خمسة أشهر على فتح جبهة لبنان.. قراءة في احتمالات التصعيد والإحجام
علي عبادي
مع اكتمال خمسة شهور على الحرب في غزّة، وتردُّد الأخبار عن اقتراب التوصل إلى هدنة أو وقف لإطلاق النار في القطاع، تتوجه مزيد من الأضواء على الجبهة اللبنانية التي تكتنفها تكهنات بالتصعيد تارة، وحديث عن تجدد الاتصالات من أجل التوصل إلى تهدئة تلحق بجبهة غزّة تارة أخرى. هذا في وقت يسود فيه غموض بشأن المرحلة المقبلة في حال أُنجز بالفعل اتفاق مرحلي حول تبادل الأسرى ووقف النار في غزّة، في ضوء تصريحات وزير حرب العدوّ التي جاء فيها أن التهدئة المحتملة في غزّة لن تسري على الجبهة مع لبنان.
لا شكّ أن هناك ما يدعو إلى التحسب لتدحرج الأحداث على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، إذ توجد دوافع عدة قد تُغري العدوّ بالذهاب إلى تصعيد يأمل أن يجني منه شيئًا، ومن بين هذه الدوافع:
– احتياج العدوّ إلى تقديم إنجاز عسكري – أمني في مكان ما، بعد الفشل الذريع الذي واجهه في قطاع غزّة بالرغم من الجهد الحربي الهائل الذي أُفرغ على رأس أهله، من دون أن يتحقق أي من أهدافه المعلنة لناحية استعادة أسراه أو القضاء على المقاومة أو تغيير الواقع الأمني في القطاع.
– صعوبة إقناع المستوطنين في شمالي فلسطين المحتلة بالعودة إلى منازلهم من دون القيام بعمل عسكري رادع من شأنه أن يغير طبيعة الوضع الأمني القائم على الجانب اللبناني من الحدود لمصلحة الاحتلال.
– الحاجة إلى إطالة فترة الحرب وإعادة شدّ العصب الصهيوني الداخلي، في ظلّ مخاوف من أن تؤدي أي تهدئة في غزّة إلى تفسخ الجبهة الداخلية التي توحّدت مؤقتًا بعد 7 تشرين الأول الماضي في مواجهة “طوفان الأقصى”. وهنا، يبدو نتنياهو واليمين الصهيوني في وضع التخوف من المطالبات بتحقيقات تبدأ ولا تنتهي حول المسؤولين عن الإخفاقات التي ظهرت خلال تلك العملية وغياب تشخيص أهداف الحرب في ما تلاها من أحداث.
– الإفادة من الدعم العسكري الأميركي التسليحي والاستخباراتي والسياسي للمضي من أجل تصفية الحساب مع لبنان ومقاومته، اعتمادًا على تقدير أن الرئيس الأميركي بايدن في أضعف حالاته خلال محاولة الحصول على حقبة رئاسية ثانية، ولا بد له – وفقًا لهذا التقدير – أن يتجاوب مع متطلبات “إسرائيل” الأمنية.
في المقابل، توجد مرجِّحات لعدم تصاعد الوضع على الحدود مع لبنان إلى حرب واسعة، من بينها:
– غرق جيش الاحتلال في رمال غزّة، حيث تدور حرب استنزاف لا يعلن العدوّ من نتائجها إلا القليل. وقد أخفق في توظيف سلاح التجويع والخنق من أجل دفع المقاومة إلى الاستسلام. وإذا لم يتمكّن العدوّ من استثمار جهود التدمير التي قام بها خلال الشهور الخمسة الماضية، فهذا سيؤدي إلى تداعيات داخلية لا حصر لها. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن غزّة هي مفتاح أساسي من مفاتيح استعادة هيبة جيش الاحتلال، وأي فشل في إخضاعها ستترتب عليه ارتدادات أمنية خطيرة. ويُعدّ التحدّي الفلسطيني أولوية للعدو بسبب الصراع على مساحة واحدة لا تقبل القسمة والرغبة الصهيونية الجامحة في توسيع الاستيطان وتهويد القدس ومنع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
– تخوّف العدوّ من توسع المواجهات في الضفّة الغربية، في ضوء حملات الاعتقال والتنكيل -سبعة آلاف معتقل منذ 7 تشرين الأول الماضي- وتدمير المنازل وتجريف البنى التحتية وتقطيع المناطق ومصادرة الأموال من المنازل وإغلاق شركات لتحويل الأموال والإقتطاع من عائدات الضرائب الفلسطينية، وكلها ممارسات تدفع إلى توقع حصول انفجار كبير في الضفّة، والسؤال: متى، وكيف؟
– اضطرار العدوّ إلى التهدئة من أجل إراحة جيشه الذي يعاني إرهاقًا نتيجة القتال في غزّة، حيث يتمّ استبدال الألوية المقاتلة واحدًا بعد آخر. ويدور الحديث عن أزمة تجنيد نتيجة استهلاك خدمة جنود الاحتياط من بداية الحرب وتأثير استدعاء مئات الآلاف منهم للجيش على القوّة البشرية المنتِجة، ورفض المتدينين المتشددين الخدمة في صفوف الجيش بحجة التفرغ لدراسة التوراة أو بسبب الاختلاط بين الجنسين في الجيش أو لمعارضة بعضهم أيديولوجية الدولة الليبرالية.
– خشية العدوّ من تطوّر الموقف في لبنان إلى حرب باهظة الكلفة وأشد مما حصل له في الحرب مع المقاومة في غزّة. فإذا كانت غزّة قد استهلكت طاقته العسكرية والاقتصادية بدرجة كبيرة، فكيف سيكون الحال مع المقاومة في لبنان التي تتمتع بقدرات عسكرية دقيقة؟ ويمكن هنا ملاحظة أنه خلال خمسة أشهر من المواجهة على الحدود مع لبنان لم يقم العدوّ بأي عملية برية ما خلا عمليات تسلل بسيطة ومحدودة جدًا وغير ذات تأثير، ما يشير إلى أنه يحسب لهذه الجبهة حسابًا خاصًا. أضف إلى ذلك أن المقاومة في لبنان تستند إلى ظهر إقليمي أوسع من ذلك الذي يتوفّر لغزّة بسبب الامتداد الجغرافي، وعليه فإنّ المواجهة الواسعة مع لبنان تنذر بالتطور إلى اتساع رقعة القتال جغرافيًا وزمنيًا، ممّا لا قِبل للعدو على تحمل أعبائه.
– خشية العدوّ كذلك من تعرض الجبهة الداخلية لضغط أكبر وأوسع نطاقًا مما واجهه في حرب العام 2006، ما سيؤدي إلى نزوح إضافي وسيُبطل أية فائدة لأي حرب تهدف إلى إعادة ما بين مئة ألف ومئتي ألف نازح إلى مستوطنات الشمال.
– وجود مؤشرات إلى عدم تحمس أميركي لتوسيع المواجهة العسكرية مع لبنان لاعتقاد الإدارة الأميركية بأنّ الأولوية الإسرائيلية يجب أن تبقى لتحقيق انتصار على المقاومة في غزّة، في شكل يمكن ان يترجَم أمنًا مستدامًا لكيان الاحتلال ويمنح فرصة لإطلاق مشروع تسوية إقليمية تنهي الصراع العربي – الإسرائيلي بصورة رسمية. كما تعتقد الإدارة الأميركية أن توسيع المواجهة مع لبنان سيؤدي إلى تورط أميركي أكبر في تحمّل أعباء القتال إلى جانب “إسرائيل” فوق ما هو قائم حاليًا، وهذا لا يتناسب مع توجه واشنطن إلى تخفيف الالتزامات العسكرية في هذه المنطقة وتركيزها في مناطق أخرى من العالم.
في ضوء ما سبق، يبقى احتمال حصول تصعيدٍ ما دون الحرب المفتوحة قائمًا، وفيه يمكن أن يتسع نسبيًا نطاق الضربات المتبادلة، ويسعى العدوّ لزيادة هامش العمليات عبر استهداف كوادر للمقاومة في مناطق بعيدة عن خط الاشتباك و”تثقيل” فاتورة التدمير في المناطق الحدودية، في غياب أي قدرة على القيام بخيارات عسكرية ناجعة. وتقوم المقاومة من جهتها بمجموعة ردود متحركة تحقق هدف التلاحم مع غزّة وتُبقي الضغط اليومي على مواقع العدوّ الأمامية وجبهته العسكرية والاستيطانية الخلفية، في ظلّ تعتيم شامل على الإصابات التي تلحق به. وما يسهم في كبح جماح العدوّ لحدّ اليوم هو التحسّب من التدحرج نحو حرب كبرى يتم فيها خلع القفازات وتوجيه ضربات مدمّرة تطال في ما تطاله عمق جبهته الداخلية وبنيته التحتية، وهذا يشير إلى أن كيان الاحتلال ما يزال مردوعًا إلى حد كبير بالرغم من مئات التهديدات التي أطلقها قادته ويطلقونها يوميًا منذ بداية الحرب إلى اليوم.