الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / ملِكُ الموت والحياة

ملِكُ الموت والحياة

الرَّاجعُ المنْتصِر

سافر الشيخ عماد إلى الحجاز، تحمله عبوديّتُه الخالصة للخالق، على جناحيْها المنبسطيْن بين المشْرق والمغرب، وهنالك باح بمكنونات صدْره، متعلِّقا بجدار البيت العتيق، وسجَد على رمال عرفات مودِعًا فيها أشواقه وشكْواه، وسامر في وادي مِنى النّجوم والغيوم، مَادًّا إليها بلْ إلى مَنْ وراءَها يديْه، راجيًا المغفرة، طالبًا حُسْنَ العاقِبة، شاكرًا الله على ما هداه وأعطاه، وطرقَ باب المصطفى في مدينته مسلّمًا عليه سائلًا مُجاوَرَتَهُ، متوسِّلًا إليه المحبَّة والشّفاعة، مبايعًا إِيّاه رسولًا أمينًا، وقائدًا مُطاعًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، ولم يغادِرِ الدِّيار المقدَّسة إلاَّ بعْد أنْ دفنَ في رمالها، وترك في مساجدها نوايا كيانه المنيب وقضايا ذاته التّائبة، أمّا روحُهُ الّتي لا سكونَ لحَرَكَتِها ولا انكفاءَ لمداها فقد ظلَّتْ حائمَةً هادِلةً كالحمَام الزّاجل، بين مكّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة.
عاد الشيخ عماد إلى لبنان، مهْبط آماله، ومحطَّ رحاله، فاستقبلتْه أنْسامه المشحونة بأنفاس السّرايا المجاهدة، المختَمِرة

بروائحِ التّوتُّر والتّربّص والتّصبّر، فعضَّ على شفَته، ولوّح بقبْضته، كأنّه يتوعَّدُ المجْرمين، وتوجّه إلى كلّيّة الرّسول الأعظم، وفي رحابها المطمئنّة، التقى شريكه الأمين «أبو حسن» الّذي شاطره في غمْرة السّنوات الخالية، رحلَة البحْث والاسْتقراء، في قاعات الدّراسة وساهمه المرابطةَ والمصابرةَ والمقارعة، على الشّريط الحدوديّ المحتلّ.
أرْجعت الذِّكرى الصّديقيْن إلى مآتي الأمْسِ البعيد، المطبوع بشغَفهما العِلْميّ المدْنِف، فهما الطّالبان المجتهدان، والمنهومان اللّذان لا يشْبعان من خُبْز المعرفة، ولا يرتويان من ماء الحكْمة، ووصلَتْ بهما خواطرُهما إلى استرْجاع صُوَر المواقع والمعابر والمخابي، الّتي شهِدتْ جهودَهما القُصْوى، ومآثرَهما الدّفاعيّة عن التُّراب الّذي لا يبيعُه مالكوه بخزائن الملوك ولآلئ البحار، واستعراض تلك السّاعات المباركة السَّابحة في الأفْلاك الرّبَّانيّة، المأْهولة بالمزايا والعَطايا، تلك الدّقائق الغنيّة بأمْجاد الرّجال، الّذين يضبطون وهم في أوْج كِفاحِهِم، إيقاعَ العِلْم والعِرْفان، على نيران المدافع والبنادق، يَوْمَ تَنادي الجحافلِ والفَطاحل، في ميادين الحُسامِ واليَراعِ.
بينما كان المقاومان الودودان، يتجاذبان الأخْبارَ والأحْداثَ

والمواضيع، رنَّ جرَسُ الهاتف فأسْرع «السّيّد رضا» ليردَّ على الطّارق، وإذا به يصفِّقُ مسْرورًا قائلًا الحمدُ لله. لقد أقلَّ له الهاتف ما كان يسْتطيبه من بشائر سارّة، وفاض ثغْره شكرًا وعِرْفانًا، وهمَتْ دمْعتا غِبطة واستكْفاء على خدَّيْه، ثمّ قال بصوت ترقْرقه النّبالةُ وتهدْهده الرَّخامة: «لم ينْسَني الله من رحمته يا «أبو حسن» لقد جاءني التّكليف بإحْدى العمليّات الصَّعبة، لقد حان وقت إيابي إلى عالِم الغيْب والشّهادة، هذا هو الذّهاب المنتظر الّذي لا إياب لي بعدَه». ثمّ رتَّب كُتُبه وأمْتعَته الشّخصيّة، تاركًا وصيّته أمانة في عُنقه، احتضنه من بعْدُ مودِّعا وهو يقول:
«أنا مُوقنٌ أنّك حافظ للمودّة وفِيٌّ للصّداقة، أنت أهْلُ ثقتي، ومقرُّ أملي ومُستوْدع سِرِّي، ومُنفِّذ وصيَّتي». وخرج من حرَم الجامعة خروج المارد من القُمْقُم الأسْطوريّ، وقبل أنْ تختفي قامتُه الرّشيقة الأنيقة خلْف الباب الخارجيّ، أعاد الالتفات صوْبَه مُلحًّا: «أوصيكَ بأنْ يصلّي على جثماني بعْد اسْتشهادي «السّيّد القائد» «، فردّ عليه بلهْجة مُفْعَمة بالصِّدق: «سأبلِّغه ما طلبتَ، وسأتبعكَ بعد سويْعات إلى عَرين المحَرِّرين، فلعلَّ الله يفتح على أيادينا فتحًا مُبينًا». فأرسل إليه «السّيّد رضا»

إيماءَة ثقةٍ وإعْجاب هازًّا رأسه وزاد داعيًا: «ليباركْكَ الله».
أدْرك صِنديدُ المرابطين مكامِنَ رفاقه السّاهرين، في الهزيع الثّالث من اللّيل، وشرَع قائدُ المجموعة يرسمُ الخطّة الهجوميّة على أسْراب العلوج الصّهاينة، والعملاء الأجْلاف، ثمّ وجَّه خِطابَه «إلى السّيّد رضا»: «نريد أن نشاهد اليوم بل الآن، ما عهدناه فيك أيّها الأسدُ المهاب، من براعة في التّفجير، وذكاء في التّدمير، وفِطْنة في الانْسحاب»، فأجابه بلسان يتلجلجُ بآيات الرّضا والقناعة: «أنا لها يا أخي، فلمثْل هذه المواقف أنجبتْني أمّي، أنا جنديّ مُطيع في صفوفكم المتراصَّة، قد حملْنا أمانة الجنوب على مصاعد أرواحنا، ومقابض أسلحتنا، وأكْملنا رسالة الحسيْن الّتي انفجرتْ، على رمال الطّفوف، جداول َمن الدّماء وآلاءَ من الرُّؤوس، وهِباتٍ من الأطْراف المبْتورة بالحراب، والهياكل المسْحوقة بسنابِك الخيْل، وما صراعنا مع الصّهاينة إلّا فصلٌ دمويّ مرير شاقّ، من فصول تلك المعركة الحاسمة، المضطرمة بالعطش والألم والتّظلُّم، المكتوبة بالمآسي والمآثر والتّضحيات، والّتي هي مسرح الصّراع الفاصل بين الفضيلة البشرية والرّذيلة المتوحِّشة، بين قوى الخيْر الّتي تُبْدع عبْقريَّة الفِداء ولوْحة الانتصار، وعصابات الشّرّ الموغِلة في الإيذاء والاعتداء، تلك

العناكِب البشريّة الموْصوبَةُ بالانْدِثار، المصحوبة بالرِّثاء، الفانية بدعواها الباطلة، وأصولها الواهية، وفروعها الماكرة، وسوف تظلّ تلك الواقعة حيَّةً إلى الأبَد الّذي لا أمَد بعدَه، بنا يقْطع الله دابِرَ الظَّالمين، ويمحقُ الجوْر، ويعزُّ الإسلام، وينصر الحقّ الغصيب».
نصبَ «السّيّد رضا» الكمينَ المحكَم بصُحبة ستّة من فُحول المقاومة الأشدّاء، وغرقتْ قاماتُهم بين أفْنان السِّنديان الكثيفة، حتّى إذا ما ظهرتْ فِرَقُ المغْتصبين الهائمين على وجوههم كالخفافيش الضّالّة، هبَّ اللّيْث المتربِّص، هُبوبَ إعصارٍ مُدمِّر، مُفجِّرًا العُبوَة النّاسفة، بالمرتزقة الجُبناء، ثمّ صوَّب رشَّاشه إلى بقاياهم، وكان أوَّل من أطْلق النّار كوابل من الأمْطار، فخرقَ أجْسادهم وبدَّد عديدَهم، ثمَّ تلاه رفاقُه البواسل بإعْدام المفْترين، وإبادة الجناة.
بيْد أنَّ نجاحَ هذه العمليّة الجريئة، لمْ يولدْ من دون مخَاض، ولمْ يتجسَّد فخرًا مؤثَّلًا من غير أوْجاع ومُكابدة، لقد فتحت الجِنانُ أبوابها، واسْتعجلت الشّهادة الحسْنى، حبيبَها المِقْداَم، مُمْتطيًا الحزْمَ والأملَ واليقين، في موكب الضَّراعة والرّجولة والوفاء، وقد تمَّ الاقْترانُ السَّعيد بُعيْدَ احْتدام التَّراشُق بالنِّيران،

والمعركة حامية الوطيس، بين أنصار الهدى، وأذْناب الضَّلال، بلْ بيْن الشُّرفاء الأتْقياء، والدُّخَلاء الأدْعياء، أصابت الرّصاصاتُ الشِّرِّيرة جسَد «السّيّد رضا» واخْترقتِ الشَّظايا الآثمة عمودَه الفقريّ، وهشَّمت هامتَه الرَّفيعة، الّتي أبتْ أنْ تنْحني لغيْر الله.
السُّنبلة المتواضعةُ كسرَها حدُّ المنجل.
السِّراج المضيء أطفأتْه الرِّيح العمياء.
القدَمان السّاعيتان لسَعَتْهما أفاعي الظّلام.
على جبل «بو ركاب» مهوى قلوب الذَّائدين، والمتعبين.
تجمَّد نجيعُ الشّهيد السَّعيد، فوق الصّخور الرّابضة.
وتخضَّبتْ حَصاه بِحِنَّاءٍ كربلائيٍّ عاطر.
ها هو أحد الصُّقور السَّبعة يحمل جثَّة المجاهد الأكْبر.
المحارب الّذي انتصر قبْل أنْ يموت، ومات بعْد أن انتصر.
إنّه يحتضنها كما يحتضن النَّاسكُ كتابًا مقدَّسًا.
وبعد لأْيٍ، وصل إلى كهْف مجْهول، حيث تنتظرُ عُصبةُ

الحقّ الأميرَ الظَّافر.
لقد سجَّاه بانْعطاف وتُؤَدَة، أمام حُرَّاس الوَطن، وعمالقة البذْل الكريم.
فجلسوا حوْله كالنُّسور القويّة، وهيبته تملأُ المكان.
وفصاحة جِراحه تحْبسُ أنْفاسَهم، وتسْتدرُّ التّوقير والتَّقدير.
وفي اليوم الثّاني انْبلَج الفجْر المنْتَظَر، وانْتفضَ الزَّمن من رُقاده.
امتلأَ الفضاء بالأهازيج والبيارق، فالشَّهيد الرَّائد في أبْهى حُلَلِه، وأطْيب عطوره.
وهلَّلتْ موَاكب الملائكة، مُهنِّئة العميد، بعُرْسِه الرَّغيد، وغسّل الخِلُّ الوفي «أبو حسن» جثْمان عروس الخُلْد المبَجَّل.
وصلَّى أمينُ المقاومة عليه، صلاة البذْل المظفَّر والنَّصر المؤزَّر.
في قرية «رأس أسطا»، وعلى قاب قَوْسَيْن أو أدْنى من غروب الشّمس، أمامَ زُرْقة البحْر المسْحور بسَخاء المقاومين، دُفِنَ الملاكُ الطَّاهر الشيخ عماد حيدر أحمد أو «السّيّد رضا» تاركًا آثارَه المعنويّة وألْقابَه الجهاديّة، إرْثًا نفيسًا للوطن المعذَّب، وحِرْزًا واقيًا للأُمَّة التّعيسة. وقد كُتِبَ على رخامة ضريحه:
هنا يرْقدُ منْ قال: «أريدُ أنْ أُؤَسِّس جيلًا يحْملُ البُنْدقيَّة بعْد اسْتشهادي».

شاهد أيضاً

التعبئة في رحاب الولي

 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة “إنّني أطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحشرني يوم القيامة ...