الرئيسية / تقاريـــر / الدور البريطاني في الشرق الأوسط وعلاقته بالتنظيمات الاسلامية المتطرفة – حمد جاسم محمد

الدور البريطاني في الشرق الأوسط وعلاقته بالتنظيمات الاسلامية المتطرفة – حمد جاسم محمد

   هناك مثل هندي يقول (إذا رأيت سمكتان تتصارعان في البحر فاعلم بان بريطانيا ورائهما)، إن تغيب بريطانيا عن المشهد السياسي العالمي، لدرجة أنه قد يظن المتابعون أنها دولةٌ لا دخل لها بنسج السياسات الإستراتيجية في العالم، لكن “من يتعلم من الدروس الحقيقية للتاريخ”، كما يقول بريجينسكي، يجب أن يرى الحقائق بطريقة متمايزة، ولعل التاريخ تحدث وبإسهابٍ عن الدور البريطاني منذ أن كانت بريطانيا القوة العظمى في العالم، ويخطئ من يظن أن الدور التخريبي توقف، بعد أن أصبحت أمريكا القطب الأقوى، وهنا يأتي الحديث عن الدور البريطاني في لعبة الشرق الأوسط الجديد، وبالتحديد في العراق وسوريا، والذي كان لبريطانيا الدور الأكبر في دعم الاحتلال الأمريكي للأول ودعم الثورة في الثاني.

يتلخص الدور البريطاني في الشرق الاوسط من خلال نشر الفوضى وجني المكاسب ودرء المخاطر باقل الخسائر، فخلال تاريخ بريطانيا في الشرق الاوسط خاصة والعالم عامة، تميزت سياستها بالمراوغة ونشر الفتن بين الطوائف والقوميات، اي سياسة “فرق تحكم”، ومنذ دخولها الى الشرق الاوسط والهند في القرن الثامن عشر وطردها للهولنديين والبرتغال والفرنسيين اتبعت بريطانيا سياسة التفرقة بين الدول، فقسمت الخليج العربي إلى عدة إمارات ومشيخات، وفرضت عليهم اتفاقيات سميت “بالمانعة والابدية” اي انها تمنع هذه الامارات من عقد اي اتفاقية مع اي دولة بدون موافقة الحكومة البريطانية، وابدية اي لانهاية لها، وبهذا منعت اي دولة من التدخل في شؤون هذه الدول، ثم بدأت بالتدخل في العراق في العهد العثماني من خلال الارساليات والبعثات التجارية وخاصة شركة الهند الشرقية التي افتتحت لها فرعا في العراق، وبدأت بالعمل من خلال التعاون مع الولاة العثمانيين والعشائر في العراق، حتى الحرب العالمية الاولى تاريخ احتلالها للعراق، اذ اشارت على شركاءها الفرنسيين والروس بتقسيم منطقة الشرق الاوسط الى عدة دول تتولى كل دولة منها ادارة هذه الدول، الا ان قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، جعلها تنسحب من الحلف، وبقيت اتفاقية “سايكس – بيكو” بين فرنسا وبريطانيا، حيث ضمت سوريا ولبنان الى فرنسا والجزيرة العربية والخليج والعراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني.

وقد عملت على اذكاء الفرقة المذهبية والدينية بين شعوب مستعمراتها في الشرق الاوسط لا زالت تعاني منها الى اليوم، فقد قسمت المنطقة الى عدة دول وامارات، اضافة الى وجود مناطق نزاع بينها، كذلك جعلت مناطق حدودية مشتركة بين دول الشرق الاوسط والخليج لتكون مثار خلاف يمكن استغلالها لإثارة الحروب بين دولها، مثل المناطق المشتركة بين الكويت والسعودية والعراق والسعودية ” تم حلها بتقاسم المنطقة”، واستمرت بريطانيا في اثارة المشاكل وخلق التيارات والتجمعات التي تتلاءم مع مصالحها، فعندما انتشر المد القومي في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي عملت بريطانيا من خلال حكام الدول التابعة لها على تأسيس جامعة الدول العربية، إذ إن اغلب الدراسات تؤكد على دور بريطانيا في انشاء الجامعة العربية عام 1945، وذلك لمنع اي توجه قومي وحدوي بين الدول العربية، كذلك أصدرت وعد بلفور سيء الصيت بمنح فلسطين لليهود، كذلك قامت بالمساعدة في تأسيس جمعية الإخوان المسلمين في مصر التي انتشرت في الأقطار العربية الاخرى لمواجهة المد الديني في المنطقة، إن أول اتصال بين الإخوان والإنجليز فكان في عام 1941، وهو العام الذي ألقى فيه القبض على حسن البنا، مؤسس الجماعة، ولكن مع إطلاق سراحه سعت بريطانيا للاتصال بجماعته، وحسب بعض المصادر فإن بريطانيا عرضت على الإخوان تمويلا ماليا مقابل تأييد لبريطانيا منهم، وقد لوحظ هدوء نسبى في نشاط الإخوان المضاد لبريطانيا بعد العرض بقليل، وكان أيضا دور جماعة الإخوان في التصدي للحركات القومية المصرية المعادية للاستعمار، إذ سعت بريطانيا لاستغلال العناصر الدينية متمثلة في الإخوان المسلمين للقضاء عليه، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت بريطانيا تتعاون مع الإخوان.

أما الفترة الحالية فان الاتصالات لم تنقطع بين المخابرات البريطانية والجماعات الإسلامية سواء كانت اخوانية او سلفية، وذلك للحصول على المزيد من المعلومات، ففي كانون الاول 2006 كتبت “جولي ماكجروير” من مكتب وزارة الخارجية لشئون العالم العربي وإسرائيل وشمال أفريقيا لوزير الخارجية البريطاني بضرورة رفع معدلات الاتصالات الدورية مع أعضاء البرلمان المصري من الإخوان، وان اتصالات جرت بعدد من أعضاء البرلمان من الإخوان ولكن هذه الاتصالات قطعت تحت ضغط من النظام المصري، ومنذ عام 2002، وهناك اتصالات متقطعة مع أعضاء البرلمان من الإخوان، وفي ايار من نقس العام أكد “كيم هولز”، وزير الخارجية، أمام البرلمان البريطاني أن المسئولين البريطانيين يتواصلون مع أعضاء الإخوان المسلمين منذ عام 2001 وأن مسئولين آخرين التقوا مع ممثلين للإخوان في الأردن والكويت ولبنان واتصلوا بشكل محدود مع الإخوان المسلمين في سوريا.

إن علاقة بريطانيا اليوم مع الإخوان هي استمرار لحرصها على استخدام الإسلاميين كأداة مباشرة في سياستها الخارجية الساعية لصنع تحالفات تواجه أعداء محتملين، كذلك عملت بريطانيا الى ابعاد اي منافس لها في المنطقة، حتى لو كان اقرب الحلفاء لها، فتاريخ بريطانيا في العالم هو محاولتها الاستحواذ على مناطق النفوذ في العالم وابعاد اي منافسة محتملة لها، وقد يقول قائل بان امريكا قد كسرت هذا التقليد ونافست بريطانيا بالسيطرة على الخليج العربي، الظاهر ان بريطانيا قد تخلت عن مناطق نفوذها خلال انسحابها من الخليج العربي عام 1971، وان امريكا قد حلت محلها في النفوذ، الا ان الوقائع تدل عكس ذلك، فعلى الرغم من الانسحاب البريطاني من الخليج في سبعينات القرن الماضي، وان دور بريطانيا في الشرق الأوسط على مدار العقود الأخيرة كما ينظر اليه مقتصرا، في العادة، على الدعم السياسي والعسكري النشيط للمبادرات المنطلقة من واشنطن، وجرت العادة على اعتبار المملكة المتحدة شريكا أصغر للولايات المتحدة.

فيما جاءت الحرب في افغانستان والعراق لتؤكد وجهة النظر هذه، الا ان هناك تغيير ملحوظ في السياسة الخارجية البريطانية منذ بداية الربيع العربي، وسعي لندن الى تطبيق سياسة اكثر استقلالية في المنطقة، اذ تحاول حكومة “ديفيد كاميرون” السير على نهج “مارغريت تاتشر” في الطموح الى استعادة بريطانيا لمكانتها كدولة عظمى، موقف لندن وباريس النشيط حيال الأزمة الليبية بات في الواقع عاملا حاسما في تمرير الحل العسكري الذي نفذه حلف الناتو، فيما تغدو الأزمة السورية بالنسبة الى لندن ذريعة اخرى لتنفيذ الفعاليات السياسية والعمليات الحربية، حتى ان تصميم كاميرون على إسقاط نظام الأسد بأسرع ما يمكن تجاوز تصميم اوباما على اسقاطه، الأمر الذي يثير بعض التساؤلات المشروعة عن حقيقة مخططات البريطانيين البعيدة المدى في المنطقة، كما وفرت الثورات العربية لبريطانيا، بوصفها مصدرة كبيرة للسلاح الى دول الخليج العربية، فرصة توقيع عقود مربحة جديدة. ومن وراء الخطاب عن ضرورة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان سعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون خلال زيارته الأخيرة للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الى تمرير مصالح منتجي السلاح البريطانيين بالدرجة الأولى في سوق الدول الخليجية النفطية الغنية.

ان نفوذها السياسي والاقتصادي بقي على حاله بدون اي تأثر بعد الانسحاب من الخليج، بل قد حققت مكاسب من هذا الانسحاب، اذ تركت حماية المنطقة في عهدة غيرها وقللت من التكاليف الملقاة على كاهلها، في نفس الوقت حافظت على نفوذها الاقتصادي، فشركات النفط البريطانية الكبرى لا زالت تعمل في المنطقة، كذلك النفوذ السياسي، فقد لو حظ عند اندلاع ازمة البحرين عام 2011، لجأت البحرين الى بريطانيا لمساعدتها ودعمها على الرغم من التواجد العسكري الامريكي في البحرين، كذلك هناك قواعد عسكرية لها في البحرين والامارات وعمان، وصفقات تسليح ضخمة مع اغلب دول الخليج.

ولو عدنا الى موقفها من ايران وخاصة ما يتعلق بالثورة الايرانية والبرنامج النووي، فالظاهر أن علاقاتها السياسية والتجارية مع ايران مستمرة رغم بعض التوترات، اذ تعد بريطانيا من اكثر الدول الاوربية توازنا في العلاقات مع ايران، وحتى عند اشتداد الخلاف الامريكي الايراني حول البرنامج النووي، اذ انها من اوائل الدول الاوربية التي اعترفت بالنظام الاسلامي في ايران، وكانت تأخذ جانب التهدئة، وذلك لكسب كل الاطراف الى جانبها، فهي من جهة تحاول الاشتراك في المفاوضات النووية مع الدول الخمس الكبرى وايران، ومن جهة اخرى تحاول التقرب لإيران لأنه منطقة نفوذ تقليدية لبريطانيا، ومنطقة استثمار مهمة لشركاتها وهي لا تريد خسارتها، فبريطانيا تحصل على مكاسب ضخمة من دول المنطقة دون ان يكون لهذه الدول تأثير على سياستها الخارجية.

على عكس الدور الفرنسي في المنطقة، اذ ان فرنسا ولأجل الحصول على المكاسب المادية من دول الخليج العربية من خلال الحصول على عقود استثمار لشركاتها، وصفقات التسليح فأنها تقوم باتباع سياسات تنسجم مع مطالب هذه الدول، فقد انتجت صفقة الاسلحة الفرنسية مع السعودية والتي قيمتها 12 مليار دولار، ثلاث شروط فرنسية على ايران في المفاوضات الجارية في فيينا، وهي تشديد التفتيش، واعادة فرض العقوبات تلقائيا في حال اخلت ايران بالالتزامات المفروضة عليها، وتفتيش المواقع العسكرية الايرانية، وهي تعرف جيدا ان بعض هذه الشروط غير قابلة للتطبيق، وان امريكا راغبة بعقد اتفاق نووي مع ايران، الا ان فرنسا تحاول استمالة دول الخليج واسرائيل بطرح هكذا شروط.

ورغم تعاون بريطانيا مع واشنطن في العديد من الحروب الا انها تدرك حجم المخاطر من سيطرة امريكا على موارد الشرق الاوسط، إذ أدركت خطورة اللعبة الامريكية وهي السيطرة على موارد الطاقة في المنطقة، فكانت مشاركتها في الحرب على العراق واحتلاله عام 2003، وبهذا تعد بريطانيا المحرض والمخطط الرئيسي لاحتلال العراق، قبل الاحتلال بنحو العام، فالوثائق البريطانية تثبت بما لا يقبل الشك أنها خططت لاحتلال العراق والسيطرة على الثروات العراقية وعلى رأسها الثروة النفطية. وفي الوقت الذي أكتفت فيه أمريكا برمزية النصر في العراق من خلال الصورة الهوليودية في ساحة الفردوس وسط العاصمة العراقية بغداد والسيطرة الكاملة على المنظومة النفطية من الوزارة الى البحر مروراً بأنابيب النفط المترامية الأطراف، فضلت بريطانيا أن تكون المستفيد الرئيسي من الثروات النفطية العراقية، وجاءت عملية تقسيم الوجود الاحتلالي بين الأمريكيين والبريطانيين، لصالح الأخيرة، حيث دفعت بريطانيا بأمريكا لأن يكون وجودها في المناطق التي تعيش اضطرابا، ونقصاً واضحاً في الموارد النفطية، بينما حظيت بريطانيا بالسيطرة على المناطق الجنوبية الغنية بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى، وبهذا فقد انفرط عقد التحالف ضد العراق بعد مرور سنة على الاحتلال بانسحاب اغلب دول التحالف، وبقاء امريكا لوحدها في العراق، حتى بريطانيا فانها انسحبت قبل امريكا، وبهذا فقد ركزت سياستها على جنوب العراق من خلال الاستثمار وتوطيد العلاقات مع الحكومات المحلية هناك.

اما اذا عدنا الى موقف بريطانيا من تنظيم داعش في منطقة الشرق الاوسط، وخاصة في العراق وسوريا، فاعتقد ان بريطانيا تسعى لسياسة قديمة جديدة من خلال تقسيم المنطقة، بالتعاون مع امريكا، وهذا ما اكده ضابط استخبارات بريطاني سابق هو “تشارلز شويبردج” ان بريطانيا والولايات المتحدة، تخططان لتقسيم العديد من الدول العربية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط عبر استخدامهما للجماعات “الراديكالية” المسلحة ودفع دولا في المنطقة إلى تمـويل وتسليح التنظيمات المسلحة في مقدمتها تنظيم “الدولة الإسلامية”، واعتبر أن القوات الأميركية باستطاعتها تدمير تنظيم “الدولة الإسلامية” بسرعة فائقة، لكن واشنطن تهدف من وراء مماطلتها تلك إلى إبقاء المنطقة في أزمة متواصلة لاستنزاف إيران أولا والحصول على الدعم المالي المستمر من دول المنطقة في حربها المعلنة ضد “داعش” في مرحلة ثانية.

وفي تسريبات عن ضابط المخابرات الامريكي السابق “ادوارد سنودن” تؤكد تعاون اجهزة مخابرات ثلاث دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني لخلق تنظيم ارهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع انحاء العالم في مكان واحد في عملية يرمز لها بـ”عش الدبابير”، وأظهرت وثائق مسربة من وكالة الأمن القومي أن الأخيرة قامت بتنفيذ خطة بريطانية قديمة تعرف بـ”عش الدبابير” لحماية الكيان الصهيوني تقضي بإنشاء دين شعاراته اسلامية يتكون من مجموعة من الاحكام المتطرفة التي ترفض اي فكر اخر او منافس له، وان زعيم التنظيم “البغدادي” خضع لدورة مكثفة استمرت عام كامل خضع فيها لتدريب عسكري على ايدي عناصر في الموساد والمخابرات البريطانية بالإضافة لتلقيه دورات في فن الخطابة ودروس في علم اللاهوت، وهي نفس الطريقة التي اتبعتها بريطانيا في تأسيس المذهب الوهابي بقيادة ” محمد بن عبد الوهاب” من خلال ضابط المخابرات البريطانية ” هامفر” في القرن التاسع عشر.

ومن الامثلة على تعاون المخابرات البريطانية مع الجهاديين ما كشفته صحيفة “الأوبزرفر” البريطانية، أن المخابرات البريطانية تعرفت على هوية مجرم داعش “محمد الموازي” عام 2008، حيث كانت له صلات بهجوم تموز 2005، بأحد محطات مترو الأنفاق بلندن ولكنها تركته يهرب إلى سوريا عمدا للانضمام لتنظيم “داعش” الإرهابي، وقالت “الأوبزرفر” إن المخابرات البريطانية وضعت “الموازي” أسفل عدستها ولكنه رغم ذلك غادر الأراضي البريطانية إلى سوريا للانضمام لـ”داعش” عام 2013، وان المخابرات ذاتها جندت الموازي للعمل معها، لقد كان الحل الوحيد لحماية المصالح الغربية والدولة العبرية يكمن في خلق عدو قريب من حدودها لكن سلاحه موجه نحو الدول الاسلامية الرافضة لوجوده.

ان الوضع الأمني في العراق وسورية وازدياد قوة تنظيم “داعش” تعد اسباباً واضحة بالنسبة لبريطانيا لإقامة قاعدة عسكرية دائمة في الشرق الأوسط،، اذ اكد السفير البريطاني السابق لدى الأمم المتحدة “جيريمي غرينستوك” في ايلول 2014، إلى أن القضاء على التنظيم المسلح سيكون دافعاً رئيساً لوجود عسكري أكبر في المنطقة، الأمر الذي سيكون رادعاً لكل المجموعات التي تفكر في إثارة الفوضى في بلدان المنطقة، وبهذا فان تنظيم داعش هو وسيلة بريطانيا لإعادة تواجدها في الشرق الاوسط، وبعد تراجعها في المنطقة التي كانت تسمى “شرق السويس” في الخمسينات بسبب ضغوط دولية، وفي ما بعد انسحبت بشكل رسمي، وكان ذلك في عام 1971، اعلان القاعدة الجديدة له دوافع سياسية بشكل كبير وهي رسالة لحلفائها الخليجيين مفادها نحن ندعمكم، كما أن الرسالة تؤكد أيضاً ان البريطانيين تعتمد بقدر كبير على الشرق الأوسط سواء من الناحية الاستراتيجية أو في ما يتعلق بالمصادر وعلى رأسها الطاقة.

كذلك تظهر مشكلة اخرى هي عدد البريطانيين المنضمين الى تنظيم داعش والذين سافروا إلى سوريا والعراق، ويقرون بحوالي 600 مواطن، اغلبهم من النساء، ورغم هذا العدد الكبير الا اننا لم نشهد اي عمليات مسلحة لداعش داخل بريطانيا كما حصل في فرنسا ضد صحيفة “شارل ابدو” وغيرها، كذلك ان بريطانيا ورغم تقدمها الامني الا انها لم تحاول منع او على الاقل اعتقال هؤلاء الجهاديين عند تنقلهم من والى تركيا، الاعتقاد السائد ان بريطانيا بالوقت الذي تدعم فيه التنظيم لتحقيق مصالحها، فهي تحمي نفسها من خلال عدة طرق منها: استخدام العنصر النسائي كوسيلة استخباراتية وجمع المعلومات عن المجموعات المسلحة في سوريا والعراق، واتخاذ اجراءات استباقية ضد اي تحرك مسلح لهم داخل اراضيها، وهذه السياسة كانت متبعة في بريطانيا منذ عهد الاستعمار، وتعد سياسة بريطانيا الاولى لجمع المعلومات والتوسع في المنطقة، كذلك هناك رقابة دقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات من قبل جهاز المخابرات البريطانية في محاولة لجمع المعلومات عن المسلحين وتعقبهم في حالة تشكيلهم خطرا عليها.

وبهذا فان بريطانيا عملت على خلق تنظيم اسلامي اصولي مسلح في المنطقة وهو داعش، وذلك لضرب مصالح الدول المنافسة لها من جهة، وتحقيق اهدافها بتقسيم المنطقة من جهة اخرى، فعلى الرغم من ان بريطانيا ومع انطلاق الازمة السورية تبدو غير مهتمة بها، وحتى مشاركتها بالتحالف الدولي ضد داعش كانت رمزية، ومساهمتها في المعركة ضد داعش متواضعة بشكل لافت للنظر، وقد فسر على انه ارهاق وإعياء من التدخل البريطاني في العراق وافغانستان وليبيا.

وقد يلاحظ البعض بان هناك عدد من العوائق في وجه السياسة البريطانية المباشرة في الشرق الاوسط، بعضها داخلي وهو معارضة معظم الشارع والاحزاب البريطانية للتدخل في الشؤون الدولية، كذلك الوضع المضطرب في الشرق الاوسط والذي قد يكون مستنقع للدول الراغبة الدخول فيه كحال امريكا حاليا، حتى ان البرلمان البريطاني صوت في اب 2013 على رفض التدخل العسكري في سوريا، طالما ليس هناك قرار من المتحدة أو تقرير دولي حول صحة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيمائية، بحجة لا تريد تكرار اخطاء تدخلها في العراق بحجة وجود اسلحة دمار شامل، وبدون موافقة الامم المتحدة التي ادت الى نتائج وخيمة على العراقيين، وعرضت البريطانيين للمخاطر والملاحقات القانونية، كما ان بريطانيا اعتمدت على زيادة المساعدات الإنسانية للنازحين حيث خصصت حكومة “كاميرون” نحو 800 مليون جنيه لإعادة توطين بعض الـ7 ملايين الذين شردهم الحرب الاهلية في سوريا، وتقديم دعم لوجيستي وعسكري خفيف لعناصر في المعارضة السورية، الا ان من يتفحص التصريحات الرسمية الصادرة من أوباما وساركوزي وتوني بلير تجاه إيران وسوريا وحلف المقاومة، والتصعيد في التلفيقات والاتهامات سيدرك تماماً باننا كنا أمام وضعٍ لا يختلف عما حصل مع العراق ما قبل الاحتلال.

فما حصل في مصر وتونس واليمن وغيرها من الدول يعود لأسباب منها داخلية أساسها الاحتقان الموجود لدى الشعوب ولعقود، نتيجة تسلط الأنظمة الشمولية والانهيار في المستوى المعيشي والثقافة السائدة والعوامل الاخرى المتعلقة التي من السهولة استغلالها، وهنا جاء دور الخبير البريطاني، الى جانب تدخله استخباراتياً عن طريق المنظمات غير الحكومية ” “NGO والمرتبطة “بجورج سورس” الصهيوني المنشأ والفكر، وأكبر داعميها في العالم، الى جانب المؤسسات المرتبطة بأجهزة المخابرات الدولية والإقليمية ومن ضمنها تلك التي كانت تدور في فلك الأمير السعودي ” بندر بن سلطان”، فالمخطط أعد سلفاً ضمن استراتيجية بعيدة المدى خطها “هنري كيسنجر” عام ١٩٧٥. ثم امتد المخطط ليطال الشأن الليبي، عبر التصعيد على المستوى العسكري وتدخل القوات الخاصة من دول الناتو فانهارت ليبيا، وجاء دور سوريا، لكن المخطط فشل هناك وتأخر عن موعده، واليوم تجري إعادة النظر في السياسات التفصيلية.

حتى ان المتتبع لحركة “بوكو حرام” في نيجيريا يرى صناعة بريطانية غربية بامتياز، لوقف نمو القارة الافريقية، وخاصة نيجيريا التي ظهرت كأوّل قوّة اقتصادية في القارة الإفريقية، ورائدة للنمو المستدام في إفريقيا، أثارا بعض المخاوف لدى الغرب الساعي لكبح ذلك النموّ بشتى الوسائل، كذلك فإنّ “بوكو حرام” ستكون ذات فائدة كبرى بالنسبة للغرب، لوقف تقدم للنفوذ الصيني والروسي في افريقيا وخاصة في مجال الطاقة وهذا ما لا يمكن أن يروق لقوى تكمن مصالحها في أن تظلّ إفريقيا، على الدوام، مجرّد خزان للمواد الأولية، كذلك اجبار دول غرب افريقيا على نشر قوات عسكرية فيها بحجة مكافحة الارهاب، كذلك ان تنظيم بوكو حرام ينتشر نشاطه في شمال نيجيريا وعلى حدود النيجر وتشاد وهي مناطق ذات اغلبية اسلامية واضحة، ولا يوجد له نشاط في جنوب نيجيريا ذات الاغلبية المسيحية وهذا دليل اخر على تورط الغرب في دعمه.

ان البحث عن الدور البريطاني التخريبي في المنطقة قد يطول، ويحتاج الى ملفات وكتب عديدة لبحثه، الا ان اللافت للنظر ان اغلب دول المنطقة، وبعض السياسيين تخدعهم المظاهر البراقة لهذا الدور، خاصة اذا كان ظاهره معارض للسياسة الامريكية في المنطقة، وهذه المعارضة بالطبع تبادل ادوار لا اكثر، صحيح ان بريطانيا لم ولن تسمح لأقرب حلفاءها الاضرار بمصالحها في العالم، الا ان المتتبع للعلاقة بين امريكا وبريطانيا يرى ان هذه العلاقة تكاملية، وان ما تظهره بريطانيا من معارضة لبعض السياسات الأمريكية او الاوربية في الشرق الاوسط هو من اجل ايهام الطرف الاخر، وجره الى سياستها من اجل البدء من حيث انتهت حليفتها أمريكا.

ان بريطانيا لم تزل احد اكثر الدول الغربية “احتضانا” للتيارات الاصولية الاسلامية، فضلا عن كونها صارت اكبر مركز تصدير للإرهابيين الاسلاميين الى العراق وسوريا، ويظل الاعتبار الاكثر بلاغة، وان تمكين أجهزة الاستخبارات لمراقبة واختراق الجماعات الإسلامية ربما كان وسيلة لإقامة علاقات “مع قادة محتملين في المستقبل”، وهو ما يساعد على إعطاء البريطانيين “النفوذ” “على السياسة الداخلية للدول العربية، وتهدف لتعزيز الانقسام فيها، وان استخدام الإسلام من قبل الغرب في زمن الحرب الباردة، على وجه الخصوص لزعزعة الاستقرار في البلدان العربية التي اعتمدت سياسات اعتبرت خطرا على النفوذ والمصالح الغربية، وان دور بريطانيا في تشجيع الأفراد والدول الإسلامية كأدوات لطموحات استعمارية خاصة بها، فقد دعمت الدولة البريطانية المتطرفين الإسلاميين في السعودية والباكستانية، والإخوان المسلمين والمجاهدين، وانها تدعم حاليا الإسلاميين المتطرفين في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها ضد المعتدلين والديمقراطيين والقوميين والعلمانيين على حد سواء، كمقاتلين بالوكالة للدفاع عن مصالحها.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

شاهد أيضاً

السقوط أو التحالف العلني مع إسرائيل

 خلال العقود الأربعة الماضية عانى الشعب اللبناني بجميع مكوّناته الطائفية والعرقية من معضلتين أساسيتين كلّفته ...