الرئيسية / القرآن الكريم / تَارِيخ القُرآنِ الدكتور محمد حسين علي الصغير

تَارِيخ القُرآنِ الدكتور محمد حسين علي الصغير

08 نزول القرآن      ج ـ إنه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة ، ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور والأيام . وهو رأي إبن عباس (1) .
     إلا أن ظاهر الآيات : أنزل القرآن جملة ، ويؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة ، دون التنزيل الظاهر في التدرج ، فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير نزوله التدريجي الذي تم في ثلاث وعشرين سنة (2) .
     لقد أكد هذا المعنى من ذي قبل إبن عباس بقوله : « إنه أنزل في رمضان ، وفي ليلة القدر ، وفي ليلة مباركة ، جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام » (3) .
     ومهما يكن من أمر ، فلا ريب بنزوله مفرقا أو منجما ، ليثبت إعجازه في كل اللحظات ، ولينضح بتعليماته بشتى الظروف ، في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النزول : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) (4) .
     ولكن الرد كان حاسما ، لأن الوحي إذا تجدد في كل حادثة ، كان اقوى للعزم ، وأثبت للفؤاد ، وأدعى للحفظ والاستظهار ، وأشد عناية بالمرسل إليه فلا يغيب عنه إلا ويهبط عليه ، ولا يودعه حتى يستقبله ، وذلك يستلزم كثرة نزول الملك عليه وتجديد العهد به ، وبما معه من الرسالة ، وهو مضافا إلى العطاء الروحي ، ذو عطاء نفسي تهذيبي بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم « ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبرئيل عليه السلام عليه فيه » (5) .


(1) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 276 .
(2) ظ : الطباطبائي ، الميزان : 20 | 330 .
(3) البيهقي ، كتاب الأسماء والصفات : 236 .
(4) الفرقان : 32 .
(5) ظ : أبو شامة ، المرشد الوجيز : 28 .


(39)

     وناهيك في أسرار تعدد النزول حكمة ويقينا واستمرارا لجدة القرآن ، وحضوره في زخمة الأحداث ، وتجدد الوقائع ، وطبيعة الرسالة المتدرجة في تعاليمها من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الكليات العامة إلى التفصيلات الجزئية .
     والوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن ، قصد هدايتهم ، ورجاء إثابتهم إلى الحق ، فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقا ، وصرح بذلك سبحانه وتعالى :
     ( وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (1) .
     1 ـ وقد أفاض القدامى من العلماء والمفسرين في أسرار التنجيم في النزول ، استفادوا قسما منها من القرآن ، واجتهدوا في القسم الآخر ، فمن الأول تيسير حفظ القرآن ، وتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، والإجابة عن أسئلة السائلين (2) .
     ومن الثاني كون القرآن أنزل وهو غير مكتوب على نبي أمي ، كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك ( ت : 406 هـ ) (3) .
     وقد لاحظ باحث معاصر أن القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك هما : تجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وتجاوبه مع المؤمنين (4) .
     2 ـ وإذا كان ما فهمه القدامى ـ كما يدعى ـ يقف عند هذا الحد ، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معينة ، وعليهم الإمعان والإيغال في الاستنتاج . وإن كان كل ما تقدم هو الصحيح ، ولكن لا مانع أن يضاف إليه بأن القرآن الكريم ـ كما يبدو من منهجيته الاستقرائية ـ يريد كتابة التأريخ الإنساني ، بكل ما في هذا التأريخ من مفارقات وأحداث ونوازع وتطورات ، والتأريخ إنما يكتب في جزئياته ، ومن ضم


(1) الإسراء : 106 .
(2) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 85 ـ 121 + أبو شامة : 28 .
(3) ظ : الزركشي : 1 | 231 .
(4) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 52 .


(40)

هذه الجزئيات بعضها لبعض يتكون التأريخ بمظاهره الماضية وتطلعاته الحالية ، لإنارة المستقبل وإضاءة درب السالكين ، والتأريخ لا يتألف جملة واحدة ، وإنما ينجم موضوعات وصورا ومشاهد ، ومن مجموعها يتشكل الأثر البارز لسمة من السمات ، والقرآن إنما يعني بتأريخ الأمم والإيمان ، والشعوب والهداية ، فهما رمزان متلازمان ، تنحصر عليه ذكر أحدهما بالآخر ، حصرا عضويا ترى فيه الكون وقضية التوحيد يشكلان خطوطا رئيسية تنبثق منها حيثيات فرعية في النبوة والرسالة وعوالم الحياة .
     3 ـ والرسالة المحمدية إحدى سنن الكون البنائية ، وكما تقتضي سنن الكون التدرج ، فهي تقتضي التدرج كما اقتضتها ابتداء بخلق السماوات والأرض والأفلاك وما فيهن وما بينهن ، وانتهاء بخلق الإنسان وحياته وأطواره ونشوئه ومماته وتلاشيه وإعادته حيا ، وإثابته أو عقابه .
     والسنن الطبيعية في الحياة تلتقي بالسنن الروحية في القرآن ، فمصدرهما واحد ، وهو تلك القوة الخلاقة المبدعة المدبرة ، وهي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر ) (1) فهي كذلك تستمهل وتتدرج وفقا لمصالح الكون ، وتنظيما لشؤون الحياة ، وكان التدرج في نزول القرآن من هذا الباب .
     4 ـ وما التدرج في نزول القرآن ، إلا دليل من أدلة إعجازه البيانية ، فما نزل منه لم يكن بادىء الأمر إلا سورا قصيرة وآيات متناثرة تناثر النجوم ، وهو بهذا القدر الضئيل ينادي بالتحدي ، فدل على إعجازه في ذاته مع محاولة تقليده ومضاهاته ، سواء أكان جزءا أم كلا . فقليله معجز ، وكثيره معجز ، ولقد وقع هذا التحدي في مكة على هذا القليل فما نالوه ، ووقع في المدينة وهو متكامل بنفس المنظور ، وبناء على هذا التأسيس فقد كان التدرج في النزول مصاحبا لعملية الإعجاز ، ودليلا من أدلتها الناطقة ، وهو بعد مشعل هداية في السعي والعمل والمثابرة .


(1) القمر : 50 .

(41)

     5 ـ وهناك ملحظ جدير بالأهمية في هذا النزول التدريجي ، هو إحكام الأمر ، وإبرام العقد ، وهذا الإحكام وذلك الإبرام يتمثل بعملية صياغة النفوس في إطار جديد ، فهي على قرب عهد من الجاهلية بأعرافها ومفاهيمها وأخطائها ، والنقلة الفورية ليست خطوة عملية في التغيير الاجتماعي الذي أرادته رسالة القرآن ، فمن عزم الأمور ـ إذن ـ أن تستجيب النفوس لهذا التغيير الجذري ، ولكن لا على أساس المفاجأة الخطرة ، التي قد تولد ردة فعل مضادة ، تطوح بكل شيء ، بل تقليص القيم القديمة شيئا فشيئا ، وتضييعها جزءا فجزءا ، لتتلاشى في نهاية المطاف ، وتختفي عن صرح الاجتماع . وخير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة ، إذ ارتبطت بالعرب أدبيا واجتماعيا ونفسيا واقتصاديا ، وهي جوانب متعددة ، أباحت هذا الإدمان المستحكم عند العرب ، فلو حرمت دفعة واحدة ، لكفر بهذا التحريم ، ولضاعت فرصة التغيير الاجتماعي ، ولكن الوحي تلبث وترصد وتأنى ، فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع والمضار والمآثم ، وتدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة وأنتم سكارى ، وانتهت إلى التحريم : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه … ) (1) .
     6 ـ ولنقف بهذا الجانب الحساس والمؤثر على صلب الموضوع من بدايته ، قبل النظر في التطبيق .
     كانت الجزيرة العربية بعامة ، ومكة المكرمة بخاصة ، تتجاذبهما عقائد شتى ، فالصابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات وشعائر ترتبط بالكواكب وتأثيرها على الأحداث الأرضية (2) . وما امتزج عن عاداتهم في مذاهب قريش في الوثنية وعبادة الملائكة ، ومراسم الحج .
     والمسيحية ، وما صاحب مبادئها من تحريف مزدوج ، وتغيير مفاجىء ، فبدل التسامح الديني الذي اشتهرت به تعاليم السيد المسيح ،


(1) المائدة : 90 .
(2) ظ : جزءا من عقائد الصابئة ، محمد عبدالله دراز ، مدخل إلى القرآن الكريم : 132 وما بعدها .


(42)

والزهد في الحياة بكل مظاهرها ، استخدم المسيحيون في إرساء شهوائهم كل وسائل العبث والترف والقسوة ، فمن عزلة مصطنعة إلى تزمت مفتعل ، ومن تثليث لا يستقيم إلى وثنية مستهجنة ، ومن تمسك باللاهوت إلى ابتزاز للحرية ، كل ذلك يتراصف نماؤه بين أوهام موروثة ، وخرافات مستجدة .
     واليهودية ، بما كان يكتنفها من غموض في ستر العلم وتحريف للكلم عن مواضعه ، واستيعاب لاستحصال المال ، وجمع الثروة عن طريق الخيانة والربا والاحتكار .
     والحنفية ، وهي أسلم الأديان آنذاك عن الدس والتحريف الكبيرين ، فقد أدخل عليها مع ذلك تزييف في بعض الوقائع ، ومغالطة في طقوس الحج ومتابعة الوثنية ، وارتباط قسم من العرب بها على أساس من التعصب للأخطاء الموروثة في تأليه الملائكة وتأنيثها ، وعبادة الأصنام وتقديسها ، ورؤية الشمس والقمر والكواكب بمنظار الأرباب .
     والجاهلية ، وأرجاسها في الوأد ، والبغاء ، والريا ، والزنا ، وقتل الأولاد خشية الفقر ، وأكل التراث وحب المال ، ووراثة النساء كرها بما صرح به القرآن في آيات عديدة ، ومواضع كثيرة من سوره (1) .
     ألا يتناسب مع هذا الخليط العجيب من الديانات المحرفة ، وتعدد الآلهة ، أن يبدأ الوحي بنداء التوحيد لأول مرة ، وقد كان ذلك كذلك ، فاستنقذ الناس من عبودية الفكر ، واسترقاق النفوس ، واتجه بها إلى عبادة الله الواحد القهار ، وهي عبادة تجمع إلى راحة الضمير ، صدق العبودية دون إذلال ، وصحة الاعتقاد دون انحراف ، ابتعادا عن الخرافات والأساطير والمتاهات .
     وكان من الجدير بعد هذه الاستجابة ، أن يتم تشريع الصلاة ، لأنها تتضمن التوحيد والعبادة بوقت واحد .
     وحينما اتجهت القلوب لله بدأ تطهير النفوس بالخلق والأدب والصفاء


(1) ظ : على سبيل المثال ، العادات الجاهلية كما يصورها القرآن : النساء 19 ، 20 ، 21 ، 22 ، 23 ، 38 ، 127 + الأنعام : 140 + النور : 33 + الفجر : 17 ، 18 ، 19 ، 20 .

شاهد أيضاً

مع اية الله العظمى الامام الخامنئي والاحكام الشرعية من وجهة نظره

رؤية الهلال س833: كما تعلمون فإن وضع الهلال في آخر الشهر (أو أوّله) لا يخلو ...