حَرص أمير المؤمنين علي عليه السلام على أُمور المسلمين وإنْ كان على حسابه الخاص؛ فهو على الرغم من كونه الإِمام المنصوص عليه من قِبِل الله سبحانه وتعالى، سكت عن حقّه في الخلافة، رعايةً لوحدة المسلمين، وحرصاً على سلامة أمُورهم، وزهداً فيما يتنافس عليه الناس. وفي هذا المجال ورد في النهج الشريف: “لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَاللهِ لَأُسَلِّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ”(1).
وهذا يعني أَنَّ علياً عليه السلام لم ينظر إِلَى الخلافة والمناصب إِلَّا بمقدار ما يحفظ من خلاله أُمور المسلمين؛ ولذا، كانت الخلافة عنده أقلّ قيمةً من النّعل الَّذِي يُخصف ما لم تكن في سبيل إقامة الحقّ ودفْع الباطل. قَالَ عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، فَقَالَ لِي: “مَا قِيمَةُ هَذِهِ النَّعْلِ؟” فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا. قَالَ عليه السلام: “وَالله لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً”(2).
*العدالة في توزيع الأموال
ولمّا تولّى عليه السلام الخلافة الظاهرية أعلن ما يمكن أنْ نسمِّيه في عصرنا الحاضر بالثورة التغييرية الشاملة، وخصوصاً فيما يرتبط ببيت المال وتوزيع الواردات المالية على المسلمين. وقد أعلن ذلك قبل تولِّيه لها، كما ورد في النهج الشريف: “لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ الْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ”(3).
كما أعلن الإمام عن الخطّة على وجه التفصيل أمام الناس وفي أوّل يوم من تولّيه للخلافة، كما ورد عن مَالِكِ بْنِ أَوْسِ، الذي قال: “خطب [أمير المؤمنين عليه السلام في] الناس وأعلن خطّته الاقتصادية العادلة، قائلاً: “فَأَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، عِبَادُ الله الْمُسْلِمُونَ، وَالْمَالُ مَالُ الله يُقْسَمُ بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ الله خَيْرُ الْجَزَاءِ وَأَفْضَلُ الثَّوَابِ، لَمْ يَجْعَلِ الله الدُّنْيَا لِلْمُتَّقِينَ جَزَاءً وَما عِنْدَ الله خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ، إِذَا كَانَ غَداً فَاغْدُوا، فَإِنَّ عِنْدَنَا مَالاً اجْتَمَعَ، فَلَا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ كَانَ فِي عَطَاءٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ إِذَا كَانَ مُسْلِماً حُرّاً، احْضُرُوا رَحِمَكُمُ الله”. فَاجْتَمَعُوا مِنَ الْغَدِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، لَمْ يُفَضِّلْ أَحَداً”(4). وحاصل هذه الخطّة:
أ – أَنَّ الناس متساوون بالعطاء؛ لكونهم عباداً لله والمال مال الله.
ب – أَنَّ التفاضل بالتقوى على الرغم من كونه أفضل أنواع التفاضل، إِلَّا أَنَّ فضل المتقين هو عند الله، ولن يكون زيادة العطاء الدنيوي ثواباً لهم، وإلّا لخرجت التّقوى عن كونها خير الزاد ليوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون.
*مساواة بين الناس
فقد أحدث أمير المؤمنين عليه السلام في العطاء – وهو نظام قسمة الأموال العامّة بين الناس – تغييراً ثورياً، وكان من الانعطافات الثورية زمن خلافته، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثوريّة الإسلاميّة الأولى، فساوى بين الناس جنوداً كانوا أم غيرهم، عرباً كانوا أم موالي.
ولم يميّز بين قريبٍ وبعيد. وقصّته مع أخيه عقيل من أوضح الشواهد على ذلك، حيث جاء في نهج البلاغة: “وَالله لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيْسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى”(5).
*لا أطلب النّصر بالجور
وقد كان قراره هذا بالعدول عن تمييز الناس بالعطاء والعودة إلى نظام المساواة سبباً لاعتراض الكثير عليه، بل وصل الأمر ببعضهم لنقض بيعته وإعلان الحرب عليه، متّخذين المطالبة بدم عثمان ذريعةً ظاهرية له. ولكنّه عليه السلام ثبت على موقفه المثالي في العطاء، وقال لمَّا عوتب على التسوية في العطاء: “أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَالله لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً وَلَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ الله”(6).
ولو كان عليٌّ عليه السلام يطلب الدُّنيا وكسب الجماهير لكان أهون له أنْ يمشي على سيرة من سبقه في التمييز بالعطاء واستمالة القلوب، ولكن هيهات أنْ يغلبه هواه لمصالح دنيوية آنية، كيف وقد قال: “أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ الله”(7).
*مظهر الحرص الاقتصادي مع عمّاله
لم يكن حرصه عليه السلام على بيت المال وفيء المسلمين يقتصر على ما يباشره بنفسه، بل كان أيضاً في مراقبة مستمرّةٍ لعمّاله، فإذا بلغه عن أحدهم خيانة لا يتردّد في عزله بعد وعظه. جاء في الأخبار أنَّ سودة بنت عمارة الهمدانية قالت: “والله لقد جئته في رجلٍ كان قد ولّاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل عليّ برحمة ورفق ورأفة وتعطّف، وقال: ألكِ حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وأنّي لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك مَنْ يقبضه(8).
قد نجد في هذه الحياة من يعدل في العطاء مع الغير، لكنّه إذا جاء إلى نفسه وعياله المقرّبين يستأثر بأفضل الأموال والعطايا، لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام الذي كانت تأتيه الأموال الطائلة من جميع أصقاع الأُمّة الإسلامية آنذاك كان يوزّع كلّ ما في بيت المال على الناس ويكنسه ولا يبقي فيه لنفسه شيئاً، ويقول مخاطباً الدّنيا: “غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا”(9).
1.نهج البلاغة، الخطبة من كلام له لمّا عزموا على بيعة عثمان.
2.م.ن، الخطبة (33).
3.م.ن، الخطبة (272).
4.الأمالي، الشيخ الطوسي، ص729.
5.نهج البلاغة، م.س، الخطبة (224).
6.م.ن، الخطبة (126).
7.م.ن.
8.بحار الأنوار، المجلسي، ج41، ص120.
9.نهج البلاغة، م.س، الخطبة (77).