البحار ج46 ص292).
فلم يشبعوا من العلم لأنهم لم يتصوروا يوماً أنهم قد حصلوا على تمام العلم، بل يرون أن ما عندهم من العلم إنما هو نزر يسير، ويقول جابر بن يزيد – وليس في مقام التفاخر بقدر ما هو في مقام بيان جهل الناس وبيان علوم أهل البيت عليهم السلام حيث أن واحد من شيعتهم أودعوه هذه الأحاديث فما هي العلوم التي في صدورهم (حدثني سبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحدأ ابدأ ) (البحار ج46 ص340).
فما هي الهمة التي كانت عنده في طلب العلم وحفظ المذهب ومعرفة الحقيقة، والعجيب أنهم لم يتعلموا العلوم ليتظاهروا بها بل بعضها كان مكتوم، وهذا يوضح لنا سر من أسرار قول الإمام الباقر عليه السلام:
(أنّ احبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا…)
فكتمان الحديث فيه تأديب للنفس التي تريد أن تتظاهر بالكمال أمام الناس وهذا من موارد تأديبها وتذليلها.
الخامسة: أحياءهم ذكر أهل البيت عليه السلام
وقد ورد في الخبر:
(وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا)
وفي ذكر أهل البيت عليه السلام وإحياءه مطالب كثيرة وكيف أنه فرع الحب الشديد، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنهم يدعون إلى أمر أهل البيت عليه السلام في حكومة الأمويين، ومع كثرة الناصبين والمبغضين، فأي جهاد كانوا يجاهدون ويقول عنهم الإمام الصادق عليه السلام:
(ما أحد أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم ويريد بن معاوية العجلي ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام).
والمروي عن حمران بن أعين كما جاء في كتاب اختيار معرفة الرجال (اختيار معرفة الرجال ص179).
(كان يجلس مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإذا خلطوا في ذلك بغيره ردّهم إليه فاّن صنعوا ذلك عدل ثلاث مرات قام عنهم وتركهم).
فأصبح أنسه بالحديث عنهم فمن أعرض عن الحديث عنهم أعرض عنه ولم يجالسه ويرى أن المجالس بغير ذكرهم ضياع لعمر الإنسان وتكون حسرة وندامة عليه.
واتبعوا أساليب كثيرة في أحياء أمرهم سواء بأقوالهم أو أفعالهم وما بكاء محمد بن مسلم عند شريك القاضي كما جاء في القصة المتقدمة الذكر إلا أسلوب من أساليب الدعوة لأهل البيت عليه السلام وإحياء ذكرهم.
السادسة: التعظيم للإمام عليه السلام والتوفير والإجلال له وهذا نابع من المعرفة بمقامه.
وإن شدة الحبّ التي عندهم لم تجعلهم يتساهلون في علاقتهم معه، وما منحهم هو من محب وما تعامل به معهم من أخلاق وتواضع لم يرخص لهم في التهاون عند التعامل معه، فكان جابر بن يزيد الجعفي إذا تحدث عن الإمام عليه السلام يقول: حدثني وصّي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين، بل وصل الحال بالفضيل بن يسار أن لا يدخل على الإمام عليه السلام إجلالا له ولا يدري ما هي حدود التأدب معه، وبأي كيفية يتعامل معه فقال للإمام عليه السلام:
(ما يمنعني من لقاءك إلا أني ما أدري ما يوافقك من ذلك؟ فقال عليه السلام: ذلك خير لك)(اختيار معرفة الرجال ص213).
فكانت حياتهم كلها جهاد ومشقة وتوجد هناك صفات أخرى كالبراءة من أعداء أهل البيت عليه السلام ولكن لا يسع هذا المختصر لذكرها وخلاصة البحث الذي نصل إليه يتمثل فيما يلي:
(1) إن منهج أهل البيت عليه السلام هو منهج ذات الشوكة وليس طريق الراحة والمطايبة، بل هو عناء وكدح وأذى.
(2) إن الذي يريد أن يحظى بالقرب منهم ويتمتع برضاهم وعنايتهم فلا بد أن يسعى للاتصاف بما اتصف به هؤلاء الخُلص.
(3) إن الولاء لأهل البيت عليه السلام منازل ودرجات ولا تنتهي عند حد ولا يتصور الإنسان أنه قد وصل إلى نهاية المسار فان هذا من تسويل الشيطان، والمطلوب من الإنسان أن لا يتساوى يوماه ولا يرجع اليوم إلى ما كان عليه قبل أمس فانه إن فعل لُعن.
(4) إن المسؤولية على الإنسان خطيرة فان سبب تعطل الحق هو لعدم وجود الأنصار الذين هم بهذه الصفات، فكم يجب على الإنسان أن يسعى ليبرئ ذمته أمام الله عزّ وجّل.
(5) ما هي المعاناة التي عاناها أهل البيت عليه السلام من أجل إعداد هؤلاء الرجال وحفظ الدين وصيانة المذهب، الذي تلقيناه بهذا الوضوح الذي لا خفاء فيه.
وفقنا الله للسير على نهجهم وجعلنا كما يحبون ويريدون إنه سميع مجيب.
خادم خدامهم
الشيخ رياض البيضاني
المجاور لفاطمة بنت موسى بن جعفر عليهم السلام