تلويح العدوّ بالحرب وحسابات المراحل الثلاث مع لبنان
علي عبادي
يشيع العدوّ عبر وسائل إعلامه أجواء تشير إلى إمكان الانتقال إلى تصعيد الوضع العسكري على الجبهة مع لبنان. ويأتي ذلك بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأميركية إلى فلسطين المحتلة، والتي يقال إنها تهدف لتفادي تدهور الوضع على هذه الجبهة!
فهل يريد العدوّ الإفادة من الحضور الأميركي لإحماء الموقف والدفع باتجاه الحصول على ما يريد بطريقة المزاوجة بين الاغتيالات والتهديد والجهد الأميركي الذي يعمل لمصلحة العدوّ بالدرجة الأولى؟
في المبدأ، هناك ثلاثة سيناريوهات أو مراحل للمواجهة العسكرية:
1 – مواجهة منخفضة الوتيرة، وتتمثل بضربات متبادلة مع فسحات من الهدوء.
2 – مواجهة متوسطة الوتيرة، وهي تعني مواجهة أكثر حدة وكثافة قد تشهد عمليات أكثر عمقًا وتنوعًا في الأسلحة المستخدَمة.
3 – مواجهة مرتفعة الوتيرة، وهي التي تعني التصعيد المفتوح أو الحرب الشاملة.
بين المرحلة الأولى والثانية
من الواضح أننا على الجبهة اللبنانية ما نزال ضمن مرحلة المواجهة منخفضة الوتيرة منذ ثلاثة أشهر، ولم نغادرها إلى المرحلة الثانية؛ ربما يجوز القول إننا على حافة المرحلة الثانية من خلال عمليات اغتيال وضربات محدودة في مناطق خلفية. أما لماذا لم تتطور الأمور إلى المرحلة الثانية؟ فلأنّ هذه المرحلة بالذات تتسم بخطورة خاصة، وهي ـــــ بخلاف المرحلة الأولى التي طالت شهورًا ـــــ قد تستمر ساعات أو أيامًا قليلة قبل القفز مباشرة إلى المرحلة الثالثة، وهذه الأخيرة تمثل الخيار الأسوأ بالنسبة إلى العدوّ مقارنة بما هو حاصل اليوم.
الهامش الزمني للمرحلة الثانية سيكون ضيقًا بسبب تداعيات الأضرار التي ستنجم عنها وبسبب ما تحمله من تصعيد نوعي واحتمالات “إنزلاق” إلى المواجهة الكبرى، ولا توجد ضمانة لدى العدوّ بأنها لن تؤدي إلى المرحلة الثالثة الأصعب. لهذا يوجد حذر حيال الانتقال إلى المرحلة الثانية من القتال، أقله حتّى اليوم.
بتعبير أوضح، تُعدّ المرحلة الأولى من المواجهة هي خيار المقاومة الأساس، وهدفها أصبح معلنًا ومعروفًا للجميع وهو استنزاف جبهة العدوّ الشمالية بوتيرة مدروسة وتشكيل ضغط يضاف إلى الضغط الحاصل في غزّة وجبهات أخرى من أجل وقف العدوان على القطاع. أما العدوّ فلا يتقبل استمرار هذه الوتيرة(*)، وربما فهم خطأً حذر المقاومة من التوجّه إلى حرب كبرى ومراعاتها للوضع اللبناني الداخلي، ليوجه تهديدات يومية إلى لبنان. وقد مرّر في الأيام الأخيرة إشارات مقصودة للطرف الآخر إلى أنه قد يلجأ إلى المرحلة الثانية، دون المرحلة الثالثة، وهو لا يعلم إذا كانت المقاومة ستوافق على موافاته واحتواء التصعيد ضمن الإطار الذي يريده، وبالتالي ثمة عدم يقين لديه يدفعه للتردّد في التعامل مع الخيارات المطروحة خلال هذه المرحلة. وممّا لا شك فيه أن جبهة العدوّ الداخلية، وتحديدًا ضغوط المستوطنين في شمالي فلسطين، إضافة إلى رعونة قيادات عسكرية، تدفع في اتجاه تصعيد متوسط الوتيرة.
حسابات المرحلة الثالثة
أما المرحلة الثالثة فهي مستبعدة مبدئيًا لأسباب عدة:
ـــــ بالنسبة إلى العدو، تمثل الحرب مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة استحقاقًا أساسيًا في الوقت الحالي، وسيكون صعبًا عليه التوجّه لخوض حرب ثانية مع لبنان في حين أنه لم يتمكّن حتّى اليوم من حسم نتائج الحرب الأولى في غزّة لمصلحته وتحقيق أي من أهدافها المعلنة.
ـــــ توازن الردع على الجبهة الشمالية ما يزال قائمًا، بالرغم من محاولة العدوّ إثبات أن له اليد العليا من خلال الاغتيالات الأخيرة والغارات الجوية، وقد ارتقت المقاومة أخيرًا درجة جديدة في الرد من خلال توجيه ضربات إلى مراكز قيادة وسيطرة في جبل ميرون وصفد.
ـــــ يعترف العدوّ بأن لدى المقاومة في لبنان قدرات نوعية من شأنها أن تتسبب بأضرار كبرى للبنية التحتية الاسرائيلية، هذا من دون الحديث عن مصير المواجهة البرية العسكرية.
ـــــ تعاني الوحدات القتالية في جيش العدوّ إرهاقًا فرضته شدة القتال في أحياء غزّة. كما يعاني الاقتصاد الصهيوني خسائرَ كبيرة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات بسبب تعطل أو تضرر مرافق عدة. ومن شأن حرب واسعة على لبنان أن تؤدي إلى إصابة جناحَيْ القوّة في كيان العدو: الجيش والاقتصاد بأضرار يصعب تقديرها من الآن.
ـــــ تمثل الجبهة الداخلية في كيان العدوّ (المناطق المأهولة بالمستوطنين) خاصرة رخوة على الدوام، ويقدِّر العدوّ أن حربًا كبرى ستؤدي إلى إنزال أضرار بمنطقة وسط الكيان (غوش دان) وهي مركز الثقل السكاني والحضري والاقتصادي النوعي. وسيكون من العبث تعريض هذه المنطقة وكامل الكيان لأضرار ضخمة من أجل مستوطني الأطراف، وتحديدًا في منطقة الشمال. وللتذكير، فضّلت قيادة العدوّ تعريض مدينة سديروت والمستوطنات المحيطة بغزّة لصواريخ المقاومة الفلسطينية لمدة طويلة على المخاطرة بخوض حرب كاملة مع القطاع، قبل عملية “طوفان الأقصى”. فهل يجوز القياس على هذه التجربة بالنسبة إلى الحال اليوم في جنوبي لبنان؟ ربما نعم، للأسباب التي ذكرناها آنفًا حول موانع الحرب الكبرى.
مع ذلك، إن هذه الحسابات تبقى في حدود التفكير المحسوب للطرفين، في حين أن الحرب قابلة للاشتعال لسبب طارئ من خارج السياق السائد.
__________________
(*) يقول الجنرال في الاحتياط غيرشون هكوهين في صحيفة “إسرائيل هيوم” بتاريخ 10-1-2024: “بواسطة جهد قتالي محدود النطاق، حقق حزب الله إنجازًا استراتيجيًا غير مسبوق، فقد أُخليت المستوطنات الواقعة على طول خط الصراع من سكانها…”.