قال : إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قرب الطعام ، فقال : « أمسكوا » .
فقلت : فداك أبي ، قد جاءكم الغيب !
فقال : « عليَّ بالخباز » . فجيء به ، فعاتبه وقال : « من أمرك أن تسمّني في هذا الطعام ؟ » . فقال له : جُعلت فداك ( فلان ) ، ثم أمر بالطعام فرُفع وأُتي بغيره ) (1) .
وعلى أي حال فقد نجح مثلث الاغتيال في تدبيرهم الاَخير ، وأطفأوا نور الاِمام ، وحرموا أنفسهم والاُمّة من بركاته ، وما أطفأوا إلاّ نوراً من أنوار النبوّة ، لو كانوا رعوه حق رعايته لسُقوا ماءً غدقاً ، ولاَكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم:
عجبتُ لقوم أضلّوا السبيـل * ولـم يبتغـوا اتّبـاع الهـدى
فما عرفوا الحق حين استنار * ولا أبصـروا الفجـر لمّا بدا
وسرعان ما يلتحق الاِمام عليه السلام إلى بارئه فينال هناك كأسه الاَوفى ، وهو لم يخسر الدنيا؛ لاَنّه لم يكن يملك منها شيئاً ، ولا رجا وأمّل يوماً من حطامها شيئاً ، لكنّ الاُمّة خسرته ابناً من أبناء الرسالة ، وعلماً من أعلام النبوّة ، وطوداً شامخاً كان يفيض على هذا الوجود كلّ أسباب العلم والمعرفة ، والتقى والصلاح ، ولو قدروه حقّ قدره؛ لاَكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ، ولوجدوا به خيراً كثيراً .
وروي أن ابنه علي الهادي عليه السلام قام في جهازه وغسله وتحنيطه وتكفينه كما أمره وأوصاه ، فغسّله وحنّطه وأدرجه في أكفانه وصلّى عليه في جماعة
____________
1) الثاقب في المناقب : 517 | 446 .
(133)
من شيعته ومواليه (1) .
وجاء في الاَخبار أن الواثق صلّى عليه بحضور جماهير غفيرة من الناس ، ثم حُمل جثمانه في موكب مهيب تشيعه عشرات الآلاف من الناس إلى مقابر قريش حيث مثوى جدّه الاِمام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام ، فأُقبر إلى جواره في ملحودة أصبحت اليوم عمارة شامخة تناطح السماء بمآذنها الذهبية ، وقبلة يؤمها آلاف المسلمين يومياً للتبرك بأعتابها ، وطلب الحوائج من ساكنيها . ولطالما انقلب الملمّون والمستغيثون إلى أهلهم فرحين بما وجدوا من إنجاز طلباتهم التي تعسّر حلّ مشكلها ، بل وإن البعض منها كان في حكم المحال حلّ معضله .
الاِشادة بشخصية الاِمام عليه السلام :
الاِمام الجواد عليه السلام ما رآه أحد إلاّ أُعجب به ودُهش ، وما سمع به أحد إلاّ أشاد به وأطراه ، فقد ملكت هيبة الاِمام ومواهبه ونبوغه المبكر عقول وعواطف العلماء والمؤرخين ، فراحوا يسجلون إعظامهم وإكبارهم عبر كلمات المديح والاِطراء عندما يصلون إلى ساحة قدس الاِمام الجواد عليه السلام ليكتبوا عن حياته الشريفة . وقد انتخبنا هذه المجموعة من الانطباعات لعدد من العلماء وكبار المؤرخين ـ من غير الاِمامية غالباً ـ عن شخصية الاِمام الجواد عليه السلام ومواهبه الخلاّقة ، وعبقريته المنقطعة النظير ، وما اتصف به من نزعات وأخلاق كانت تحكي خلق وصفات جده الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وآبائه الميامين الاَطهار ، نردفها وفق تسلسل سني وفيات أصحابها ، وهي كما يلي:
____________
1) مجموعة وفيات الأئمة : 342 .
(134)
1 ـ ابن طلحة الشافعي ( ت | 652 هـ ) ، قال في كتابه « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول » عند تعرّضه لترجمة الاِمام الجواد عليه السلام :
( وأما ) مناقب أبي جعفر محمد الجواد . . فما اتسعت له حلبات مجالها ، ولا امتدت له أوقات آجاله ، بل قضت عليه الاَقدار الاِلهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها وسجالها ، فقلّ في الدنيا مقامه ، وعجّل عليه فيها حمامه ، فلم تطل لياليه ، ولا امتدت أيامه . .
فإنّه قد تقدّم في آبائه عليهم السلام أبو جعفر محمد الباقر بن علي ، فجاء هذا باسمه وكنيته واسم أبيه ، فعُرف بأبي جعفر الثاني . وإن كان صغير السن فهو كبير القدر ، رفيع الذكر ، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة . . (1) .
2 ـ سبط ابن الجوزي ( ت | 654 هـ ) ، قال في « تذكرة الخواص »:
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام . . وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود . ولما مات أبوه قدم على المأمون فأكرمه وأعطاه ما كان يعطي أباه . . وكان يلقّب بالمرتضى والقانع ، وكانت وفاته خامس ذي الحجة . . وقبره يُزار ، وكان له أولاد المشهور منهم علي الاِمام (2) .
3 ـ علي بن عيسى الاِربلي ( ت | 693 هـ ) ، قال في « كشف الغمة »:
الجواد عليه السلام في كلِّ أحواله جواد ، وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة من أجواد ، فاق الناس بطهارة العنصر ، وزكاء الميلاد ، فما قاربه
____________
1) مطالب السؤول 2 : 74 .
2) تذكرة الخواص : 352 .
(135)
أحد . . ومكانته الرفيعة تسمو على الكواكب ، ومنصبه يشرق على المناصب . له إلى المعالي سموّ ، وإلى الشرف رواح وغدوّ ، وفي السيادة إغراق وعلوّ . تتأرّج المكارم من أعطافه ، ويقطر المجد من أطرافه . إذا اقتسمت غنائم المجد والمعالي والمفاخر كان له صفاياها ، وإذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها وأسماها . يباري الغيث جوداً وعطية ، ويجاري الليث نجدة وحمية . فمن له أب كأبيه أو جدّ كجدّه ؟ فهو شريكهم في مجدهم وهم شركاؤه في مجده ، وكما ملأوا أيدي العفاة برفدهم ، ملأ أيديهم برفده (1) .
4 ـ أبو الفداء ( ت | 732 هـ ) ، في تاريخه المسمّى « المختصر في أخبار البشر » أو « تأريخ أبي الفداء »:
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو أحد الاَئمة الاثني عشر عند الاِمامية . . ومحمد الجواد المذكور ، هو تاسع الاَئمة الاثني عشر ، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا(2) .
5 ـ الحافظ الذهبي ( ت | 748 هـ ) ، قال في « تاريخ الاِسلام »:
محمد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن الصادق جعفر بن الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الشهيد الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، أبو جعفر الهاشمي الحسيني .
____________
1) كشف الغمة 3 : 162 .
2) تأريخ أبي الفداء 1 : 343 .
(136)
كان يلقّب بالجواد ، وبالقانع ، وبالمرتضى . كان من سروات آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم . . توفّي ببغداد في آخر سنة عشرين شاباً طريّاً . . وكان أحد الموصوفين بالسخاء؛ ولذلك لقّب بالجواد . . رحمه الله ورضي عنه (1) .
6 ـ ابن تيميّة الحنبلي ( ت | 758 هـ ) ، قال في كتابه « منهاج السُنّة » مانصّه:
محمد بن علي الجواد ، كان من أعيان بني هاشم ، وهو معروف بالسخاء والسؤدد ، ولهذا سمّي ( الجواد ) . ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة (2) .
7 ـ اليافعي ( ت | 768 هـ ) ، قال في كتابه « مرآة الجنان »:
أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ، أحد الاثني عشر إماماً الذين يدّعي الرافضة فيهم العصمة . وكان المأمون قد نوّه بذكره . .
وكان الجواد يروي مسنداً عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . وكان يقول : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة » (3) .
8 ـ الغزّي ( ت | 1167 هـ ) ، ذكر ترجمة مقتضبة للاِمام الجواد عليه السلام في كتابه « ديوان الاِسلام » ، فقال:
الجواد : محمد بن علي بن موسى ، السيد الشريف أبو جعفر الهاشمي
____________
1) تاريخ الإسلام 15 : 385 رقم 372 وفيات سنة ( 211 ـ 220 هـ ) .
2) منهاج السنّة 2 : 127 .
3) مرآة الجنان 2 : 80 .
(137)
الحسيني ، أحد الاَئمة الاثني عشر عند الاِمامية (1) .
9 ـ الزِرِكلي ( ت | 1396 هـ ) ، قال في « الاَعلام »:
محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم الطالبي الهاشمي القُرشي ، أبو جعفر الملقّب بالجواد ( 195 ـ 220 هـ | 811 ـ 835 م ) : تاسع الاَئمة الاثني عشر عند الاِمامية . كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكياً ، طلق اللسان ، قوي البديهة (2) .
ما قيل في رثائه
وقبل اختتام هذه الدراسة نفتح صفحة الاَدب ، ومن الاَدب ننتخب ملف الشعر الذي هو أحد أقوى مفردات الاَدب العربي شيوعاً ، وأبرز الوسائل الاِعلامية وأكثرها فاعلية وانتشاراً يومذاك ، وحتى في عصرنا الحاضر الذي بهت فيه بريق الشعر ، وقلّ الاهتمام بالشعر والشعراء إلى حدٍّ كبير جداً ، حيث أصبح الشعر في البرامج والمهرجانات والاحتفالات مادة لملء الفراغ ، فإنّه ـ مع ذلك ـ ما تزال له رنّة وتأثير على السامعين يفوق أي وسيلة إعلامية اُخرى .
وللاَثر البالغ للشعر على مسامع الناس ، ولشدة تعاطفهم مع ايقاعاته الموسيقية ، وميل النفوس إليه ، فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ من الشعر
____________
1) ديوان الإسلام 2 : 67 رقم 651 .
2) الأعلام 6 : 271 .