تدلّل الآية المباركة في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82]، على إلهيّة القرآن الكريم بعدم الاختلاف فيه، ونفي بشريّته المحضة بذلك، وتعميق ذلك يستدعي الحديث في ثلاثة محاور:
الأوّل: حاجة الإنسان إلى الوحي
الثاني: الأدلّة العقليّة على إلهيّة النصّ القرآني
الثالث: مناشئ توهّم بشريّة النصّ القرآني
المحور الأوّل: إنّ الحاجة إلى الوحي تنطلق من حاجة الإنسان الفطريّة إلى قانون يضمن به تلبية احتياجاته الروحيّة والجسمانيّة معاً، ولا يتحقّق ذلك إلا من يفهم التركيبة الخاصّة للإنسان والمجتمع، ويكون مترفّعاً عن المصالح الشخصيّة، وليس ذلك المقنّن إلا الله تبارك وتعالى.
المحور الثاني: هناك منحنيان للقول ببشريّة النصّ القرآني، الأوّل منهما: يتّجه إلى أنّ النص القرآني بدأ إلهيّاً عند تنزيله، وتحوّل إلى نص بشري عند تأويله وتلقّي النبي له بواسطة الوحي، فيما يتّجه الآخر إلى بشريّته حدوثاً وتكويناً، من دون توسّط الإلهيّة فيه.
يشترك المنحنيان في نتيجة واحدة وهي كون النص القرآني نصّاً أدبيّاً، وبالتالي يجب أن تحكمه مبادئ الدراسات النقديّة الأدبيّة من التحليل والتطوير وغيرها.
والمشكلة الجوهريّة التي تواجهها فكرة انسلاخ البعد الإلهي عن النص القرآني في مرتبة البقاء دون الحدوث أو الحدوث والبقاء معاً، هي مصادمتها للدليل العقلي القطعي على إلهيّة النص القرآني، واستحالة بشريّته، الذي ينتهي إلى أنّ التفكيك بين النصّ القرآني وبين الإلهيّة لا يمكن اجتماعه مع أهمّ خصوصيّتين للقرآن؛ وهما البيّنات والهداية، حيث أشارت الآية إلى ذلك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: 185]؛ لأنّ تصوّر الخطأ في النص القرآني يؤدّي إلى نقض الهدف من وجوده، وهو إثبات صدق مدّعي النبوّة من جانب، وضمان هداية الناس عند العمل به، والله تبارك وتعالى حكيم يمتنع عليه نقض غرضه.
وليس للقول بفكرة بشريّة النص القرآني إلا معنى واحد؛ وهو الغاء الدور الإعجازي والهدايتي للقرآن الكريم، والذي ينتهي إلى نسبة العبثيّة لله تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
المحور الثالث: إنّ أهمّ الدوافع التي ذهبت إلى توهّم فكرة بشريّة النص القرآني، عبارة عن ثلاث إشكاليّات:
الإشكاليّة الاُولى: أغلب آيات القرآن الكريم لها سبب نزول خاص بها، تعكس كون نصوصه تمثّل قضايا شخصيّة، ناتجة عن المحيط البيئي والثقافي الذي عاشه النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله).
وفي مقام الردّ على هذه الشبهة، نقول:
إنّها تُنبى عن جهل بالفرق بين نزول الآية في الواقعة المعيّنة، وبين نزولها لأجل الواقعة المعيّنة، فكثير من الآيات ـ وإن نزلت في مورد خاص ـ لكنّ ذلك لا يعني حصرها وعدم تعميمها للحالات المشابهة لها، كما نصّ عليه العلماء بقاعدة (المورد لا يخصّص الوارد)، هذا أوّلاً.
وأمّا ثانياً: إنّ القول بأنّ أكثر آيات القرآن ترتبط بسبب نزول خاص بها، يحتاج إلى إثبات، بل الدليل الاستقرائي يبطل ذلك، حيث ذكر مجموع الآيات القرآنيّة التي ترتبط بسبب نزول لا تتجاوز (٧٢٤) آية من مجموع (٦٢٣٦)، الذي يمثّل مجموع عدد آيات القرآن الكريم.
الإشكاليّة الثانية: وقوع الأخطاء النحويّة في بعض النصوص القرآنيّة، ممّا يدلّ على بشريّته كما في الآية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [سورة طه: 63]، والصحيح أن يُقال: إن هذين لساحرين.
والجواب من وجوه ثلاثة:
الأوّل: إجماع علماء اللّغة على مرجعيّة القرآن في تأسيس القواعد النحويّة، وبناء عليه لا يصحّ أن تخطأ القاعدة النحويّة القرآن، بل القرآن هو الحاكم عليها بمقتضى مرجعيّته العليا.
والثاني: يتّفق أهل اللّغة على الرجوع إلى كلمات العرب للأخذ منهم، ويعتبر النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) معاصراً لهذه الطبقة وأحد رجالاتها الذين يُستشهد بكلامهم في البناء النحوي، ولو كان خطأ كيف لا يلتفت إليه، لا هو ولا أحد فصحاء العرب!!
الثالث: للجملة العربية عدّة وجوه إعرابيّة صحيحة، ولكلّ وجه دليله، والآية المذكورة لها عدّة وجوه، منها: ورود كلمة (إن) مخفّفة، وحكمها الإهمال، وعندئذٍ تكون كلمة (هذان) مبتدأ مرفوع، و(ساحران) خبر.
أو ورودها بمعنى (نعم)، ويكون مفاد الجملة: نعم هذان لساحران.
أو ورودها بمعنى (ما) النافية، واللام بمعنى (إلا)، ويكون مفاد الجملة: ما هذان إلا ساحران، وغيرها من الوجوه الإعرابيّة.
والحاصل: أنّ كلّ دعوى تحمل توهّم وجود الخطأ النحوي في النصوص القرآنيّة، تكشف عن الجهل بالقواعد اللُّغويّة، ومعارضتها للاُسس البنائيّة لها.
الإشكاليّة الثالثة: وجود التناقض في آياته، حيث يعبّر تارة بأنّه {هُدًى لِلنَّاسِ}، واُخرى هدًى لفئة خاصّة وهُم المتّقون فقط {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
والجواب: بأنّ هداية القرآن للناس كافّة بمعنى الهداية الاستعداديّة، أي: للقرآن قابليّة واستعداد أن يهدي كلّ من تمسّك به.
بينما هداية القرآن للمتّقين، هداية فعليّة وواقعيّة، ولا تناقض بينهما، لاختلاف متعلّقهما.
هوامش قرآنيّة
* ولا ريب أنّ قداسة النص القرآني وإلهيّته وصيانته عن التحريف قطعيّة، لا تعارضها أدلّة وأخبار ظنيّة، لأنّ القطع حاكم على الظن.
*ودعوى أنّه تبيان لكلّ شيء، وعندئذٍ لا نحتاج إلى الأحاديث الشريفة أو المرجعيّة العلميّة في فهم النص القرآني، مرفوضةٌ؛ لأنّها تناقض القرآن نفسه، وهي خروج عن مبادئه التي تنص على اعتبار النبي (صلّى الله عليه وآله) (اُسوة) في أقواله وأفعاله وتقريراته، وعلى سؤال أهل الذكر الذين يعدلون القرآن في مقام الحجّيّة والنتيجة المحكيّة بالأمن من الوقوع في الضلالة عند التمسّك بهما.
*وتوهّم القدرة على استخراج كلّ شيء من القرآن دون الرجوع إلى أهل الذكر، بحجّة أنّه (تبيان) لكلّ شيء، ناشئ عن الجهل بالمعنى الدقيق لجملة {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89]، وهو كلّ شيء يحقّق غرض وأهداف القرآن، وهي الهداية والكمال والصلاح وشفاء القلوب، أو التبيان بمعيّة الثقل الآخر المعادل له.
*وأخيراً: لا سبيل للعزّة والكرامة والوحدة والحصانة من الوقوع في الفتنة إلا عبر تفعيل القرآن وتجسيده في حياة الاُمّة قولاً وفعلاً.
إذ ليس مشكلة مجتمعاتنا أنّه لا يقرأ القرآن، بل لأنّه لم يكن مجتمعاً قرآنيّاً، وفرق بين المجتمع القرآني والمجتمع القارئ، والذي يخلق الوعي والبصيرة ويوجب الحصانة من الوقوع في الزيغ وابتغاء الفتنة، هو الأوّل دون الثاني.