الرئيسية / الاسلام والحياة / تاريخ نظرية ولاية الفقيه – الشيخ مهدي هادوي

تاريخ نظرية ولاية الفقيه – الشيخ مهدي هادوي

ولاية الفقيه، تحليل المفهوم . كلمة الولاية مشتقة من “ولي” وهي تحمل حسب رأي كبار علماء اللغة العرب مفهوماً واحداً لا غير وهو القرب[1].
وذكر لكلمة الولي ثلاثة معانَي: الصديق، والمحب، والناصر. فضلاً عمّا لكلمة الولاية من معنيين آخرين هما[2]: التسلط والتفوق، والقيادة والحكومة[3].
وعندما تستخدم كلمة الولاية بشأن الفقيه يراد منها الحكومة ورئاسة شؤون المجتمع[4].
ومن جانب آخر تستخدم الولاية في المصطلاحات الفقهية في موردين:
الأول: الموارد التي يكون فيها المولىّ عليه غير قادر على إدارة شؤونه؛ كالميت والسفيه والمجنون والصغير.
الثاني: الموارد التي يكون فيها المولّى عليه قادراً على إدارة شؤونه، ولكن توجد أمور أخرى تتطلب إشراف وولاية شخص آخر.
وولاية الفقيه من موارد الاصطلاح الثاني؛ لأن للفقيه إشرافاً وولاية على المجتمع ككل وعلى أفراد ذلك المجتمع وعلى سائر الفقهاء وحتى على شخصه هو. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “لابد لكل قوم من أمير بر أو فاجر”[5]. وهذه حاجة اجتماعية طبيعية؛ فحيثما وجدت جماعة بشرية، تبرز على أثر وجودها وظائف وشؤون جماعية يتطلب تنظيمها وجود الرئاسة. وقد حدد الإسلام لمثل هذا الرئيس شروطاً عديدة أهمها صفة الفقاهة، التي يُعبَّر عنها بولاية الفقيه.
وبناءً على ما ذكر فإن الفقيه هو الشخص الذي يتولّى توجيه حركة المجتمع صوب المُثُل الإسلامية، والولاية تعتبر في حقيقتها تجسيداً للإدارة الدينية.
مكانة ولاية الفقيه في النظام السياسي الإسلامي
لو تم تحليل النظام السياسي الإسلامي وفرز المذهب السياسي فيه لوجدنا أن أحد أسس هذا المذهب هو “ولاية الفقيه” في عصر غيبة الإمام المعصوم. كما أن ثبوت الولاية بمعنى السلطة في عالم التكوين والتشريع لله تعالى، أو ولاية المعصومين ابتداءً من الرسول الكريم (ص) إلى خاتم الأئمة، يعد من جملة أسس المذهب السياسي في الإسلام.
ألقيت مهمة إدارة شؤون المجتمع في الفكر الشيعي على عاتق الفقهاء العدول، وبما أن المطلب المذكور بديهي لاشك فيه، فقد ارتأينا دراسة معطياته بدلاً من الدخول في بحث أصله ومنطلقاته.
يقول الشيخ المفيد (333 أو 338 ـ 413هـ) وهو من أكابر الفقهاء في تاريخ الشيعة في كتابه “المقنعة” في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من بعد بيان مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما يصل إلى أعلى مراتبه، أي عندما يترتب على الأمر أو النهي قتل أو جرح:
“وليس له القتل والجرح إلا بإذن سلطان الزمان المنصوب لتدبير الأنام”، ويقوم أيضاً في موضع آخر من ذلك الباب: “فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام) ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الامكان”[6].
في هذه العبارة الطافحة بالرعب من الحكم الاستبدادي، يشير الشيخ المفيد أولاً إلى أن السلطان منصوب من قبل الله، وهو المرجع الذي يرجع إليه في القرار المتعلق بالجرح أو القتل الناجم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم يتطرق إلى موضوع إقامة الحدود كمصداق بارز لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكرر القول بأن هذه المهمة تقع على عاتق سلطان الإسلام المنصوب من الله، معرفاً بهذه السلسلة على النحو التالي:
1ـ الإمام المعصوم (عليه السلام) الذي ينصّب من قبل الله تعالى مباشرة ولياً للمجتمع الإسلامي ومطبقاً لحدود الله.
2ـ الأمراء والحكام الذي يعينهم الأئمة المعصومون لإدارة شؤون المجتمع الإسلامي، والإمساك بزمام الشؤون السياسية فيه.
3ـ الفقهاء الذي يعينهم الأئمة المعصومون لإدارة شؤون المجتمع وإقامة الحدود.
ويتضح من خلال هذا الشرح إن الشيخ المفيد يؤكد، إضافة إلى مسألة حكومة وولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وهو أمر واضح وبديهي في الفكر الشيعي، على النواب الخاصّين للأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذي عيّنوا على نحو محدد للتصدي للشؤون السياسية للمجتمع، كمالك الأشتر في عهد الإمام علي (عليه السلام)، والنواب الأربعة عصر الغيبة الصغرى لإمام الزمان (عج) ونوّابه العامّين، أي فقهاء الشيعة الذين ذكروا بصفاتهم العامة، للتصدي لهذه الأمور.

 
وينبّه طبعاً إلى أن الفقهاء الشيعة قد لا تتوفر لهم فرصة العمل بهذا الواجب الإلهي، ولهذا يورد قيد “مع الامكان”. ثم يتحدث عن الحالات التي يوجد فيها هذا الاحتمال على نحو أكثر، قائلاً:
“فمن تمكن من إقامتها على ولده وعبده ولم يخف من سلطان الجور ضرراً به على ذلك، فليقمها”[7].
هذا الكلام الذي يحثو الهموم على الإنسان حثواً ينمّ عن مدى مظلومية الفقه الشيعي الرصين في الكثير من مراحل التاريخ، ويعكس مدى وضوح مسألة ولاية الفقيه في فكر أتباع هذا المذهب.
ثم يتحدث الشيخ المفيد بصورة أخرى حول إمكانية تطبيق الحدود الإلهية قائلاً:
“وهذا فرض متعيّن على من نصبه المتغلّب لذلك، على ظاهر خلافته له أو الإمارة من قبله على قوم من رعيته، فيلزمه إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار”[8].
أي إذا عيّن سلاطين الجور فقيهاً في منصب يستطيع من خلاله تطبيق حدود الله ولا يصيبه ضرر منهم، يجب عليه القيام بذلك. ويشير الشيخ المفيد في هذه العبارة إلى أربعة مسائل هي:
1ـ تنفيذ الأحكام الإلهية؛ أي إجراء الأحكام الجزائية التي تدخل ضمن صلاحيات الحاكم الإسلامي.
2ـ إجراء الأحكام؛ ويشمل جميع الأحكام الإلهية والوظائف الشرعية، وعلى أساسها يجب على الفقيه أن يسعى لكي يأخذ الإسلام دوره في كل ميادين الحياة.

 
3ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تعتبر مراتبه العليا من صلاحيات الحاكم الإسلامي. وقد أشار الشيخ المفيد نفسه إلى هذا المعنى.
4ـ جهاد الكفار؛ ويشمل باب الدفاع.
ثم تحدث الشيخ المفيد عن هذا الموضوع مرّة أخرى، لعله يغلق الباب أمام أي عذر غير مقبول فيه، قائلاً:
“وللفقهاء من شيعة آل محمد (عليهم السلام) أن يجتمعوا بإخوانهم في صلاة الجمعة وصلاة الأعياد والاستسقاء والخسوف والكسوف إذا تمكنوا من ذلك وأمنوا فيه من مضرة أهل الفساد، ولهم أن يقضوا بينهم بالحق ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البينات ويفعلوا جميع ما جعل إلى القضاة في الإسلام؛ لأن الأئمة (عليهم السلام) قد فوضوا إليهم ذلك عند تمكنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار وصح به النقل عند أهل المعرفة من الآثار”[9].
أشار الشيخ المفيد هنا إلى مسألتين مهمّتين:
1ـ إقامة الصلوات كالجمعة والعيدين.
2ـ القضاء والحكم.
وهو يعتبر كلا هذين الأمرين من شؤون الفقهاء، ويرى أن الفقهاء منصبين من قبل أهل البيت، ويستدل على رأيه هذا بالروايات؛ فقد اشترطت الروايات المعتبرة وجود الإمام العادل فيما يخص صلاة العيدين تصريحاً[10]، وفيما يخص صلاة الجمعة تلويحاً[11].

 
ومن هنا فإن بعض الفقهاء لم يوجبوا هذه الصلاة في عصر الغيبة انطلاقاً من تفسيرهم لكلمة العادل بالإمام المعصوم، بيد إن الشيخ المفيد اعتبر هذه الصلوات من واجبات فقهاء الشيعة انطلاقاً من اعتباره إياهم كمصداق للإمام العادل. وهذا المعنى ينسجم مع رأيه السابق الذي يعتبر فيه جهاد الكفار من واجب الفقهاء أيضاً؛ لأن هذا الكلام ـ على إطلاقه على الأقل ـ يشمل الجهاد الابتدائي. وقد جاء في الروايات أن الجهاد مشروط بوجود الإمام الواجب الطاعة[12]. بينما ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن مصداق ذلك ينحصر في الإمام المعصوم فقط، ولم يجيزوا الجهاد الابتدائي بأمر الفقيه.
قال الشيخ المفيد في بحث “الانفال” بعد بيان أن الانفال للرسول (ص) ولأوصيائه، وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام):

 
“ليس لأحد أن يعمل في شيء مما عددناه من الانفال إلا بإذن الإمام العادل”[13].
يمكن الاستنتاج من هذه العبارة في ضوء ما جاء في صدورها وما ورد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن الشيخ المفيد كان يضع نصب عينيه ـ كسائر علماء الشيعة ـ فكرة الإمام العادل ويعتبر مصداقه من تكون حكومته مقبولة عند الله؛ أي إما أن نكون منصوصاً عليها من الله مباشرة، وإما معيّنة من قبل المنصوص عليهم[14].
وفي مقابل هذا المفهوم، توجد في الفكر الشيعي معان مثل: إمام الجور، أو سلطان الجور، أو الإمام الظالم، وما شابه ذلك. ويراد به الحاكم الذي لا تنتهي حكومته إلى الله ولم يمضها الشرع، وإطاعته غير واجبة شرعاً.
ويفهم من هذا أن المراد من السلطان العادل وأمثال هذه التعابير ليس الحاكم الذي يحكم في الخارج بالعدل، مثلما أن المراد بالسلطان الجائر ليس السلطان الذي يسوس الناس بالقهر والجور، وإنّما المراد بالأول هو الحاكم المقبولة حكومته شرعاً، والمراد بالثاني الذي لا ترضى حكومته شرعاً.
ولتسليط مزيد من الأضواء على تاريخ مبحث ولاية الفقيه، نلقي في ما يلي نظرة على آراء كبار علماء الشيعة الآخرين[15].

 
الخلفية التاريخية لولاية الفقيه
1ـ المحقق الحلي (المتوفى: 676هـ):
يجب أن يتولّى صرف حصّة الإمام (عليه السلام) إلى الأنصاف الموجودين، من إليه الحكم بحق النيابة كما يتولّى أداء ما يجب على الغائب.
وكتب زين الدين بن علي العاملي المعروف باسم الشهيد الثاني (ش: 966هـ) في إيضاح هذه العبارة ما يلي:
المراد بـ (من إليه الحكم بحق النيابة) الفقيه العدل الامامي الجامع لشرائط الفتوى؛ لأنه نائب الإمام ومنصوبه[16].
2ـ المحقق الكركي (المتوفى: 940 هـ. ش):
اتفق فقهاء الشيعة على أن الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل الأئمة (ع) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل؛ فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع عن أداء الحق إن احتيج إليه، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام (عليه السلام). والأصل في هذا المطلب ما رواه عمر بن حنظلة، وفي معناه أحاديث كثيرة[17].
3ـ المحقق الأردبيلي: (المتوفى: 993 هـ):
كتب في استحباب دفع الزكاة للفقيه:
دليله مثل ما مر أنه أعلم بمواقعه وحصول الأصناف عنده فيعرف الأصل والأولى، وأنه خليفة الإمام؛ فكأن الواصل إليه، واصل إليه عليه السلام[18].

 
واعتبر رضا الهمداني (المتوفى: 1322هـ) إيصال المال إلى الفقيه كإيصاله إلى يد الإمام (عليه السلام)، قائلاً:
إذاً بعد فرض النيابة، يكون الإيصال بمنزلة الإيصال إلى الإمام (عليه السلام)[19].
4ـ الفقيه جواد بن محمد الحسيني العاملي (المتوفى: 1266هـ):
وهو مؤلف كتاب “مفتاح الكرامة”، ولديه إلمام واسع بآراء فقهاء الشيعة، ويرى أن الفقيه نائب عن إمام الزمان (عليه السلام) ومنصوب من قبله:
“الفقيه نائب ومنصوب عن صاحب الأمر (عج)، ويدل عليه العقل والإجماع والأخبار.
أما العقل: فإنه لو لم يأذن يلزم الحرج والضيق واختلال النظام.
وأما الإجماع[20]: فبعد تحققه ـ كما اعترف به ـ يصلح لنا أن ندعي أنه انعقد على أنه نائب عنه (عج)؛ واتفاق أصحابنا حجّة.

 
أما الأخبار: فهي متواترة وذات دلالة صريحة وفيها بلاغ وكفاية؛ منها ما رواه الصدوق[21] في إكمال الدين، أن إمام الزمان (عليه السلام) في جوابه عن أسئلة إسحاق بن يعقوب قال:
“أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله”[22].
5ـ الملا أحمد النراقي (المتوفى: 1245هـ):
للفقيه ولاية على أمرين:
1ـ كل ما كان للنبي والإمام ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية فللفقيه أيضاً ذلك؛ إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.
2ـ كل فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم لابد من الإتيان به ولا مفر منه؛ إما عقلاً أو عادة من جهة توقف أمور المعاد والمعاش لواحد أو جماعة عليه واناطة انتظام أمور الدين والدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي أو ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معيّن، بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور ولا المأذون، فهو وظيفة الفقيه وله التصرّف فيه والإتيان به[23].

 
6ـ المير عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي (المتوفى: 1274هـ):
يقيم الدليل على ولاية الفقيه على النحو التالي:
1ـ الإجماع المحصل[24] من أدلة ولاية الفقيه، وربمّا يتخيل إنه أمر لبّي[25] لا عموم فيه حتى يتمسك به في محل الخلاف. وهو كذلك لو أردنا بالإجماع الإجماع القائم على الحكم الواقعي غير القابل للخلاف والتخصيص. ولو أريد الإجماع على القاعدة ـ بمعنى كون الإجماع على أن كل مقام لا دليل فيه على ولاية غير الحاكم فالحاكم ولي له ـ فلا مانع من التمسّك به في مقام الشك، فيكون كالإجماع على اصالة الطهارة ونحو ذلك. والفرق بين الإجماع على القاعدة والإجماع على الحكم واضح فتدبّر. وهذا الإجماع واضح لمن تتبّع كلمة الأصحاب.
2ـ الإجماع المنقول في كلامهم على كون الحاكم ولياً فيما لا دليل فيه على ولاية غيره. ونقل الإجماع في كلامهم على هذا المعنى لعلّه مستفيض في كلامهم[26].
7ـ الشيخ محمد حسن النجفي، صاحب الجواهر (المتوفى: 1266هـ):
كتب حول عمومية ولاية الفقيه:
يستفاد من ظاهر عمل وفتوى الأصحاب في أبواب الفقه عمومية ولاية الفقيه، بل لعلها من المسلمات والضروريات عندهم[27].

 
عندي أن الله تعالى أوجب علينا طاعة الفقيه بصفته ولياً للأمر، ودليل على ذلك إطلاق أدلة حكومة الفقيه، وخاصة رواية صاحب الأمر (عليه السلام)[28].
نعم من المعلوم اختصاصه في كل ما له في الشرع مدخلية حكماً أو موضوعاً، ودعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية تولّيه كثيراً من الأمور التي لا ترجع للأحكام، فإنهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه، المؤيد بمسيس الحاجة على ذلك أشد من مسيسها في الأحكام الشرعية[29].

 
وكتب عن حدود ولاية الفقيه:
الظاهر من قول الإمام: “إني قد جعلته عليكم حاكماً” في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص، كذلك إلى أهل الأطراف الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامّة في جميع أمور، المنصوب عليهم فيه، بل قوله (عليه السلام): “فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله” أشد ظهوراً في إرادة كونه “حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم”. وفي هذا دلالة واضحة على سعة صلاحيات الفقيه، ومنها تطبيق وإقامة حدود الله.
وعلى كل حال فإن إقامة الحدود في زمن الغيبة واجبة، بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب[30].
يمكن بناء ذلك ـ بل لعله الظاهر ـ على إرادة النصب العام في كل شيء على وجه يكون له ما للإمام (عليه السلام) كما هو مقتضى قوله (عليه السلام) “فإني جعلته حاكماً”؛ أي ولياً متصرفاً في القضاء وغيره من الولايات ونحوها، بل هو مقتضى قول صاحب الزمان: “وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله”[31]. ضرورة كون المراد منه إنهم حجّتي عليكم في جميع ما أنا فيه حجّة الله عليكم إلا ما خرج، وهو لا ينافي الإذن لغيره في الحكم بخصوص ما علمه من الأحكام الخاصة، وليس له هذه الرئاسة العامة، أو يكون من قبيل قاضي التحكيم.

 
وحينئذ فتظهر ثمرة ذلك بناءً على عموم هذه الرئاسة أن للمجتهد نصب مقلّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم وحرامهم، فيكون حكمه حكم مجتهده، وحك مجتهده حكمهم، وحكمهم حكم الله تعالى شأنه، “والراد عليه راد على الله تعالى”[32].
8ـ الشيخ مرتضى الأنصاري:
وهو وإن كان لا يعتقد بالولاية المطلقة للفقيه، إلا أنه يصرّح بأن ولاية الفقيه من مشهور فتاوى فقهاء الشيعة، قائلاً:
.. كما اعترف به جمال المحققين في باب الخمس بعد الاعتراف بأنّ المعروف بين الأصحاب كون الفقهاء نواب الإمام[33].

 
9ـ الشيخ رضا الهمداني (المتوفى: 1322هـ):
يظهر من التدبّر في التوقيع المروي عن إمام العصر (عجل الله تعالى فرجه)، الذي هو عمدة دليل النصب، إنما هو إقامة الفقيه المتمسك برواياتهم مقامه بإرجاع عوام الشيعة إليه في كل ما يكون الإمام مرجعاً فيه، كي لا يبقى شيعته متحّيرين في أزمنة الغيبة[34].
10ـ محمد بحرم العلوم (المتوفى: 1326هـ):
بحث السيد بحر العلوم في: هل ولاية الفقيه دالة على عموم الولاية أو لا؟ وقال في هذا المجال:
“وبالجملة فما علم وجوب الرجوع فيه إليهم وتوقف التصرف على إذنهم أو علم عدمه بدليل، ولو بنحو العموم والإطلاق، فلا كلام فيه. والظاهر من تلك الأدلة وجوب الرجوع إليهم في كل ما يكون من المصالح العامّة الذي يرجع فيه كل قوم إلى رئيسهم ضبطاً للسياسة وإتقاناً للنظام.
هذا؛ وإذا قد عرفت ما ذكرناه مقدمة، وتبصرت فيما عرفناك في ولاية النبي (ص)، والإمام (عليه السلام)، فلنرجع إلى ما هو المهم في هذا المقام من ولاية غير الإمام من أقسام الولايات، فنقول إن الإمام (عليه السلام) يجب أن ينصب نائباً عنه، وهو ليس إلا الفقيه الجامع للشرائط، وهذا ما يمكن فهمه مع بعض الروايات كقوله (عليه السلام):
“أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا”.
هذا إضافة إلى ما يظهر لمن تتبع فتاوى الفقهاء في موارد عديدة في اتفاقهم على وجوب الرجوع إلى الفقيه مع أنه غير منصوص عليه بالخصوص، وليس إلا لاستفادتهم عموم الولاية له بضرورة العقل والنقل، بل استدلوا به عليه، بل حكاية الاجماع عليه فوق حد الاستفاضة[35]. ولاشك فيه ولا شبهة تعتريه”[36].
11ـ البروجردي (المتوفى: 1382هـ):

 
يعتبر ولاية الفقيه في الأمور التي هي موضع ابتلاء الناس أمراً بديهياً وواضحاً لا حاجة لإثباته إلى مقبولة عمر بن حنظلة، قائلاً:
“… وبالجملة كون الفقيه العادل منصوباً لمثل تلك الأمور المهمة التي يبتلى بها العامة مما لا إشكال فيه إجمالاً بعد ما بيّناه، ولا محتاج في إثباته إلى مقبولة ابن حنظلة، غاية الأمر كونها أيضاً من الشواهد”[37].
12ـ الشيخ مرتضى الحائري:
ويعتبر التوقيع الشريف من أدلة ولاية الفقيه قائلاً:
“التوقيع الشريف الصادر عن إمام الزمان (عج) ويعتبر من أدلة ولاية الفقيه، يكفي في ثبوت الإذن للفقيه في إقامة صلاة الجمعة. وقد شرحنا سند هذا التوقيع الشريف في كتاب ابتغاء الفضيلة. وقد أُشكل بالاستدلال بهذه الرواية، والإشكال هو أن السؤال جاء مجملاً. وهذا الإشكال مردود؛ لأن ذيل الرواية مطلق وجاء في مقام تعليل وبيان قاعدة عامة، والإجمال فيه ولا يوجد أي إشكال. وعلى هذا فلو كان موضع السؤال يدور حول بعض الحوادث المستجدة فذلك لا يقلل من عمومية الرواية؛ لأن ذيل الرواية عام ويعمم حكمها. وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أن الفقيه حجة من قبل الإمام؛ ومعنى كونه حجة من قبل الإمام عرفاً، هو أن للفقيه مرجعية وحجية في جميع الحالات التي يرجع فيها إلى الإمام”[38].

 
13ـ الإمام الخميني (ره) (المتوفى: 1410هـ):
يرى الإمام الخميني أن للفقيه ولاية مطلقة؛ بمعنى أن جميع الصلاحيات والمسؤوليات المفوضة إلى الإمام المعصوم، تكون للفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة، إلا ما استثناه الدليل. وهو يقول في هذا المعنى:
“فتحصل ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (عليهم السلام) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطاناً على الأمّة. ولابد في الإخراج عن هذه الكلية في مورد من دلالة دليل دال على اختصاصه بالإمام المعصوم (عليه السلام)، بخلاف ما إذا ورد في الأخبار أن الأمر الكذائي للإمام (عليه السلام) أو يأمر بكذا وأمثال ذلك، فإنّه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول”[39].
14ـ الشيخ حسين علي المنتظري:
ثبت ولاية الفقيه من باب الانتخاب، ويتصور إشكالية ثبوت نصب الولي الفقيه، قائلاً:
“نحن نثبت أولاً ضرورة أصل الحكومة والدولة للمجتمع في الإعصار، وإن الحكومة والإمامة داخلة في نسج الإسلام ونظامه، وذلك بالتتبع في متون الكتاب والسنة القويمة. وثانياً نذكر الشروط والمواصفات المعتبرة في الحاكم الإسلامي بحكم العقل والكتاب والسنة، ثم نلاحظ أن هذه الشروط والمواصفات لا تنطبق إلى على الفقيه العادل الواجد للشرائط. ثم نرد على التصورات الثبوتية لنظرية النصب، لنثبت نظرية الانتخاب”[40].
_____________________
* أستاذ في الحوزة العلمية في قم.
[1] راجع كتاب: مقاييس اللغة، ج6، ص141؛ القاموس المحيط، ص1732؛ المصباح المنير، ج2، ص396؛ الصحاح، ج6، ص2528 ؛ تاج العروس، ج10، ص398.
[2] أنكر بعض الباحثين أن يكون للولاية معنى النصرة والصداقة، وذكروا أنها تعني القيادة أو السلطة فقط. راجع كتاب: المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1 ، ص55.
[3] راجع كتاب: القاموس المحيط، ص1722؛ تاج العروس، ج10، ص398؛ المصباح المنير، ج2، ص396.
[4] راجع كتاب: محمد معين، فرهنك فارسي، ج4، ص5054 و5058.
[5] صبحي الصالح، نهج البلاغة، الخطبة 40، ص82.
[6] راجع كتاب : الشيخ المفيد، المقنعة، ص810.
[7] راجع كتاب: الشيخ المفيد، المقنعة، ص810.
[8] المصدر نفسه.
[9] الشيخ المفيد، المقنعة، ص811.
[10] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج5، ص95 ـ 96 (كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، الباب 2، الحديث1).
[11] المصدر نفسه، ص12 ـ 13 (كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها الباب 5).
[12] راجع كتاب: الحر العاملي، وسائل الشيعة ، ج11، ص32 ـ 35 (كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12).
[13] الشيخ المفيد، المقنعة، ص279.
[14] طبعاً من شروط مثل هذا الحاكم، شرط العدالة.
[15] أخذ الأخ محسن القمي على عاتقه مهمة جمع وترجمة هذه الكلمات.
[16] زين الدين علي العاملي، مسالك الافهام، ص53.
[17] المحقق الكركي، رسائل المحقق الثاني، أبواب صلاة الجمعة، ج1، ص142.
[18] المقدس الاردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان، ج4، ص205.
[19] الحاج رضا الهمداني، مصباح الفقيه، كتاب الخمس، ص160.
[20] الاجماع يعني اتفاق مجتهدي الأمة على مسألة ما بناء على دليل معتبر على نحو يعكس رأي المعصوم (عليه السلام).
[21] سنوضح في البحوث اللاحقة كيفية دلالة هذه الرواية.
[22] الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة، كتاب القضاء، ج10، ص21.
[23] أحمد النراقي، عوائد الإمام، ص187 ـ 188.
[24] الاجماع المحصل هو أن يستقرئ الفقيه ويتتبع أقوال الفقهاء وآراءهم، فيجد أنهم مجمعون على حكم من الأحكام ومتفقون عليه، في مقابل الاجماع المنقول وهو الاجماع الذي ينقل إلى الفقيه من دون أن يفتش ويستقرئ آراء الفقهاء في ذلك الحكم.
[25] الدليل اللبّي هو المأخوذ من العقل والاجماع بدون أن يكون فيه لفظ خاص، وكمثال على ذلك الاجماع والسيرة. أما الآيات والروايات فهي من جملة الأدلة اللفظية.
[26] المير فتاح المراغي، العناوين، ص354.
[27] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج16، ص178.
[28] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9 ـ11.
[29] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج15، ص421 ـ 422.
[30] المصدر السابق، ج21 ، ص395 ـ 397.
[31] راجع كتاب: الحر العاملي، مصدر سابق، ج18، ص101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9 ـ 11.
[32] محمد حسن النجفي، مصدر سابق، ج40، ص18.
[33] الشيخ مرتضى الانصاري، المكاسب، ص155.
[34] رضا الهمداني، مصباح الفقيه، كتاب الخمس، ص160 ـ 161.
[35] الاستفاضة تعني الوفرة، وعندما تكون الرواية منقولة من قبل أشخاص متعددين تسمى بالخبر المستفيض أو الاجماع المنقول المستفيض.
[36] محمد بحر العلوم، بلغة الفقيه، ج3، ص221 و ص232 ـ 234.
[37] كتاب البدر الزاهر، تقريرات درس آية الله البروجردي، ص52.
[38] مرتضى الحائري، صلاة الجمعة، ص144.
[39] روح الله الخميني، كتاب البيع، ج2، ص9 و ص488.
[40] راجع كتاب: حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه، ج1، ص18

شاهد أيضاً

مقاطع مهمه من كلام الامام الخامنئي دامت بركاته تم أختيارها بمناسبة شهر رمضان المبارك .

أذكّر أعزائي المضحين من جرحى الحرب المفروضة الحاضرين في هذا المحفل بهذه النقطة وهي: أن ...