الدرس السابع: شؤون المرجعية وشؤون الولاية
أهداف الدرس
1- أن يميّز الطالب بين شؤون المرجعيّة وشؤون الولاية.
2- أن يحدِّد مجال فتاوى المرجع الذي يقلَّد فيه وحدوده.
3- أن يحلّ إشكاليّة فرضيّة اختلاف المرجع والوليّ في الرأي.
تمهيد
تقدّم في الدرس السابق أنّ هناك أموراً يتصدى لها الفقهاء لأنّه لا يرضى الشارع بتركها دون وليّ ودون متصدٍّ، يُصطلح عليها بالأمور الحسبيّة، وأنّ للمرجع شروطاً لا بدّ أن يتحلّى بها، كما أنّ للولي الفقيه نفس هذه الشروط ويضاف عليها شرطاً مهمّاً وهو القدرة على القيام بالأمر، وتقدّم أنّه يمكن أن تتحد الولاية والمرجعية، وقد تختلف، وفي مثل هذه الحالة ربَّما يحصل هناك بعض الإرباك لمن يفصل بين مرجع التقليد ووليّ الأمر، باعتبار أنَّ الفقيه الذي يقلّده قد يختلف مع وليّ الأمر في الفتوى على مستوى الحكم الكلّي، وقد يكونان متفقين في الحكم الكلّي، إلّا أنَّ التطبيق وتشخيص الموضوع عند أحدهما مغاير لما هو عند الآخر، لاختلاف النظر ومعايير التشخيص، ففي هذه الحالة هل يجب على المكلّف إطاعة وليِّّ الأمر أو إنّ عليه إطاعة مرجع التقليد؟
وقبل بيان الجواب والحلّ على هذه المشكلة نذكر كمقدمة الأمور التالية:
فتاوى الفقهاء ودور المكلّف
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعيّ الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد) من مصادره الأصليّة، وقد يكون استنباطه مصيباً للحكم الواقعيّ، وقد لا يكون مصيباً، إلّا أنَّه في هذه الحالة معذورٌ إذا كان قد بذل جهده وأعمل وسعه في الوصول إلى الحكم الواقعيّ.
إذاً ما يُصدره الفقيه هو ما يسمّى بالفتوى، وميزتها أنَّها تصدر من الفقيه من ناحية مراجعته للأدلّة الشرعيّة، ولا تكون وظيفة الفقيه تحديد الموضوعات الموجودة في الخارج، ومن أيِّ نوع هي.
إنَّ الفقيه يبحث في الأدلّة عن حكم المسائل التي يُفترض أن يُبتلى بها المكلّف، ويُعطي النتيجة التي يتوصّل إليها للمكلَّف، ومن هنا يقع على المكلَّف تحديد ما يُبتَلى به وما الذي ينطبق عليه.
مثلاً الفقيه يفتي بحرمة اللعب بآلات القمار، وأمّا كون الورق أو الشطرنج من آلات القمار فهذا من شأن المكلَّف تشخيصه. نعم هناك بعض الموضوعات التي لا بدّّ فيها من الرجوع للفقيه لمعرفة حدودها. وهي الموضوعات الشرعيّة أي التي حُدِّدت من قبل الشريعة إمّا لأنّها مبتكرة منها أو لكونها لُوحظت عند أخذ الحكم بخصوصيّات معيّنة، ومثال ذلك الغناء المحرّم والغناء المباح. نعم تشخيص كونه يُطرب أو كونه يختصّ بمجالس أهل الفسوق فهذا ممّا لا يرجع فيه إلى الفقيه.
وخلاصة الكلام؛ إن على الفقيه وضع الأحكام الكليّة وعلى المكلّف تشخيص الموضوعات الخارجيّة.
الأحكام الولائيّة
أمّا ولاية الأمر فتُعطي الفقيه الوليّ مجالاً جديداً من الأحكام التي يُمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه وليّاً للأمر، نسمِّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائيّة، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامّة التي تتعلّق بالنّظام وشؤون المجتمع والأمّة والدّولة وأمثال ذلك، هذا النوع من الموضوعات والعناوين يُرجع في تحديده والبتِّ به إلى وليِّ الأمر، فهو الذي يحدِّد الضّرورات والمصالح والمفاسد ذات الطابع العامّ، وهو الذي يحدِّد موضوعات الأحكام فيما يرتبط
بالجهاد والمصالحة والمعاهدات والأصلح من الأنظمة، وكذلك ما يرتبط بالقضاء وفضّ النزاعات وأمثال ذلك.
فالحكم الولائيّ هو حكم يُنشئه الوليُّّ من موقع كونه وليّاً للأمر، انطلاقاً من تشخيصه للمصالح العامّة والعناوين ذات الطابع العامّ على أساس حفظ النظام وتدبير شؤون الدّولة.
فالفقيه قد يُصدر فتوى من موقع فقاهته وكونه مرجعاً للتقليد، وقد يُصدر أمراً من موقع حاكميّته على الأمّة، وإلزام الفتوى للمكلّف مبنيٌّ على قواعد التقليد وأحكامه المعروفة، أمّا إلزام الأمر الولائيّ فهو قائم على أساس ولاية الفقيه.
ولا تتعارض غالباً فتاوى مرجع التقليد مع الأوامر الولائيّة, وذلك لأنَّ مرتبة الأحكام الولائيّة أو الأوامر الولائيّة لا تقع في نفس مرتبة الفتوى الصادرة عن المرجعيّة. ولو حصل التعارض أحياناً فلا شكَّ أنَّ الأمر الولائيّ يتقدّم على الفتوى ويعطّلها فيُلزم به الجميع.
أمثلة الأحكام الولائيّة:
الأمر بالجهاد أو الصلح مع العدوّ:
إنَّ الفقيه من موقع فقاهته يُفتي بوجوب الجهاد إذا توفّرت مجموعة من الشرائط، وجواز الصلح إذا توفّرت شروط أخرى، لكنَّ تشخيص الشرائط وأنَّها متوفّرة أو غير متوفّرة فهي من شؤون الوليّ الذي بناءً عليها يُصدر أمراً بالجهاد أو وقف الحرب أو الصلح وأمثال ذلك, ولو تصدَّى مرجع التقليد لتشخيص الموضوع لا يكون تشخيصه حجّة على الناس مع وجود الوليِّّ الفقيه.
الأنظمة والقوانين العامّة:
وهي تلك الأنظمة التي تحدُّ من صلاحيات الأفراد الاقتصاديّة والسياسيّّة وربّما تحدُّ من حريّتهم في الحركة والسفر والانتقال.
حفظ النظام:
إنّ حفظ النظام وتطبيقاته وخياراته وكيفيّة حفظه تُعتبر أيضاً من شؤون الوليّّ، و لا يدخل في وظيفة المرجع.
المصالح العامّة:
وهي الأحكام والأوامر التي يُصدرها الوليّ في موارد يرى أنَّها تحقّق حالة أفضل للمسلمين عامّة أو لسمعة الإسلام وربّما كانت هذه المصلحة معنويّة، كما حصل عندما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنع أكل لحوم الحُمر الأهليّة لا لقساوتها، كما يقولون، بل لكي لا تقلَّ وسائل النقل وبتعبير الرواية: لكي لا يخفَّ الظّهر. وكمنع بيع الحاضر للبادي، ومنع تلقّي الرُكبان، ومنع البيع في السوق بأقل من السّعر المتعارف، وكالأمر بالخضاب لأنَّ فيه إظهار عنصر الشّباب وهو تعبير عن القوّة في فترة كانوا بحاجة لذلك.
فقد ورد في مسائل عليّ بن جعفر لأخيه الكاظم عليه السلام قال: وسألته عن لحوم الحُمر الأهليّة، قال: “نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما نهى عنها لأنَّهم يعملون عليها، فكره أن يفنوها”1 .
وعن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: “أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في غزوة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين”2 .
مهما يكن فإنَّ أوامر الوليّ، أي الأحكام الصادرة من موقع الولاية، ملزمة ولا يجوز مخالفتها حتّى لمن يقلّد غير الوليّ، بل حتّى للمرجع نفسه. نعم في مجال الاختلاف بالفتوى دون أن يكون هناك أمر ولائيّ بمضمون الفتوى يكون تكليف المقلِّد الالتزام بفتوى مرجع التقليد.
ومن هذا البيان ظهر أنَّ الوليَّّ الفقيه واجب الطاعة على غير مقلِّديه حتّى لو خالف فتوى مرجع التقليد.
1- الحرّ العامليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 2 ص 89.
2- م. ن.
خلاصة
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعيّ الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد) من مصادره الأصليّة، أمّا ولاية الأمر فتعطي الفقيه الوليّّ مجالاً جديداً من الأحكام التي يمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه وليّاً للأمر، نسمّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائيّة، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامّة التي تتعلق بالنّظام وشؤون المجتمع والأمّة والدّولة.
والفقيه يقوم بوضع الأحكام الكليّة وأمّا المكلّف فعليه تشخيص الموضوعات، أمّا الوليّ الفقيه فله مجالات متعدّدة يقوم بالحكم فيها من موقع ولايته رعاية لمصالح المسلمين، ومن هنا فإنّ حكمه الولائي نافذ على جميع المسلمين حتّى على غير مقلّديه.
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
الشيخ الأنصاري(1214-1281 هـ): يقول قدس سره: “وعلى أيِّ تقدير, فقد ظهر ممّا ذكرنا أنَّ ما دلَّت عليه هذه الأدلّة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعيّة إيجادها في الخارج مفروغاً عنها… “3 .
3- الأنصاريّ، مرتضى بن محمّد أمين، المكاسب، المؤتمر العالميّ بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاريّ، ج3، ص 557.
للمطالعة
لا يكفي الاجتهاد المصطلح لقيادة المجتمع الإسلاميّ
يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً في الحكومة الإسلاميّّة، وتقتضي طبيعة الثّورة والنّظام أيضاً أن تُطرح الآراء الاجتهاديّة الفقهيّة في المجالات المختلفة بشكل حرّ ومفتوح، حتّى ولو كانت مخالفة لبعضها البعض، ولا يحقُّ لأحد – ولا يمكنه – أن يمنعها، ولكنّ الشيء المهمّ هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع حتّى يتمكّن النظام الإسلاميّ من التخطيط لصالح المسلمين، ومن الضروريّ له وحدة الرأي والعمل، ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتّى ولو وُجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عامّ للرأيّ الصائب في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ والقدرة على اتخاذ القرار… فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعيّّة والحكوميّة ولا يمكنه التصدّي لاستلام زمام المجتمع.
الخمينيّ، روح الله الموسويّ، منهجيّة الثورة الإسلاميّّة، ص 163