طالوت وبنو إسرائيل
من سير الأطهار
يوسف مزاحم
قال تعالى في كتابه العزيز: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )(1).
وقال تعالى: ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(2).
وقال تعالى: ( وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ )(3).
لا يجد المرء ـ ولن يجد ـ خيراً من الآيات القرآنية، وكلمات الله سبحانه وتعالى دليلاً وعوناً للوصول إلى الفكرة والهدف..
لقد أفاض القران الكريم وأسهب في تصويره لوضع بني إسرائيل في أكثر من مكان.
وإذا كانت الفكرة التي ينبغي توضيحها والخبر الذي نودّ ذكره يتعلقان بأوضاع بني إسرائيل، فلقد وجدت في الآيات المذكورة أعلاه ما يكتفي المرء منه ـ ولو بإيجاز ـ ليفهم معاناة أنبيائهم معهم، وسوء حالهم، وإنكارهم لجميل النِعَم وكثير الخير وإمهال الله لهم سبحانه وتعالى.
بل ولقد ذكرت الآية الأولى بشكل شامل أوضاعهم في أزمنة مختلفة وأحيان متفرقة..
فأشارت بوضوح إلى المتطلبات الاجتماعية والسياسية والفكرية والعقيدية والحياتية عموماً، والتي أمدّهم الله بها، سواء في السرّاء والضرّاء وحين البأس، أم في أوج عزّهم وملكهم وعصرهم الذهبي.
والحق يقال: إن تعداد ألوان الأذى الصادرة منهم تجاه أنبيائهم لا يُحصى وان أدهى ما في الأمر، ما أشار القران الكريم في الآية أعلاه ـ وفي أكثر من موضع ـ من اختلافهم بعد العلم، ومن ضلالتهم بعد ما جاءهم الهدى..
قال صاحب التفسير المبين (رحمه الله) في تفسير قوله تعالى : (…وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ): (لا لشيء إلا للمبالغة في تثبيت الحجة عليهم (على بني إسرائيل) وتوكيدها وإلزامهم بها، لقسوتهم ورسوخهم في الضلال والمعاندة والمكابرة. فقد نصرهم سبحانه على فرعون بلا قتال، وأطعمهم المنّ والسلوى بلا كفاح، وسقاهم الماء بلا حفر آبار وشقّ اقنية، ومع ذلك كله تمرّدوا على المنعم بدلاً من أن يشكروه،
وقتلوا أنبياءه ورُسُله، والرسول لا يقتل عند جميع الدول)(4).
ومع ذلك.. فقد كان بعضهم يفيء إلى الله بين الفينة والأخرى، ويدرك مدى الانحراف الذي أوغل فيه فيعتبر بالعقاب الإلهي على جرائمه فيرجو الله سبحانه أن يغيّر ما بقومه. وفي كل مرة كان الرحمن ـ يجيب الدعاء فيلقي الحجة على القوم من جديد لعلهم إليه يرجعون.
التيه:
من الجدير بالذكر أن الله سبحانه كان قد حكم على بني إسرائيل بالتيه وحرّم عليهم الأرض المقدسة أربعين عاماً في عهد موسى ( عليه السلام ). قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ )(5).
وكعادتهم تخاذلوا ورفضوا مواجهة أعدائهم العمالقة بحجة قوتهم وكثرة عددهم: ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (6). فكان أن غضب الله عليهم و… (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(7).
ها هم إذن قد رفضوا الانصياع لأمر نبيهم والقتال في سبيل الله وجهاد أعدائه لدخول فلسطين، واستهزؤوا بنبيهم وقالوا كلمة الكفر (اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا…).
وبعد هذه السنين الطويلة من الضياع والفراغ والدوران في الحلقة المفرغة في الصحراء، بان الأمر قاسياً إلى حدٍّ لا يستغرب معه المرء تغيّر العقول وتبدّل النفوس، بل ولعلّ ذلك كان بمثابة دورة تدريبية طويلة الأمد يتخرج منها أُناس صُقِلت نفوسهم وتهذبت، وشُحنت بدفعات روحية سببها الشعور بالندم على الذنب والمعصية، ومرارة الألم من العقاب الإلهي الطويل، مع الأخذ بعين الاعتبار تولّد الجيل الطامح إلى التغيير،
تغيير ما بآبائهم من خلال تغيير ما بأنفسهم هم، وهذا يكون حافزاً ـ ولا شك ـ لفعل كل ما يغاير موقف الآباء؛ ولدفع كل ما تسبب (بالمأساة الطويلة) والعذاب النفسي الأشدّ إيلاماً من العذاب الجسدي.
ومع موت الجيل المتخاذل الذي تعرّض للعقوبة، وتوريثه الحسرة والندامة لجيل آخر ألقى على عاتقه مسؤولية محوِ ما قد سلف، ومع ملاحَظة هذا الجيل لحالة الذلّ والهوان التي يفرضها عليه أعداؤه، وما يقومون به من تشريد لبني إسرائيل وسبيهم لنسائهم والذراري، وتزامن ذلك مع موت هارون ومن بعده موسى (عليه السلام)، وفقدان الكتاب المقدس والتابوت وما فيه، وما يرمز إليه من النصر والبركة والتوفيق للقوم، مع كل ذلك تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ بني إسرائيل.
الخروج من التيه:
قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ . . .) (8) . ولكن ذلك النبي (عليه السلام ) ـ وهو يوشع بن نون أو شموئيل وهو الأعرف (9) ـ يخشى أن يغلب الطبع منهم على التطبع، فهو يتوقع منهم أن (يعودوا لسيرتهم الأولى): الجبن والتخاذل وحب الدنيا ومعصية الله وأنبيائه.
( . . . قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (10). ورغم ما توقّعه نبيهم (عليه السلام) منهم، ورغم علم الله سبحانه بذوات صدورهم استجاب لهم وأمدّهم بنعمه وبعث لهم ملكاً..
وكانوا قد اعتادوا على انحصار النبوة في ذرية لاوي ـ وهو من أبناء يعقوب (عليه السلام) ـ ، وعلى انحصار الملك والسلطان في ذرية يوسف بن يعقوب (عليه السلام) لاعتبارات خاصة كما يقال..
طالوت الملك:
فلما بعث الله طالوت ملكاً عليهم ارتبكوا واعترضوا: فلا هو ذا مال ولا من ذرية يوسف (عليه السلام) بل هو من نسل بنيامين بن يعقوب كما قيل!
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (11) . وعندما لم يقتنع القوم بالمؤهلات التي آتاه الله إياه، طلبوا المعجزة التي تؤيد تعيينه عليهم ويرتاحون إليها:
(وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(12). وهكذا تتجه أمور القوم نحو السكينة والاستقرار، فتبدو أكثر وضوحاً: مَلِك مصطفى من الله، زاده الله بسطة في العلم والجسم، يعضده نبي من أنبياء الله، يقود جيشاً قد ورث مالا يورث، ويطمح القوم إلى أمر ولكنهم يقولون ما لا يفعلون.
وهنا يبدأ طالوت بإعداد الجيش لمواجهة الامتحانات المقررة له قبل مواجهة الأعداء، فيدرّبه ويجهّزه بما يحتاج إليه من خبرة وعُدّة وعدد. وتأتي ساعة الامتحان التي تُظهر مقدار إلتزام القوم وطاعتهم للقيادة التي اصطفاها الله لهم, يقول تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ…) (13).
وهكذا سقط من سقط في الامتحان الأول، ليخضع الباقون لامتحان آخر أكبر صعوبة، وأشدَّ وقعاً:
(… فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء…) (14).
وبالفعل وحيث ان الإيمان درجات، فقد تميّز أصحاب طالوت بعد امتحان النهر، كما تميّزوا أيضاً عند ملاقاتهم لجالوت وجنوده فثبت أهل الإخلاص في الشدائد كما في السراء، سواءً بسواء.
ولكن ما زال هنالك ابتلاء آخر أشار إليه القرآن إشارة سريعة بقوله تعالى: ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) إذ إن جالوت لم يقتل في المعركة ، وإنّما طلب البراز فأحجم القوم جميعاً ويضمنهم الصفوة الصامدة.
وبدأ عصر داود (عليه السلام). ولكنه بدأ من حيث انتهى الآخرون، فلقد أقدم حين انهزم الأبطال وارتعدت فرائص الرجال، وبرز لجالوت فرجمه كما يرجم النبيون الشياطين، وقتله ، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، حيث أضحى بعدها صهر الملك طالوت ـ كما في الروايات ـ التي تقول بأنّه وعد مبارز جالوت بأن يزوجه ابنته ويجعله ملكاً على بني إسرائيل. وجمع الله الملك والنبوة في شخص داود وعلّمه مما يشاء ( كصنع الدروع وكلام الطير والنمل ) ، وصار له بقتل جالوت من الشهرة والسمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل(15) وبذلك بدأت مرحلة العصر الذهبي لبني إسرائيل بإقامة أول دولة يقودها ويؤسسها نبي وهو داود الأوّاب (عليه السلام)، كما وصفه القرآن الكريم .
الهوامش :