الرئيسية / بحوث اسلامية / العقل والجهل في الكتاب والسنة – محمد الريشهري

العقل والجهل في الكتاب والسنة – محمد الريشهري

وأول من قال بهذا الرأي – على الأشهر – هو ابن سينا، ومن بعده قطب الدين الرازي صاحب المحاكمات، وأخيرا المحقق النراقي صاحب كتاب ” جامع السعادات ” (1).
أقول: النظرية الأولى أقرب إلى معنى كلمة العقل، والأصح هو تفسير العقل العملي بمبدأ الإدراك والحفز، وذلك لأن الشعور الذي يتعاطى مع القيم الأخلاقية والعملية هو مبدأ الإدراك، وهو في الوقت ذاته مبدأ للدفع والحفز. وقوة الإدراك هذه هي ذات العنصر الذي سمي من قبل بالوجدان الأخلاقي وسمته النصوص الإسلامية بعقل الطبع، وهو ما سنوضحه فيما يأتي:
عقل الطبع وعقل التجربة:
وبدلا من تقسيم العقل إلى نظري وعملي وضعت له النصوص الإسلامية تقسيما من نوع آخر، وصنفته إلى ” عقل طبع ” و ” عقل تجربة ” أو ” عقل مطبوع ” و ” عقل مسموع “، حيث قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذا المضمار: ” العقل عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي المنفعة “. وقال أيضا:
رأيت العقل عقلين * فمطبوع ومسموع لا ينفع مسموع * إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع (2).
ومما يسترعي الانتباه في هذا المجال هو ما روي عن الإمام علي (عليه السلام) فيما يخص هذا التقسيم، حيث روي عنه أنه قال بشأن العلم: ” العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع ” (3).
(١) جامع السعادات: ١ / ٥٧.
(٢) راجع ص ٤٢ / أنواع العقل.
(٣) راجع كتاب ” العلم والحكمة في الكتاب والسنة “: 36 / 4.
(٢٥)

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: ما العقل والعلم المطبوع؟ وبم يختلف عن العقل والعلم المسموع؟ ولماذا لا ينفع الانسان عقل التجربة والعلم المسموع إذا لم يكن العقل والعلم المطبوع؟
والجواب هو: الظاهر أن المراد من العقل والعلم المطبوع هو مجموعة المعارف التي أودعها الله عز وجل في طبيعة كل انسان، ليعثر بواسطتها على الطريق الذي يقوده إلى الكمال، ويسير بها على طريق الغاية النهائية لعالم الخلقة. وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المعارف الفطرية بإلهام الفجور والتقوى، وذلك في قوله: * (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) * (1)، وهو ما يسمى اليوم بالوجدان الأخلاقي.
يعتبر عقل الطبع أو الوجدان الأخلاقي مبدأ للإدراك، وفي الوقت ذاته كمبدأ للحفز، ولو قدر له الانبعاث والتنامي على أساس تعاليم الأنبياء لتسنى للإنسان الاستفادة من سائر المعارف التي اختزنها عن طريق الدراسة والتجربة، ولتيسر له تحقيق الحياة الانسانية الطيبة التي يصبو إليها. أما إذا مات عقل الطبع على أثر اتباع الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فلا تنفع الانسان عند ذاك أية معرفة في إيصاله إلى الحياة المنشودة، مثلما ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي شبه فيه عقل الطبع بالعين، وعقل التجربة بالشمس. ولا شك في أن رؤية الحقائق تستلزم وجود عين سليمة من جهة، ووجود نور الشمس من جهة أخرى. وكما أن نور الشمس لا يحول دون زلل الأعمى، فكذلك لا ينفع عقل التجربة في الحيلولة دون زلل وسقوط من مات لديه عقل الطبع والوجدان الأخلاقي.
الفرق بين العاقل والعالم:
بينا في مدخل كتاب ” العلم والحكمة في الكتاب والسنة ” أن لكلمة ” العلم ” في النصوص الإسلامية استخدامين: يعنى أحدهما بجوهر وحقيقة العلم، فيما يتناول
(١) الشمس: ٧ و 8.
(٢٦)

الآخر قشره الظاهري حسب. في الاستخدام الأول هنالك تلازم بين العقل والعلم كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ” العقل والعلم مقرونان في قرن لا يفترقان ولا يتباينان ” (1). وعلى هذا الأساس لا يوجد ثمة فارق بين العالم والعاقل، وذلك لأن العاقل عالم، والعالم عاقل، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: * (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) * (2).
أما في الاستخدام الثاني فهنالك تفاوت بين العاقل والعالم، والعلم بحاجة إلى العقل، فقد يكون هناك عالم ولكنه غير عاقل، وإذا اقترن العلم بالعقل كان ذا فائدة للعالم وللعالم. أما إذا تجرد من العقل فلا خير فيه، بل ولا يخلو في مثل هذه الحالة من الضرر والخطر.
خطر العلم بلا عقل:
قال الإمام علي (عليه السلام) في هذا المعنى: ” العقل لم يجن على صاحبه قط، والعلم من غير عقل يجني على صاحبه ” (3). وفي عالم اليوم تطور العلم غير أن العقل تناقص.
والمجتمع الحالي يمثل مصداقا لمقولته (عليه السلام) حين يقول: ” من زاد علمه على عقله كان وبالا عليه “، وهو أيضا مصداق لهذا البيت:
إذا كنت ذا علم ولم تك عاقلا * فأنت كذي نعل وليس له رجل (4) لقد أصبح العلم في العصر الراهن – نتيجة لابتعاده عن العقل – سببا لاضطراب وفساد وانحطاط المجتمع البشري ماديا ومعنويا، بدلا من أن يكون عاملا لاستقراره ورفاهه وتقدمه وتكامله على الصعيدين المعنوي والمادي، حيث تحول
(١) راجع ص ٩٦ / ح ٢٧٥ وص ٩٤ ” آثار العقل “.
(٢) العنكبوت: ٤٣.
(3) راجع ص 59 / ح 105.
(4) راجع ص 59 / 110.
(٢٧)

شاهد أيضاً

ما الوقت الأنسب لتناول دواء الغدة الدرقية في رمضان.. الفطور أم السحور؟

ما الوقت الأنسب لتناول دواء الغدة الدرقية في رمضان.. الفطور أم السحور؟ د. أسامة احفظ ...