الرئيسية / القرآن الكريم / تفسير الميزان : السيد الطباطبائي

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي

ان يقوله لولا أن الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به.
وقوله تعالى: رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين اه (وقرا الأكثر ملك يوم الدين) فالرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك (الذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: ان لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولولا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فان لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا، ومعنى هذا الملك انها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا ان نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي. والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم ان الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فان الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لان الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك.
واما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الافراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كل صنف مجتمع الافراد أيضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الأنسب لما يؤل إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصا بالانسان أو الإنس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى (واصطفاك على نساء العالمين) آل عمران – 42. وقوله تعالى: (ليكون للعالمين نذيرا) فرقان – 1، وقوله تعالى: (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من

(٢١)

العالمين) الأعراف – 80. واما مالك يوم الدين: فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، واما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين، وبعبارة أخرى يملك الامر والحكم فيهم.
وقد ذكر لكل من القرائتين، ملك ومالك، وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، والذي تعرفه اللغة والعرف ان الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، ولا يقال مالك العصر الفلاني الا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال أيضا: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر – 16.
(بحث روائي) في العيون والمعاني عن الرضا عليه السلام في معنى قوله: بسم الله قال عليه السلام: يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة.
أقول وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فان العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته، وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام وفي العيون وتفسير العياشي عن الرضا عليه السلام: انها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.
أقول: وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الأعظم.
وفي العيون عن أمير المؤمنين عليه السلام: انها من الفاتحة وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرئها ويعدها آية منها، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.
أقول: وروي من طرق أهل السنة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.
وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: ما لهم؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها.

(٢٢)

وعن الباقر عليه السلام: سرقوا أكرم آية في كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم، وينبغي الاتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.
أقول: والروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيره، وهي جميعا تدل على أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، وفي روايات أهل السنة والجماعة ما يدل على ذلك.
ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل علي آنفا سورة فقرا: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن أبي داود عن ابن عباس (وقد صححوا سندها) قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعرف فصل السورة، (وفي رواية انقضاء السورة) حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم.
أقول: وروي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر عليه السلام.
وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في حديث: والله إله كل شئ، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة، وروي عن الصادق عليه السلام: الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة.
أقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين، وبعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختص بالمؤمنين لان الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي.
وفي كشف الغمة عن الصادق عليه السلام قال: فقد لأبي عليه السلام بغلة فقال لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها – فلما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد، ثم قال ما تركت ولا أبقيت

(٢٣)

شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز وجل، فما من حمد الا وهو داخل فيها.
قلت: وفي العيون عن علي عليه السلام: انه سئل عن تفسيرها فقال: هو ان الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.
أقول: يشير عليه السلام إلى ما مر من أن الحمد، من العبد وانما ذكره الله بالنيابة تأديبا وتعليما.
(بحث فلسفي) البراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول وكل شأن من شؤونه انما هو بالعلة، وان كل ما له من كمال فهو من اظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو اظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته، وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الانسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا اتي الرحمن عبدا) مريم – 93. والعبادة مأخوذة منه وربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الاخذ بلازم المعنى وإلا فالخضوع متعد باللام والعبادة متعدية بنفسها.
وبالجملة فكأن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزان يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر – 60 وقال تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) الكهف – 110

(٢٤)

فعد الاشراك ممكنا ولذلك نهى عنه، والنهى لا يمكن الا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنه لا يجامعها.
والعبودية انما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، واما ما لا يتعلق به الملك من شؤون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه ولا ان العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكا وشئ، آخر غير مملوك، ولا تصرف من التصرفات فيه جائز وتصرف آخر غير جائز كما أن العبيد فيما بيننا شئ منهم مملوك وهو أفعالهم الاختيارية وشئ غير مملوك وهو الأوصاف الاضطرارية، وبعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية، وهذه هي التي يدل عليه قوله: إياك نعبد حيث قدم المفعول واطلقت العبادة.
ثم إن الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه ولا يحجب عنه، فإنك إذا نظرت إلى دار زيد فان نظرت إليها من جهة انها دار أمكنك ان تغفل عن زيد، وان نظرت إليها بما انها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.
ولكنك عرفت ان ما سواه تعالى ليس له الا المملوكية فقط وهذه حقيقته فشئ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ألا انهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط) حم السجدة – 54 وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى ان يكون عن حضور من الجانبين.
اما من جانب الرب عز وجل، فان يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات (المأخوذ في قوله تعالى إياك نعبد) عن الغيبة إلى الحضور.

(٢٥)

شاهد أيضاً

العقل والجهل في الكتاب والسنة – محمد الريشهري

وأول من قال بهذا الرأي – على الأشهر – هو ابن سينا، ومن بعده قطب ...