شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١
18 يوم مضت
الاسلام والحياة
92 زيارة
كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة. وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب ” البيان والتبيين ” وفي غيره من كتبه.
وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم: فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: أنه ذو دعابة شديدة.
وقال علي عليه السلام في ذاك: عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس (1)! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك! إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها.
قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.
وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء (2)، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام!.
(١) التلعابة، بفتح التاء وكسرها: الكثير اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أيضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثير في النهاية 1: 117، و 3: 59، 110، و 4: 59، 89.
(2) في المثل: ” هو يسر حسوا في ارتغاء “، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. (اللسان 19: 46).
(٢٥)
وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
* * * وأما الزهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد، وبدل الابدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط. وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت.
وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، وليف أخرى، ونعلاه من ليف. وكان يلبس الكرباس (1) الغليظ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة، ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا، ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان. وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا، لا ينقض (2) الجوع قوته، ولا يخون (3) الإقلال منته.
وهو الذي طلق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه (4)
(1) الكرباس بالكسر: ثوب من القطن الأبيض، معرب.
(2) ب: ” ينقص “.
(3) يخون: ينقص، وفي ب: ” يخور “، وما أثبته عن أ.
(4) البيت أنشده عمرو بن عدي حينما كان غلاما، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك ” جذيمة الأبرش ” الكمأة، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك، وكان عمرو لا يأكل منه، ويأتي به كما هو، وينشد البيت. وانظر القاموس 3: 259 – 260، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الأولياء 1: 81.
(٢٦)
وأما العبادة: فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما، ومنه تعلم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده.
وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت!.
وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام – وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قراءته القرآن واشتغاله به: فهو المنظور إليه في هذا الباب، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة، بل يقولون: تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن، لأنه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل (1) بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله. وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان
(1) ب: ” تشاغل “.
(٢٧)
2025-07-06