والحاصل أنّ مسلك الحبّ الالهي «ربّما يدلّ الانسان المحبّ على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الاخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام وللحبّ أحكام»( [423])لذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتّقين: «ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: لقد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم»( [424]).
وهذا ما عرضنا لبيانه في مبحث مراتب التقوى من هذه الدراسة، حيث قلنا: إنّ الطبقة الاولى تختص بأمور غير موجودة في الطبقتين الاُخريين، ذلك لانّ ميز طبقتهم وأساسها المحبّة الالهية دون محبّة النفس.
والسبب في ذلك كلّه أنّ هذا الطريق يقوم على أساس «تربية الانسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع»( [425]).
توضيحه: أنّ طريق تحصيل التقوى وتهذيب النفس، تارة يتمّ من خلال إبداء المانع مع وجود المقتضي، وأخرى من خلال رفع المقتضي، والاوّل هو الدفع والثاني هو الرفع.
فمثلاً قد يريد الانسان جاهاً أو عزّاً أو مسلكاً أو سمعةً حسنة في هذه الدنيا، فيتصوّر أنّ بإمكان الله سبحانه إعطاء هذه الامور له، كما أنّ بإمكان غير الله تبارك وتعالى ذلك. فيميل حسب طبعه إلى ما في أيدي الناس، فيأتيه التحذير بأنّك سوف تخسر وتعذّب يوم القيامة، فيكون العذاب مانعاً عن توجّه النفس إلى ما في أيدي الناس، أو يأتيه الترغيب ، بأنّ هذا الذي ترجوه محدود ومنقطع وزائل، وعليك أن تستبدله بآخر أفضل منه، وهو أجر الآخرة الباقي الدائم الذي عند الله تبارك وتعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاق)( [426]).
وهذا معناه أنّ المقتضي لتوجّه القلب إلى غير الله موجود، لكن هناك مانع من الترهيب والترغيب يمنعان المقتضي عن التأثير، فيكون من قبيل الورقة المبتلّة بالماء التي لا تحترق بالنار، لا لعدم وجود المقتضي، فاقتضاء الاحراق موجود في النار، بل لوجود المانع وهو البلل.
وهذه هي أهمّ خصوصية في مسلك التهذيب من خلال الغايات الاخروية، وهذا بخلافه في مسلك الحبّ الالهي، فإنّه يقوم على أساس اقتلاع أصل وجود المقتضي في الانسان السالك لتوجّه القلب وتعلّقه بغيره تعالى، لا أن يزاحم المقتضي الموجود بالمانع المخوّف أو المرغّب.
وهذا المعنى إنّما يحصل من خلال العلم والمعرفة بالله تعالى، لذا قلنا في بحث سابق: إنّ أهل هذا الطريق يعلمون من ربّهم ما لا يعلمه غيرهم «وإنّ هذا العلم يخالف سائر العلوم في أنّ أثره العملي، وهو صرف الانسان عمّا لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلّف دائماً، بخلاف سائر العلوم، فإنّ الصرْف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)( [427]). وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم)( [428])، وقال: (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)( [429]).
ويدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)( [430])، وذلك أنّ هؤلاء المخلَصين من الانبياء والائمّة (عليهم السلام) قد بيّنوا لنا جمل المعارف المتعلّقة بأسمائه وصفاته من طريق السمع، وقد حصّلنا العلم بها من طريق البرهان أيضاً، والآية مع ذلك تنزّهه عمّا نصفه به، دون ما يصفه به أولئك المخلَصون، فليس إلاّ أنّ العلم الذي يملكونه غير العلم الموجود عند الآخرين، وإن كان متعلّق العلمين واحداً من وجه (بالحمل الاوّلي) . هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ هذا العلم لا يغيّر الطبيعة الانسانية المختارة في أفعالها الارادية، ولا يخرجها إلى ساحة الاجبار والاضطرار، كيف والعلم من مبادئ الاختيار، ومجرّد قوّة العلم لا يوجب إلاّ قوّة الارادة؟ كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه، فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً، ويشهد على ذلك قوله تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)( [431]).
تفيد الآية أنّهم (عليهم السلام) في إمكانهم أن يشركوا بالله، وإن كان الاجتباء والهدى الالهي مانعاً عن ذلك. وقوله: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)( [432])، إلى غير ذلك من الآيات.
فالانسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته، ونسبة الصرْف إلى عصمته تعالى، كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.
ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى، وتصرّح به الاخبار، أنّ ذلك من الانبياء والائمّة (عليهم السلام) بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الايمان (أُولـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ)( [433]) ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره»( [434]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...