ذكر السيّد عادل العلويّ في سياق حديثه عن المرجع السيّد المرعشيّ النجفيّ قدس سره قال:
لقد نشأ سيّدنا الأستاذ في بيت العلم والسيادة والشرف في أسرة مرموقة في أعين الناس.
حدّثني يوماّ أنّه كان والده يأخذه إلى درس المحقِّق الآخوند عليه الرحمة وهو لم يبلغ الحلم.
وعندما كانت والدته تطلب منه أن يوقظ والده، يصعب عليه أن يُناديه، فكان يمسح بوجهه وخدّه باطن قدم والده فيستيقظ بعد دغدغة لطيفة ويرى هذا الموقف المتواضع من ولده البار.
فتدمع عيناه رافعاً يديه إلى السماء ويدعو لولده بالتوفيق.
وكان سيّدنا الأستاذ كثيراً ما يقول: إنّما نلت هذا المقام وزاد الله في توفيقي ببركات دعاء والديّ عليهما الرحمة.
– نظرة الإسلام إلى المال
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾1
1- سورة الفجر، الآية: 20.
فلسفة حبّ الإنسان للمال
عندما نُريد التحدُّث عن أيّ مفهوم لا بُدّ أن نُخضعه للنظرة الشرعية الواقعية، ثمّ بعد ذلك نُرتِّب الآثار السلبية والإيجابية بعد وضوحه على مستوى المفهوم الواقعيّ بحدوده الطبيعية، فكيف ينظر الإسلام إلى المال؟ وكيف يُقيّمه إيجاباً وسلباً؟
أوّلاً: إنّ القرآن الكريم يُعبِّر عن شيء مرتكز ومنغرس في نفس نوع الإنسان وهو حبّه للمال حبّاً كبيراً، يقول تعالى:﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.
﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾2. وفُسِّر الخير بالمال.
وخلفية حبّ الإنسان للمال هي أنّ الإنسان يُحبّ وجوده، ويُحبّ كلّ شيء يقوّي وجوده، ويدفع النقص والخطر عنه. ولا شكّ أنّ المال من مقوّيات الوجود ومن المساعدات على رفع النقص والدفاع والذبّ عنه، فإذاً سيتفرّع حبّ المال على حبّ الذات ويكون قوياً ومنسجماً مع درجة حبّها، وبما أنّ حبّ الذات من أعظم الغرائز لدى بني البشر فحبّ المال المتفرّع عنها طبيعيٌّ أن يكون من أقوى ما يُحبّه الإنسان ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.
إذاً، هذا الحبّ عميق ونحن مأمورون أن لا نجري على مقتضى هوانا في التعامل مع المال، بل أن نُخضع علاقتنا به لحكم الشرع والعقل من خلال تعديل ذلك الميل الجنونيّ والعشق الكبير له، فالضابط والميزان للوصول إلى هذا الاعتدال هو الشرع
2- سورة العاديات، الآية: 8.
المبين المدعوم بحكم العقل والعقلاء، فتعال لنرى نظرة القرآن والسنة إلى المال وبماذا يأمران.
إنّ الإسلام يعتبر المال أمراً مهمّاً مصلحاً لشؤون الخلق ولا يرفضه بالمعنى التصوفيّ السلبيّ بل هو وسيلة مهمّة جدّاً، وتحصيله والكدّ في سبيل كسبه من الحلال هو من أفضل العبادة، فكما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال”3.
ولكن ككلّ وسيلة إذا تحوّلت إلى غاية فإنّها ستنحرف عن الصواب وقد توصل إلى الهلاك، فإنّ المال يجب أن يبقى في إطار الوسيلة، وإذا ما اعتقد الإنسان بأنّه غاية وتعامل معه كذلك فإنّه يكون من أخطر الأشياء عليه.
وللأسف الكثير من البشر وقعوا في فخّ المال وتحوّل حبّهم له إلى غاية، وذلك للأمر الجبلّيّ فيهم كما ذكرنا، مع طول الأمل وحبّ الحياة وما يترتّب على ذلك من خوف الفقر والحاجة، وتقدير التعرّض المستقبليّ للنقص والفقدان والفاقة.
وبالتالي فإنّ الإنسان يلجأ إلى الكنز والادّخار وحجب المال عن المستحقّين.
كيف ينظر الدِّين للمال وكيف يُقيّمه؟
فلنلقِ نظرة على كيفيّة تقييم الإسلام للمال:قال أبو عبد الله عليه السلام: “إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ولم يُعطكموها لتكنزوها”4.
– وعنه عليه السلام عن أبيه أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئِل عن الدنانير والدراهم وما عمل الناس فيها، فقال أبو جعفر عليه السلام:
“هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه وبها تستقيم شؤونهم
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص11.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 32، وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 17.
ومطالبهم، فمن أكثر له منها فقام بحقّ الله فيها وأدّى زكاتها فذاك الّذي طابت وخلصت له، ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يؤدِّ حقّ الله فيها واتّخذ منها الآنية فذاك الّذي حقّ عليه وعيد الله عزّ وجلّ في كتابه، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾”5 6
– وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: “المال مال الله عزّ وجلّ، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويركبوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدّى ذلك كان ما أكله حراماً، وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً، وما نكحه منه حراماً، وما ركبه منه حراماً”7.
أوّلاً: لا بُدّ من التوجّه بالنظرة الإيجابية للمال لا بالنظرة التصوّفية السلبية كما مرّ وذكرنا، أي من الخطأ الاعتقاد بأنّ المال بما هو مال سيّىء وشرّ، وبالتالي من القبيح أن نحوزه ونُحصّله.
هذا ليس صحيحاً، بل المال كما صرّح الإمام عليه السلام بالرواية الآنفة:”هي” أي الأموال “مصلحة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم”8
وإنّما الخطر في الأمر هو ما يُمكن أن يترتّب على حبّه والتعلّق به من لوازم وآثار سيّئة ومهلكة كما سنبيّن فيما سيأتي.
ثانياً:المال ليس ملكاً حقيقياً للإنسان وإنّما هو عارية ووديعة وملك اعتباريّ، فلو دقّقنا في النصوص نجد التصريح بذلك، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى
5- سورة التوبة، الآية: 35.
6- وسائل الشيعة، “الإسلامية”، الحرّ العاملي، ج 6، ص 17.
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 4، ص 2994.
كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ﴾9. فلم تقل الآية تركتم ما “ملّكناكم”، بل عبّرت بـ “خوّلناكم”، ومعلوم أنّ تخويل الشيء أعمّ من تمليكه، فقد أخوّلك التصرّف بشيء لي دون أن أملِّكك إيّاه.
وكذلك التعبير في الرواية السابقة بقوله عليه السلام: “المال مال الله” فإنّما أضاف الملكية الحقيقية إلى ذاته المقدّسة ولم يُضفها إلى الإنسان، وقوله عليه السلام: “جعله ودائع عند خلقه” فلم يقُل عليه السلام ملّكه الله لخلقه…
فلا بُدّ للعاقل أن يعتقد بذلك، أي بأنّه مخوّل بالتصرُّف بهذا المال وممتحن به، وأنّه مسؤول عنه مكسباً وإنفاقاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت”10. ولا يدخل في وهم أحد أنّه أصبح مالكاً له، فله صنع ما أراد به وينسى أنّه محاسب حتّى على الدرهم والقطمير منه.
وكذلك إذا اعتقد أنّ مالكه الله تعالى وأنّه مجرّد عبد ممتحن به، فإنّه سوف لا يمنع حقّ الله تعالى فيه، بل يبذله بطيب نفس، فهل يبخل الإنسان بملك غيره؟
ثالثاً:إذا كان المال هو مال الله وهو وديعة عند الخلق لا غير مخوّل بالتصرُّف فيه فلا بُدّ أن نسأل ماذا يُريد الله تعالى منّا بشأن هذه الوديعة وهذا الشيء الّذي امتحننا فيه؟
هل يُريد منّا التباري بجمعه فمن يجمع أكثر فهو الفائز وله الغلبة عنده “تعالى” وبالتالي له التفاخر على غيره بفوزه المظفّر عليهم لأنّه فاقهم في الكنز والادّخار منه؟!
8- سورة الأنعام، الآية: 94.
9- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 93.
الجواب: كلا، بل كلّفنا عزّ وجلّ أن نوجّهه حيث وجّهه ولا نكنزه، كما عن مولانا الصادق عليه السلام: ” إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجِّهوها حيث وجّهها الله ولم يُعطكموها لتكنزوها”11.
فالمال إذاً ليس للكنز ولا للادّخار، بل جعله الله خواتيم في أرضه ليُصلح الناس به أمورهم، ويُديروا شؤونهم، ويتوصّلوا به إلى مقاصدهم، ليتوجّهوا بعد سدّ حوائجهم إلى الدوافع الأساس السامية، فمن يتوقّف عند جمع المال وكنزه ومن ثمّ يطلب به الكمالات الدنيوية كما عبّرت الرواية الشريفة “واتخذ منها الآنية” فإنّه من التائهين في الضلال ومن الهالكين إن كان قد بخل بحقّ الله تعالى، أو أسرف في إنفاقه.
وإن كان قد أدّى حقّ الله تعالى فيها فليس عليه جناح من الناحية الفقهية، ولكن من الناحية السلوكية فقد يُقال إنّ من يجمع ويكنز فهو من المنشغلين بالدنيا ومن الغافلين، وإنّه ما اجتمع مال إلا من شحٍّ أو حرام كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، ولذلك ألمحت الرواية السابقة إلى أنّ الشيء الّذي يكون مَرضيّا في إنفاقه هو القصد في كلِّ شيء، في المأكل والمشرب والملبس والمسكن..
“وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويركبوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدّى ذلك كان ما أكله حراماً، وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً، وما نكحه منه حراماً، وما ركبه منه حراماً”12.
فلا بُدّ من حمل الرواية على ما ذكرنا، فإما أن نقول أنّه حرام لأنّه لم يؤدِّ حقّ الله تعالى فيه، أو لأنّه أسرف في الإنفاق، أو لأنه ما اجتمع مال إلا من شحّ أو حرام، أو المقصود بالحرام الوارد الأعمّ من الحرام الفقهيّ و الأخلاقيّ العرفانيّ المعنويّ.
10- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 32.
11- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 13، ص 52.