تبرير قتال المنحرفين
يقول عليه السلام: “ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه. وقلّبت ظهره وبطنه، فلم أر لي إلّا القتال أو الكفر (بما جاء به محمّد صلى الله عليه وآله وسلم)”4.
إنّ السبب الواضح الّذي على أساسه يتوجّه الإمام عليه السلام في تحرّكاته وسكناته، هو رضى الله عزّ وجلّ وطلب الحقّ، فهو لا يتحرّك لأجل باطل أو ظلم، بل لمحو الباطل ودفع الظلم.
ولذلك لمّا رأى أمير المؤمنين عليه السلام من هؤلاء الغدر والخيانة، والانقلاب على الإسلام وعلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومخالفة القرآن وإماتة السنّة وإحياء البدعة، قام عليه السلام لمواجهتهم وحربهم، بعد أن أعذر بالنصح لهم وآيس من هدايتهم.
________________________________________
3- شرح نهج البلاغة، بن أبي الحديد، ج1، ص24.
4- نهج البلاغة، ج1، ص94.
فنون الحرب في نهج البلاغة
علوم الحرب وفنونها وأساليبها من الأمور الّتي ينبغي أنْ تكون ضمن أولويّات اهتمام القائد والمقاتل، فللحرب قوانين وأساليب ينبغي الالتفات إليها لضمان عوامل النصر.
والإمام عليّ عليه السلام صاحب الخبرة الواسعة في ميادين القتال، والحكيم في إدارة شؤونها، قدّم لنا زاداً كاملاً في هذا المجال، نلمسه من خلال تسليط الضوء على بعض المعطيات الّتي عاشها الإمام عليّ عليه السلام كقائد عسكريّ وهي:
أ – تشكيل القوّات المسلّحة وأهدافها:
فقد سعى الإمام عليّ عليه السلام منذ تولّيه الحكم إلى تنظيم القوّات المسلّحة للدولة الإسلاميّة، وتشكيل قوّة ضاربة تتصدّى للظلم والتعدّي، وتحول دون الطغاة وجورهم.
وكانت هذه البادرة خطوة مهمّة منه، بعد أنْ عاش جزء كبير من المسلمين فترةً من الرخاء والتقاعد والتقاعس عن القتال حيث اشتغلوا بأمورهم الدنيويّة، ونسوا أمر الجهاد في سبيل الله ونصرة الدِّين.
وشكّل الإمام عليه السلام قوّة مسلّحة خاصّة عُرِفت بـ”شرطة الخميس”، وذلك أثناء تسلّمه لزمام الحكم. والشرطة عبارة عن فئة من خيار أعوان الولاة تُجنّد للمحافظة على أمن الرعيّة. وهم يُشكّلون أوّل كتيبة تشهد الحرب وتتهيّأ للموت. وقيل في سبب تسميتهم بـ”الشرطة” أنّهم شرطوا مع الحكومة أن يكونوا مهيّئين للدفاع تجاه العدو، وقال ابن الأثير: يُقال لهذا الجيش “الخميس” لأنّه كان خمس
فرق، وهي المقدّمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة5.
ويستفاد من سيرة الإمام عليه السلام أنّ شرطة الخميس أوّل كتيبة مسلّحة تشهد الحرب وهم خيار جند السلطان ونخبة أصحابه، وهم أمراء الجيش6. وأمّا الأهداف والأسباب الّتي دفعت الإمام عليه السلام إلى تشكيل وتنظيم القوّات المسلّحة في الدولة الإسلاميّة فنبيّنها من خلال قوله عليه السلام: “فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعزّ الدين، وسُبُل الأمن، وليس تقدّم الرعية إلّا بهم”7.
ونستخلص من كلام الإمام عليه السلام هذا، عدّة دوافع لإنشاء الجيش، وهي:
1 – حماية الرسالة وتنامي قدرتها.
2 – حماية المسلمين وحراستهم.
3 – عون القائد ومرآة إدارته في البلاد.
4 – حراسة الدولة وضمان أمنها.
أسباب الهزيمة في المعركة
ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقد قدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران لمّا غلب عليها بسر بن أبي أرطأة، فقام عليه السلام إلى المنبر، ضجِراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي، قائلاً: “أُنبئت بسراً قد اطّلع اليمن، وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون8 منكم باجتماعهم
________________________________________
5- البداية والنهاية، ابن الأثير، ج 2، ص 79.
6- شرح أصول الكافي، المازندراني، ج 6، ص 286.
7- نهج البلاغة، الرسالة 53.
8- أي ستكون لهم الدولة بدلكم.
على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم. وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم. وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب9 لخشيت أن يذهب بعِلَاقته 10″11.
يُروى أنّ معاوية سيّر بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز بعسكر كثيف فأراق دماء غزيرة واستكره الناس على البيعة لمعاوية، ثُمَّ توجّه والياً على اليمن فتغلّب عليها وانتزعها من عبيد الله بن العباس وفرّ عبيد الله ناجياً من شرّه فأتى بِسرٌ بيته فوجد له ولدين صبيّين فذبحهما وباء بإثمهما.
وهذه صورة من صور الإجرام الأمويّ بحقّ الإسلام والمسلمين، ولمّا وصل عبيد الله إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأخبره بما جرى كانت منه هذه الكلمات، وقد ذكر فيها عليه السلام عدّة أسباب للهزيمة، وهي:
1 – اجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم: فمسألة اجتماع الأمّة تحت راية واحدة وعقيدة صادقة وتوجّه مستقيم لا زيغ فيه ولا انحراف، هو طريق النصر. والتخاذل عن ذلك سبب أساس في الهزيمة، والمسألة تقع في الاجتماع والفرقة، فحتّى لو اجتمعوا على الباطل وكان المؤمنون مجتمعون على الحقّ قبالهم كان النصر للمؤمنين لا محالة، ولكن لو أنّ الحقّّ معنا ونحن متفرّقون عنه وأعداؤنا مجتمعون على باطلهم، فكيف يُمكن أن ننتصر؟
2 – وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل: وهنا إشارة هامّة إلى ضرورة الالتزام بالتكليف الّذي يكون التخلّي والتخاذل فيه سبباً للهزيمة النكراء، وهذا ما يُثير العجب إذ كيف يجتمع أولئك على طاعة أمير
________________________________________
9- قدح.
10- أي ما يُعلّق به.
11- نهج البلاغة, ج 1, ص 63- 66.
ظالم ويتفرّق من يدّعون الإيمان عن إمام الحقّ وخليفة المسلمين الشرعيّ، هذا التخلّف عن الطاعة لا شكّ أنّه سيشقّ عصا الأمّة وسيجعلها عرضة لكلّ طامع.
3 – وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم: وهذا يؤشّر إلى مشكلة تربويّة في هؤلاء، إذ حتّى الأمانة لا يحفظوها بحقّ إمامهم، فكيف لا تُنتهك أعراضهم وتُحتلّ أرضهم.
4 – وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم: إنّ كلّ دولة قويّة لا بُدَّ فيها من شعب واع ومنظّم ومنتظم ومستقيم لا يُخالف قوانين البلاد، ولا يُفسد فيها، فإن كان هذا الشعب فاسداً، مريضاً، ونظامه متهالكاً، كيف يُؤمل أن يكون النصر له على أعدائه؟! خاصّة إذا كان ذاك العدوّ يُحافظ على صلاح بلاده وعمرانها..
5- وفي خطبة الجهاد يقول عليه السلام: “أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجُنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشملَه البلاء…”12 .
فمن تركه رغبة عنه (أي الجهاد) ألبسه الله ثوب الذلّ: لا شكّ أنّ ترك الجهاد رغبة في الدنيا والبقاء فيها، سيكون سبباً في الضعف والضعة والاستكانة، ومعونةً للظالمين على ظلمهم، فالتارك للجهاد الواجب عليه المتخاذل عن نصرة الإسلام والمسلمين، سبب في الهزيمة والذلّ، لذلك يقول الإمام عليه السلام في نفس الخطبة: “فوالله ما غُزي قوم قطّ في عُقر دارهم إلّا ذلّوا”.
6- يقول عليه السلام: “فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”13 .
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فترك هذه الفريضة سبب في
________________________________________
12- نهج البلاغة, ج 1, ص 67- 68.
13- م. ن, ج 2, ص 155- 156.
اللعن والطرد من الرحمة الإلهيّة وسبب في الحرمان من العزّة والنصر، فمن أراد العزّة فللّه العزّة جميعاً، وهي لا تكون بدون التزامٍ بأوامر الله ونواهيه والدعوة إلى سبيله.