الرئيسية / القرآن الكريم / مفاهيم القرآن الكريم

مفاهيم القرآن الكريم

الفصل الخامس

شبهات وحلول
دلّت البراهين العقلية كالنصوص القرآنية على أنّه سبحانه قائم بالقسط في جميع شوَونه، بيد انّثمة شبهات أُثيرت حول الموضوع تنشد لنفسها حلولاً .

* الشبهة الاَُولى: خلق الاَعمال

إنّ التوحيد الاَفعالي يرشدنا إلى أنّ ما في الكون مخلوق للّه سبحانه، دون فرق بين الجواهر والاَعراض، وبين الاِنسان وأعماله،وهذا صريح الآيات التالية:

1. (قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار) .(1)

2. (ذلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمْْ خالِقُ كُلّ شَيءٍ لاإِلهَ إِلاّ هُوَ…) .(2)

3. (يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّه).(3)

فإذا لم يكن في صحيفة الوجود إلاّ خالق واحد لا شريك له في الخلق، فكلّ
____________

(1)الرعد: 16.

(2)الموَمن:62.

(3)فاطر:3.
——————————————————————————–

( 46 )
ما يصدر من الاِنسان فهو مخلوق له وهو خالقه، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

ويستنتج منه أمران:

أ: إذا كان فعل الاِنسان مخلوقاً للّه سبحانه لا للاِنسان فيكون مجبوراً في فعله لا مختاراً.

ب: إذا كان فعل العبد حسنُه و سيِّئه فعلاً للّه سبحانه ومخلوقاً له، فتكون الموَاخذة على أفعال العبد خلاف العدل والقسط، لاَنّ الخالق هو اللّه سبحانه والمَُجزيّ هوالعبد، مع أنّه لا دور له في فعله .

أقول: إنّما رتَّبوه على التوحيد في الخالقية يخالف الفطرة أوّلاً، فانّها تشهد على حرية الاِنسان في أفعاله، ويخالف أهداف الاَنبياء ثانياً. فإذا كان الاِنسان مجبوراً فيما يفعل ويترك، كان بعث الاَنبياء ودعوتهم إلى الطريق المستقيم أمراً لغواً، غير موَثر في هداية الاِنسان، بل تعدُّ عامة القوانين الجزائية في الاِسلام أمراً لغواً وظلماً في حقّ المرتكب، لاَنّه لم يقترف المعاصي والسيئات عن اختيار، بل عن جبر وسوق مناللّه سبحانه إيّاه إلى العمل، و هو تعالى هو الفاعل الخالق لاَعمالهم، لا العبدُ فيكون تعذيبه مصداقاً لقول الشاعر:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم * فكأنّني سبّابة المتندِّم
لكنّ الاَشاعرة مخطئون في تفسير التوحيد في الخالقية أو التوحيد الاَفعالي الذي هو من المعارف الاِسلامية التي صدع بها القرآن الكريم.

انّالتوحيد في الخالقية يُفسر بأحد تفسيرين:

أ: أن َّ كل ما في الكون من الظواهر الطبيعية والفلكية وغيرهما مخلوق للّه
——————————————————————————–

( 47 )
سبحانه مباشرة،وبلا تسبيب سبب وتهيئة مقدمة و ليس في صحيفة الكون إلاّ علة واحدة تقوم بجميع الاَفعال، وتنوب مناب العلل الطبيعية في كافة الموارد.

ب: إنَّ صحيفة الكون قائمة بوجوده سبحانه ومنتهية إليه، غير انّه سبحانه خلق الاَشياء من خلال نظام الاَسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، على وجه يكون للسبب والعلة دور في تحقّق المسبب والمعلول وإن كان ذلك بإذنه سبحانه.

وعلى ضوء ذلك فللعالم خالق واحد أصيل، وعلّة واحدة قائمة بنفسها، لكن تتوسط بينها وبين الظواهر الطبيعية والفلكية علل وأسباب موَثرة في معاليلها، قائمة بذاته سبحانه، موَثرة بأمره، والجميع من سنن اللّه تبارك وتعالى.

أمّا التفسير الاَوّل: فهو خيرة الاَشاعرة الذين ينكرون العلل والاَسباب الطبيعيَّة ولا يعترفون إلاّ بعلة واحدة، وهي قائمة مقام عامة العلل المتصورة للطوائف الاَُخرى، ولكن هذا التفسير ـ و إن كان لاَجل الغلو في التوحيد ـ يخالف نصوص القرآن الكريم، فانّ الوحي الاِلهي يذعن بعلل طبيعية موَثرة في معاليلها، وإليك بعضَ ما يدل على ذلك الاَصل:

1. (وَتَرىَ الاَرضَ هامِدَةً فَإذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).(1)

فالآية صريحة في تأثير الماء في اهتزاز الاَرض وربوّها، ثمّ إنباتها كلّزوج بهيج، فالاَرض الهامدة كالجماد، والذي يخرجها من هذه الحالة هو الماء، يقول سبحانه: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت) فالاهتزاز والرباء والاِنبات أثر الماء ولكن بإذنه سبحانه.
____________

(1)الحج:5.
——————————————————————————–

( 48 )
وجاء نفس المضمون في الآية التالية: (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوجٍ كَريم) .(1)

والبيان نفس البيان فلا نطيل.

2. (مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّّ سُنْبُلَةٍ مِائةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّهُواسِعٌ عَلِيمٌ) .(2)

ترى أنّه سبحانه ينسب الاِنبات إلى الحبة، ويقول(كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) وهو ظاهر في تأثير الحبة في ظهور السنابل، وفي كلّسنبلة مائة حبة، وإن كان ذلك التأثير بأمره سبحانه، حيث إنَّ الكلّ سُنَّة من سننه.

3.(اللّهُ الّذي يُرسِلُ الرياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كيفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلاِلِه فَإذا أصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .(3)

والآية صريحة في أنّ هناك عللاً طبيعيَّة موَثرة في معاليلها التي منها إثارة الرياح السحاب، فهي فعل الرياح، كما هو صريح قوله(فتثير سحاباً) .

ثمّ إنّه سبحانه يستخدم السحاب المنثورة فيبسطها في السماء، ويجعلها كسفاً، أي قطعاً متفرقة، فعند ذلك يخرج الودق من خلاله.

وعلى كلّ حال فالآية صريحة في وجود الصلة بين إرسال الرياح، و إثارة السحاب، وانبساطها في السماء، وصيرورتها كسفاً التي تسفر عن خروج الودق من خلال السحاب، كلّذلك مظاهر طبيعية وظواهر كونية يوَثر كل في الآخر
____________

(1)لقمان:10.

(2)البقره:261.

(3)الروم:48.
——————————————————————————–

( 49 )
بإذن اللّه سبحانه، والجميع من سننه الكونية والاعتراف بها اعتراف بقدرته وعلمه وحكمته وانّ الجميع من جنوده سبحانه الخاضعة لاِرادته.

ومع هذه التصريحات كيف يمكن تفسير التوحيد في الخالقية بالمعنى الاَوّل، ورفض كلّ تفسير ضمني وتبعي لغيره سبحانه؟!

والذي يدل على ذلك انّه سبحانه ينسب عمل الاِنسان إليه، ويقول:

(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمْوَْمِنُون) .(1)

(أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمالكم) .(2)

(وَأَنْ لَيْس لِلاِنْسانِ إِلاّما سَعى * وأنّ سَعْيَهُسَوفَ يُرى) .(3)

ففي هذه الآيات ينسب عمل الاِنسان إليه و يرى أنّ له دوراً في مصيره، ويرى أنّه ليس لكلّ إنسان إلاّ سعيه وجهده.

وثمة آيات تنسب الخلق إلى غيره سبحانه، لكن لا على وجه ينافي التوحيد في الخالقية، حيث يقول:

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبرىَُ الاََكْمَهَ وَالاََبْرَصَ بِإِذْني وَإِذْ تُخْرجُُ المَوتى بِإِذْني) .(4)

(أنّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىَُ الاََكْمَهَ وَالاََبْرَصَ و أحي المَوتى بِإِذْنِ اللّه) .(5)

وأي تصريح أوضح من خطابه الموجّه إلى المسيح، بقوله: (وَإِذْ تَخْلق مِنَ

____________

(1)التوبة:105.

(2)محمّد:33.

(3)النجم:39 ـ 40.

(4)المائدة:110.

(5)آل عمران: 49.
——————————————————————————–

( 50 )
الطّين كهَيئة الطَّير) .

فمقتضى الجمع بين الآيات التي تحصر الخالقية في اللّه سبحانه ولا ترى خالقاً غيره، والآيات التي تعترف بتأثير العلل بعضها في بعض، وتنسب الخلقة إلى غيره سبحانه إيضاً، هو القول بأنّ المقصود من حصر الخالقية في اللّه هو الخالقية النابعة من ذات الخالق غير المعتمد على شيء.

وأمّا الخالقية التبعية والظلية والتأثير الحرفي فهي قائمة بالعلل والاَسباب التي أوجدها سبحانه و صيَّرها على نظام العلل و المعاليل والمسببات، ولا منافاة بين ذلك الحصر ونفيه عن الغير، وإثباته للآخرين، لاَنّ المحصور فيه سبحانه هو الخالقية التي يستقل الفاعل في خلقه عن غيره، والمثبت لغيره هو القيام بالتأثير والخالقية التي أذن به سبحانه حيث إنَّ قيام الجميع من العلل والمعاليل به سبحانه.

وبذلك يظهر أمران:

الاَوّل: انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية الذي هو أصل من الاَُصول لا يخالف الاعتراف بنظام العلل والمعاليل في الطبيعيات والفلكيات بل في عالم المجردات، فانّه سبحانه خلق لكلّ شيء سبباً وجعل لها قدراً وقضاءً.

الثاني: انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية لا يلازم الجبر وسلب المسوَولية عن الاِنسان على وجه يكون كالريشة في مهبِّ الرياح، بل له وجود بإيجاد اللّه سبحانه وقدره وإرادته و بأمر منه سبحانه.

* الشبهة الثانية: علمه سبحانه و إرادته السابقة

قد وقع تعلَّق علمه سبحانه بكلّما وقع ويقع، ذريعة للقول بالجبر،
——————————————————————————–

( 51 )
وبالتالي لنفي عدله سبحانه، وإليك بيان الشبهة:

إنّ ما علم اللّه سبحانه تحقّقه من أفعال العباد، فهو واجب الصدور، وما عَلِمَ عدمَه فهو ممتنع الصدور منه، وإلاّ انقلب علمه جهلاً، وليس فعل العبد خارجاً عن كلا القسمين، فهو إمّا ضروري الوجود، أو ضروري العدم،ومعه لا مفهوم للاختيار، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله أو تركه، مع أنّ الاَوّل لا يجوز تركه، والثاني لا يجوز فعله.

وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول، وقال: ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام: وهو أنّه تعالى لا يعلم الاَشياء قبل وقوعها.(1)

إنّ هذه الشبهة لا تختص بعلمه سبحانه، بل تسري أيضاً في مجال إرادته، فانّ ما في الكون غير خارج عن إرادته، وعند ذلك تتوجه الشبهة التي قررها الشريف الجرجاني(المتوفّى عام 816هـ) بالنحو التالي:

قالوا: ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً، وما أراد عدمه منها، لم يقع قطعاً، فلا قدرة للاِنسان على شيء منهما.(2)

وأظن انّ الرازي قد بالغ في شأن هذه الشبهة، وانّه لو تأمّل فيما حقَّقه الاَعلام حول كيفية تعلّق علمه وإرادته سبحانه بمعلومه ومراده لتجلَّت الحقيقة ناصعة.

وحاصل ما حقَّقه الفطاحل من أعلام الفلسفة والكلام، هو ما يلي:

إنّ علمه الاَزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الاِطلاق، بل
____________

(1)شرح المواقف:8|155.

(2) شرح المواقف:8|156.
——————————————————————————–

( 52 )
تعلّق علمه بصدور كلّفعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الاَزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور، كما تعلّق علمه الاَزلي بصدور الرعشة من المرتعش، عالماً بلا اختيار، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الاِنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. وبالتالي: تعلَّق علمه بوجود الاِنسان وكونه فاعلاً مختاراً، وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يوَكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الاِنسان .

وإن شئت قلت: إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة، ومريدة ومختارة كالاِنسان، فقد تعلق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية، فلو صدر فعل الاِنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور أو بلا اختيار وإرادة، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

يقول العلاّمة الطباطبائي(1321 ـ 1402هـ): إنّ العلم الاَزلي متعلق بكلّشيء على ما هو عليه، فهو متعلق بالاَفعال الاختيارية بما هي اختيارية، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية.

وبعبارة أُخرى: المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختياراً، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق القضاء به، غير اختياري ناقض القضاء نفسه.(1)

هذا هو حال تعلّق علمه سبحانه بالاَشياء والاَفعال، وقد عرفت أنّه لا يستلزم الجبر وبالتالي لا يستلزم خلاف عدله.
____________

(1)تعليقة الاَسفار:6|318.
——————————————————————————–

( 53 )
وبذلك تعلم كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالاَشياء والاَفعال، وانّ القول بسعة إرادته لا تستلزم الجبر شريطة أن نتأمل في متعلّق إرادته، فنقول:

إنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الاِنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة، بل تعلّقت بصدور كلّفعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها. مثلاً تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الاَفعال الاختيارية للاِنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه، المكتنفة به من العلم و الاختيار وسائر الاَُمور النفسانية.

وصفحة الوجود الاِمكاني زاخرة بالاَسباب والمسببات المنتهية إليه سبحانه، فمثل هذه الاِرادة المتعلّقة على صدور فعل الاِنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري، توَكد الاختيار ولا تسلبه منه.

ومع ذلك كله ليس فعل الاِنسان فعلاً خارجاً عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به، كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن، ففعل الاِنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز، فعل اللّه أيضاً بالحقيقة فكلّ حول يفعل به الاِنسان فهو حوله، وكلّ قوة يعمل بها فهي قوته.

إلى هنا تبيّن انّ تعلّق إرادته سبحانه بالاَفعال والاَشياء لا تستلزم الجبر وكون الاِنسان مجبوراً في أعماله.

هذا كلّه حول ما أفاده المحقّقون فلنرجع إلى القرآن بغية استكشاف روَيته حول هذا الموضوع.
——————————————————————————–

( 54 )
فنقول: أمّا سعة إرادته سبحانه للاَشياء والاَفعال وعدم خروج فعل الاِنسان عن حيطة علمه وإرادته فهذا ممّا يثبته القرآن الكريم بوضوح، فمن حاول أن يُخرج فعل الاِنسان من حيطة إرادته فقد خالف البرهان أوّلاً، وخالف نص القرآن ثانياً. إذ كيف يمكن أن يقع في سلطانه مالا يريد؟ و لذلك يقول سبحانه: إنّ الاِنسان لا يشأ شيئاً إلاّ ما شاء اللّه، وانّإيمان كلّنفس بإذنه ومشيئته، وإنّ كلّ فعل خطير وحقير لا يتحقق إلاّ بإذنه.

يقول سبحانه:

(وَ ما تَشاءُونَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ربُّ الْعالَمين) .(1)

(ما كانَلنفسٍ أَنْ تُوَْمِنَ إِلاّبإذْنِ اللّه) .(2)

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّه وَليُخْزِيَ الفاسِقين).(3)

وهذه الآيات الناصعة صريحة في عدم خروج فعل الاِنسان عن مجاري إرادته سبحانه، وقد أكّدت ما نزل به الوحي، الرواياتُ المروية عن النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- أئمّة أهل البيت – عليهم السّلام- .

وبما انّ خروج فعل الاِنسان عن حيطة إرادته ومشيئته يستلزم تحديد إرادته، يقول النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- في رد تلك المزعمة:

«من زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه».(4)
____________

(1)التكوير: 29.

(2)يونس:100.

(3)الحشر: 5.

(4)بحار الاَنوار:5|51، أبواب العدل، الباب1، الحديث 85.
——————————————————————————–

( 55 )
وبما انّ خروج أفعال الاِنسان عن حيطة إرادته يستلزم تحديداً في سلطانه،يقول الاِمام الصادق – عليه السّلام- : وَاللّهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَكُون في سُلْطانِهِ ما لا يُريد.(1)

وقد ورد في الحديث القدسي قوله: «يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد».(2)

يقول الاِمام الباقر – عليه السّلام- : «لا يكون شيء في الاَرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيّة، وإرادة، وقدر، وقضاء، وإذن، وكتاب، وأجل، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة منهنّ فقد كفر».(3)

لا يليق لموحد أن يشك في سعة إرادته وتعلّقه بكلّ ما كان وما هو كائن وما يكون إلاّ أنّ اللازم هو إمعان النظر في متعلّقها، فهل تعلّق بأصل صدور الفعل عن الاِنسان، أو تعلّق بصدوره عنه بقيد الاختيار، والاَوّل لا يفارق الجبر، والثاني نفس الاختيار و العدل، وقد علمت أنّ إرادته كما تتعلّق بأصل صدوره، فهكذا تتعلق بكيفية صدوره من الاختيار، و عند ذلك لا تكون سعة إرادته ذريعة لتوهم الجبر وخلاف العدل.

* إيضاح آيات ثلاث

قد مضى الكلام في سعة إرادته وتعلّقها بكلّ شيء، لكن هناك آيات ربما
____________

(1)بحار الاَنوار: 5|41، أبواب العدل، الباب 1 ، الحديث 64.

(2)توحيد الصدوق: الباب 55، الحديث 6، 10، 13.

(3)بحار الاَنوار: 5|121، باب القضاء والقدر، الحديث 65.
——————————————————————————–

( 56 )
توحي إلى خروج أفعال العباد عن دائرة إرادته وهي:

1. (وَمَا اللّه يُريدُ ظُلْماً لِلْعِباد).(1)

فالظلم الصادر من العباد فعل من أفعالهم، خارج عن حيطة إرادته .

2. (وَلا يرضى لعِبادِهِ الكُفْر…) .(2)

فالكفر من أفعال العباد، فهو ليس مرضياً للّه سبحانه.

3. (وَاللّهُ لا يُحِبُّالفَساد).(3)

لكن إيضاح مفاد الآية الاَُولى يتوقف على التدبّر في الفقرات التي تسبقها، وهي:

(وَقالَ الّذِي آمَنَ يا قَومِ إِنّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الاََحْزاب* مِثلَ دَأبِ قَومِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِباد).(4)

إنّ الاِمعان في الآية يكشف على أنّ المراد من الظلم هو الهلاك والاِبادة، ومعنى الآية انّه سبحانه لا يريد إهلاك عباده و إبادتهم، فإن هلكوا و ابيدوا فانّما هو لاَجل ما اقترفوه من الذنوب، وعلى هذا فالظلم المنفي هو الاِبادة و الاِهلاك بلا سبب الاستحقاق. وأين هذا من خروج أفعال العباد على وجه الاِطلاق من حيطة إرادته؟!

وأمّا الآية الثانية والثالثة فلا صلة لها بالاِرادة التكوينية وإنّما تهدف إلى عدم أمره تشريعاً بالكفر والفساد، فوزان هاتين الآيتين وزان قوله سبحانه: (قُلْ إنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون)(5)، وقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ
____________

(1)غافر:31.

(2)الزمر:7.

(3)البقره: 205.

(4)غافر: 30 ـ 31.

(5)الاَعراف: 28.
——————————————————————————–

( 57 )
يَأْمُرُبِالعَدْلِ وَالاِِحْسان ِو إيتاءِ ذِي القُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحشاءِوَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) .(1)

وعلى ذلك فما يصدر من العباد من الكفر و الفساد فانَّما يصدر بحوله سبحانه و قوَّته وإرادته ومشيئته، لا بمعنى تعلّق مشيئته بكفر العباد وفسادهم في الاَرض، مباشرة بل بكفرهم وفسادهم إذا قاموا بها عن اختيار، و مع ذلك فهو في تشريعه ينهى عباده عن الكفر والفساد.

روى فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه – عليه السّلام- يقول:

«شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض، شاء أن لا يكون شيء إلاّبعلمه وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال له: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر».(2)

ويظهر ذلك ممّا نقله أبو بصير عن الاِمام الصادق – عليه السّلام- ، قال:

قلت لاَبي عبد اللّه – عليه السّلام- : شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال: «نعم».

قلت: فأحبّذلك ورضيه؟ فقال: «لا».

قلت: شاء وأراد، مالم يحبّ ومالم يرض، قال: «هكذا خرج إلينا».(3)

* الشبهة الثالثة: العدل الاِلهي والقضاء والقدر

إنّ البحث في القضاء والقدر رهن توضيح أمرين:

الاَوّل : ما معنى القدر؟
____________

(1)النحل: 90.

(2)توحيد الصدوق: 339، باب المشية والاِرادة، الحديث 9.

(3)بحار الاَنوار:5|121، باب القضاء والقدر، الحديث 66.
——————————————————————————–

( 58 )
الثاني: ما معنى القضاء؟

أمّا القدر بمعنى التقدير والتحديد، فكل ظاهرة طبيعية بل كلُّ موجود إمكاني خلق على تقدير وتحديد خاص، ولا يوجد في عالم الكون شيء غير مقدّر ولا محدّد، وإليه يشير سبحانه بقوله: (اّناكُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَر)(1). وقوله سبحانه:(وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إِلاّ عِنْدنا خَزائِنُهُ وَمانُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍمعََلُوم) .(2)

فالموجودات من النبات إلى الاِنسان محدّدة بالحدّ الذي نعبر عنه بالماهية، وهكذا الحال في الجمادات.

وأمّا القضاء وهو حتمية وجود الشيء بعد تقديره وتحديده،وذلك رهن وجود سببه التام الذي يلازم وجود المسبب على وجه القطع والبت،فقضاوَه سبحانه عبارة عن إضفاء الحتمية على وجود الشيء عند وجود علته التامة، قال سبحانه في مورد السماوات: (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَومَيْنِ وَ أَوحى فِي كُلّ سَماءٍ أَمْرَها) .(3)

ويقول في حقّ الاِنسان : (هُوَ الّذي خَلَقَكُمْ مِن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً)(4) أي حكم حكماًحتمياً بأنّلوجود الشيء مدّة محدّدة لا يتجاوز عنها.

هذا هو معنى القضاء والقدر من غير فرق بين وجود الاِنسان وأفعاله ووجود الجواهر وأعراضها،غير انّالجميع قبل التقدير و القضاء مكتوب في كتاب عند اللّه سبحانه، و قد أشار إليه الكتاب العزيز في بعض الآيات: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الاََرْضِ ولا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّفي كِتابٍ مِنْ قَبلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلكَ على اللّهِ
____________

(1)القمر: 49.

(2)الحجر: 21.

(3)فصّلت: 12.

(4)الاَنعام:2.
——————————————————————————–

( 59 )
يَسيرٍ) .(1)

وفي آية أُخرى: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّهُوَ وَيَعْلَمُ ما فِيالبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍإِلاّيعْلَمُها وَ لا حَبّةٍ في ظُلُماتِ الاََرْضِ وَلا رََطْبٍ وَلا يابِسٍإِلاّفي كتابٍ مُبين) .(2)

وفي آية ثالثة: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَماتَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إِلاّبِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّفي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيرٍ).(3)

إذا وقفت على هذه الاَُمور، فاعلم أنّه ربما يتخذ القضاء والقدر الذي نعبر عنهما بالمصير ذريعة للقول بالجبر، وبالتالي أمراً مخالفاً للعدل بحجّة انّ اللّهَ سبحانه قدّر وجود كلّ شيء (القدر) أوّلاً، و حكم على وجوده وتحقّقه حكماً باتاً(القضاء) ثانياً ، و كتب كلّ ما يوجد في الكون في كتاب قبل وجودها ثالثاً.

وعلى ذلك فلا محيص من الفعل والعمل، وإلاّيلزم خلاف تقديره وقضائه أو خلاف المكتوب في الكتاب المبين.

أقول: إنّ هذه الشبهة لم تزل عالقة بالاَذهان منذ قرون، ولكن تندفع هذه الشبهة من خلال بيان ما للقضاء والقدر من المعاني، فنقول:

إنّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة:

أ: القضاء و القدر: السنن الكونية.

ب: القضاء والقدر: التكوينيّان.
____________

(1)الحديد:22.

(2)الاَنعام: 59.

(3)فاطر: 11.
——————————————————————————–

( 60 )
ج: القضاء والقدر: علمه السابق و مشيئته النافذة.

وإليك البحث في كلّواحد منها:

أ. القضاء والقدر: السننالكونيّة

القضاء والقدر في السنن الكونيَّة عبارة عنالنظامالسائد في العالم و الاِنسان،فاللّه سبحانه قدّر وحتم احراق النار وتبريد الماء إلى غير ذلك من السنن التي كشفها الاِنسان طيلة وجوده على هذه البسيطة، فكلها من مظاهر القضاء والقدر، فكلّ من اعتنى بصحته فالمقدَّر في حقّه هو السلامة، و من كان على خلافه فالمقضي في حقّه هو المرض، وكذا الفارُّ من تحت جدار على وشك الانقضاض ، كتبت له النجاة، و الواقف تحته كتب عليه الموت إلى غير ذلك، فهذه السنن الكونية التي جعلها اللّه دعائم يقوم عليها هذا النظام، وقد وقف على بعضها الاِنسان عبر حياته، وهناك سنن كونية ربما لا يقف عليها الاِنسان إلاّ عن طريق الوحي، قال سبحانه حاكياً عن شيخ الاَنبياء نوح عليه السَّلام :

1. (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهاراً).(1)

فترى أنّ نوحاً – عليه السّلام- يجعل الاستغفار سبباً موَثراً في نزول المطر وكثرة الاَموال وجريان الاَنهار، ووفرة الاَولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه و إقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل و القسط، و ذلك لاَنَّ في ظلّه تنصبّ القُوى في بناء المجتمع
____________

(1)نوح: 10 ـ 12.
——————————————————————————–

( 61 )
على أساس صحيح، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة، وهو رجوع المجتمع عن اللّه و عن الطهارة في القلب والعمل، ينتج خلاف ذلك.

و للمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّ من السُّنَّتين، فالكلّ قضاء اللّه وتقديره.

2. قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالاََرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُون) .(1)

3. قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) .(2)

4. قال سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) .(3)

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

5. وقال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشديد) .(4)

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الاِلهية إيجاباً وسلباً، وتُبيّن النتيجة المترتبة على كلّواحد منهما. والكلّقضاوَه وتقديره، والخيار في سلوكهما للمجتمع.

6. وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) .(5)
____________

(1)الاَعراف:96.

(2)الرعد:11.

(3)الاَنفال: 53.

(4)إبراهيم:7.

(5)الطلاق:2ـ3.
——————————————————————————–

( 62 )
7. وقال سبحانه: (يُثَبِّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخرةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمينَوَيَفْعَلُاللّهُ ما يَشاء) .(1)

فالمجتمع الموَمن باللّه وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبِّته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما أنّ الكافر باللّه سبحانه يُخذله اللّه سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولاَجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية، قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِكُفْراً وَأَحَلُّوا قَومَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئسَ القَرار) .(2)

8. وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاََرضَ يَرثُها عِبادِيَ الصّالِحُون) .(3)

فالصالحون لاَجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

9. وقال سبحانه: (وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاََرْضِكَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الّذي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) .(4)

فالاستخلاف في الاَرض نتيجة الاِيمان باللّه، والعمل الصالح، وإقامة دينه على وجه التمام، ويترتب عليه ـ وراء الاستخلاف ـ ما ذكر في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالاَمن.
____________

(1)إبراهيم:27.

(2)إبراهيم:28ـ 29.

(3)الاَنبياء: 105.

(4)النور:55.
——————————————————————————–

( 63 )
10. وقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرينَ أَمْثالُها) .(1)

والآيات الواردة حول الاَمر بالسير في الاَرض والاعتبار بما جرى على الاَُمم السالفة لاَجل عتوّهم وتكذيبهم رسل اللّه سبحانه، كثيرة في القرآن الكريم تبيَّن سنّته السائدة في الاَُمم جمعاء.

11. وقال سبحانه :(قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِين) .(2)

12. وقال سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرقاناً وَيُكَفِّرْعَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيم) .(3)

13. وقال سبحانه: (ما يُجادِلُ في آياتِ اللّهِ إِلاّ الّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلاد* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَومُ نُوحٍ وَالاََحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالباطِلِلِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصحابُ النّار).(4)

والآية من أثبت الآيات لسنَّته تعالى في الذين كفروا، فلا يصلح للموَمن أن يُغرّه تقلّبهم في البلاد، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والاَحزاب من بعدهم، حتى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.

14. وقال سبحانه:(وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ
____________

(1)محمد:10.

(2)آل عمران:137.

(3)الاَنفال: 29.

(4)غافر:4 ـ 5.
——————————————————————————–

( 64 )
أَهْدى مِنْ إِحْدَى الاَُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّنُفُوراً*اسْتِكْباراً في الاََرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىَِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيىَ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الاَوّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْويلاً) .(1)

هذه نبذة من السنن الاِلهيّة السائدة في الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبر في آيات الكتاب العزيز حتى يقف على المزيد من سننه تعالى وقوانينه، ثمّ يرجع إلى تاريخ الاَُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه: َ ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْويلاً) .

هذا كلّه حول القضاء والقدر بمعنى السنن الكونية، وإليك البحث في المعنى الثاني.

* ب: القضاء والقدر التكوينيّان

قد علمت أنّوجود كلّ شيء رهن تقديره و تحديده أوّلاً، ثمّ وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد، يكون وجوده ضرورياً وعدمه ممتنعاً بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود،ولاَجل ذلك ترى أنّ أئمّة أهل البيت – عليهم السّلام- يفسرون القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء بالاِبرام وإقامة العين.(2)

وعلى ذلك فلا يوجد في صفحة الوجود الاِمكاني إلاّ في ظل هذين الاَمرين، ومن المعلوم انّ التقدير والقضاء بالمعنى السابق لا يتخذ ذريعة إلاّ في مورد فعل الاِنسان حيث يتصور انّ وجوب وجوده ينافي الاختيار وبالتالي ينافي
____________

(1)فاطر:42ـ 43.

(2)الكافي:1|158.
——————————————————————————–

( 65 )
العدل.

لكن الاِجابة عنه واضحة وهي انّ المقتضيّ وجوده من أفعاله على قسمين :

قسم فرض عليه صدوره عنه اضطراراً كالاَعمال التي يقوم بها جهاز الهضم، وهذا النوع من الفعل وإن كان ضروري الوجود خارجاً عن الاختيار، لكنّه ليس ملاكاً للثواب والعقاب.

و قسم منه قضي عليه أن يصدر عنه بالاختيار، فاللّه سبحانه قدّر فعله وقضى عليه بالوجود لكن مسبوقاً باختياره.

وبذلك يصبح القضاء والقدر موَكداً للاختيار لا ذريعة للجبر.

* ج: القضاء والقدر علمه السابق ومشيئته النافذة

القضاء والقدر بهذا المعنى ليس شيئاً إلاّ تعلق علمه سبحانه بأفعال الاِنسان ووقوعها في إطار مشيئته فربمايتخذ علمه السابق ومشيئته النافذة ذريعة للجبر، وبالتالي نفياً للعدل، وبما انّا أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في علمه السابق ومشيئته النافذة فلا نرجع إليه.

شاهد أيضاً

مفاهيم القرآن الكريم

الفصل السادس العدل الاِلهي والمصائب والبلايا المصائب والبلايا في حياة الاِنسان من المسائل الشائكة التي ...