بسم الله الرحمن الرحيم
واحدة من المسائل المطروحة (في فلسفة الأخلاق): ما هو معيار الفعل الخلقي؟ فبأي معيار يمكننا قياس أفعالنا من وجهة نظر خلقية، فنعتقد بأن هذا الفعل خلقي وهذا الفعل طبيعي؟ وبتعبير آخر: ما هو الفرق بين الفعل الخلقي والفعل الطبيعي؟ لاشك في أن هناك سلسلة من الأفعال التي نأتي بها هي طبيعية، ولا يعتقد بأنها خلقية، كجلوسنا على الخوان وتناولنا الطعام، في هذه الصورة لا أحد يقول: إننا نمارس فعلاً خلقياً ولكن هناك بعض الأفعال تعتبر أفعالاً خلقية، كالإيثار، فعندما يكون الشخص بحاجة إلى شيء ويشعر بأن هناك شخصاً آخر بحاجة إليه أيضاً فإنه يقوم بتقديمه على نفسه، هنا يقال: إنه قد أتى بفعل خلقي، وقبل أن نذكر معيار الفعل الخلقي، ينبغي توضيح كلمتين من ناحية المفهوم.
فرق التربية عن الأخلاق
هناك فرق بين التربية والأخلاق، مع أن الأخلاق نفسها نوع من التربية، وهي بمعنى اكتساب خلق وحالة وعادة، فما هو الفرق بين التربية والأخلاق؟ إن التربية ـ كما قلنا سابقاً ـ تشير إلى مفهوم التنمية والبناء فقط ومن وجهة نظر التربية لا يوجد فرق في كيفية التربية، ولأجل أي هدف هي، أي أنه في مفهوم التربية لم تقحم القداسة كي نقول: إن (التربية) معناها تنمية الشخص بنحو يتمكن معه من الحصول على خصائص ترفعه عن مستوى الحيوان، بل إن التربية الروحية تربية أيضاً، وهذه الكلمة تطلق على الحيوانات أيضاً، فبالإمكان تربية كلب أعم من أن يربى ليكون سلوكه جيداً مع صاحبه، وليكون حارساً للماشية من خطر الذئب، أو لحراسة البيت، فكل هذه الأمور تربية، إن هذه الجيوش التي تشكلها أغلب الدول الاستعمارية من الجناة الذين يدربون على الإجرام، بنحو لا يتورعون معه من ارتكاب أية جريمة ويمتثلون كل أمر من دون أن يفكروا فيه، إن هذا العمل تربية أيضاً، وأما في مفهوم الأخلاق فقد لوحظت القداسة، ولذا لا تستخدم كلمة الأخلاق في الحيوانات، فمثلاً لو أنهم قاموا بتربية حصان فلا يقال لهم: أنهم علموه الأخلاق.
إن الأخلاق مختصة بالإنسان ويكمن فيها نوع من القداسة، ولذا لو أردنا أن نتكلم حسب المصطلح علينا أن نقول: إن فن الأخلاق وفن التربية ليسا متحدين، بل توجد اثنينية بينهما، فإن فن التربية يطلق حينما يكون المراد مطلق التنمية بأية صورة كانت، وهذا يكون تابعاً للهدف من تنميته، وأما علم الأخلاق أو فن الأخلاق فلا يكون تابعاً لأغراضنا حتى نقول: إن الأخلاق هي أخلاق كيفما انقضت التنمية والإنشاء، كلا فإن هناك لوناً من القداسة في مفهوم الأخلاق (فعلينا أن نجد الملاك والمعيار لهذه القداسة)، لذا نقول: إن الفعل الخلقي يكون مقابلاً للفعل الطبيعي، وينبغي توضيح هذه النقطة وهي: إننا عندما نقول: “مقابل للفعل الطبيعي يمكن تفسير ذلك بنحوين، الأول: أن نقول: إن الفعل الخلقي هو الفعل المضاد للطبيعي، وإننا نسمي كل فعل يكون مضاداً لمقتضى الطبيعة فعلاً خلقياً وليس المقصود هو هذا، فإن المرتاض يؤذي نفسه ويعمل خلاف ما يقتضه طبعه، ولكننا لا نقول: بما أنه يأتي الفعل المضاد لما يقتضيه طبعه، إذن يكون عمله خلقياً، فهذا لا يمكن أن يكون معياراً، ولا يتفوه أحد بمثله، إن ما نقوله: من أنه (غير طبيعي) لا نقصد به المضاد للطبيعة.
النظريات في باب مقياس الفعل الخلقي
أ ـ حب الآخرين
الآن ما هو معيار الفعل الخلقي؟ قال بعض: إن المعيار والملاك في الفعل الخلقي أن يكون مبنياً على حب الغير لا على أساس حب الذات، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون فعله الإرادي كالتكلم أو المشي بلا هدف، ولكن في بعض الأحيان يكون مراد الإنسان من الفعل الذي يأتي به هو تحصيل المنفعة لنفسه، أو دفع الضرر عنها، وهذا الشيء لا نسميه فعلاً خلقياً، لأن كل كائن حي بحكم طبيعته يتجه غريزياً نحو ما يؤمن منافعه وما يدفع عنه الضرر، ولكن ما أن يخرج فعل الإنسان عن نطاق (الأنا) يتحلى بحب الغير لأجل جلب المنافع لهم، أو دفع الضرر عنهم فإنه يكون فعلاً خلقياً، فإذن طبقاً لهذه النظرية يكون كل عمل يقع في دائرة (الأنا) فعلاً غير خلقي، وكل فعل في دائرة حب الآخرين يكون فعلاً خلقياً.
ان هذا ليس بيانا تاماً، إذ إنه من الممكن أن يكون حب الخير للآخرين في بعض الموارد غريزياً وطبيعياً، خاضعاً لحكم الطبيعة وأمرها، وهذا لا يمكن أن يتصف بالعنوان الخلقي، كحب الأم (أعم من الإنسان وغيره) لولدها، فإن كل حيوان يحب ابنه بحكم الغريزة، فهل يمكننا تسمية حب الأم لأبنها الذي ينشأ من تأثير الطبيعة فعلاً خلقياً؟ أم أنه فعل طبيعي؟ إن الأم بلحاظ الغريزة تكون في منتهى الحب لابنها، وبحكم هذا الحب الطبيعي تحقق ما ينفع وليدها وتُؤْثرهُ حتى على نفسها، ولذا لا يختص حنان الأم بالإنسان، بل هو موجود في الحيوانات أيضاً.
الإيثار
من الممكن أن نعبر عن هذه النظرية بهذا التعبير: “إن معيار الفعل الخلقي هو الإيثار”، ولكن ينبغي لنا أن نرى ما هو الباعث على الإيثار؟ فأحياناً يؤثر الإنسان غيره على نفسه لأجل حب الشهرة والسمعة، أو لأجل التعصب القومي والعشائري، وغير ذلك، وكثيراً ما حدث أن يقع الأفراد تحت تأثير العواطف الوطنية الخاصة أو غير الوطنية أو حب الذات، أو لأجل أن يخلد اسمه في التاريخ فيضحون بأنفسهم، وما هم إلا أنانيون كبار، فإذن لا يمكن جعل مجرد الإيثار معياراً للفعل الخلقي، بل المعيار ما قلناه سابقاً من: “أن كل فعل يكون الباعث إليه حب الآخرين. لا حب الذات والأنا هو فعل خلقي”. ولكن هذا أيضاً ليس كافياً.
ب ـ الحسن والقبح الذاتي للأفعال
قال القدماء: إن الأفعال الخلقية هي الأفعال التي يكون الحسن ذاتياً لها وفي قبالها الأفعال غير الخلقية وهي ما يكون القبح فيها ذاتياً، وكانوا يعتقدون أن عقل الإنسان يدرك الحسن الذاتي للأفعال الخلقية والقبح الذاتي للأفعال غير الخلقية، فكانوا يقولون مثلاً: إن العقل لدى كل شخص يدرك أن الصدق حسن في ذاته وجميل، وأن الكذب قبيح بذاته[1] وكانوا يعتقدون بأنه من الممكن أن يكون الحاكم على وجود الإنسان هو القوى الحيوانية، كالشهوة، ومن الممكن أن يكون هو العقل، إن الذي يتبعون شهواتهم كالذين يكون همهم بطونهم يكون الحاكم على وجودهم هو الشهوة، وبعض الناس يكون الحاكم على وجودهم الغضب أو الشك، والأعمال الشيطانية والماكرة، وبعض يكون الحاكم عليهم هو العقل، إن هؤلاء كانوا يرون أن العقل يدرك الحسن والقبح الذاتيين للأشياء، فقالوا: إن الفعل الخلقي هو ما يصدر بحكم العقل، والأخلاقيون هم الذين يكون العقل حاكماً على وجودهم لا الشهوة والغضب (بل إن هذه بمنزلة الرعية للعقل، أي يأخذ التوجيهات منه) وإن شهواتهم تعمل وفقاً لضوابط يمليها عقلهم، فلو قال العقل: ينبغي هنا أعمال الشهوة الفلانية تراهم يعملونها، وإلا فلا، ويقولون: إذا كان الحاكم على وجود الإنسان هو قوة الشهوة أو الغضب أو سوء الظن، كان فعله غير خلقي، وحسب تعبيرهم (حيواني)، إنهم لم يعبروا بالخلقي والطبيعي، بل كانوا يعبرون عنه بالإنساني والحيواني.
طبعاً هذا الكلام لا يمكن اثباته بنحو تام، ـ وإن كانت أخلاق سقراط مبنية على هذا الأساس، وخاصة مسألة الحسن والقبح الذاتيين للأفعال، فإن الحكماء، يولونها كثير اهتمام، وعلى كل حال فهذه نظرية ترى أن معيار الفعل الخلق هو كونه عقلائياً ونابعاً من مبدأ العقل لا من مبدأ الشهوة والغضب وسوء الظن.
ج ـ إلهام الوجدان
هناك نظرية أخرى لـ(كانت)، يرى فيها أن الفعل الخلقي هو ما كان مطلقاً، أي يقدم عليه الإنسان لا لأجل غرض معين، بل فقط، لأجل ذات العمل، وبحكم التكليف الذي يعتقد بأنه نابع من الوجدان، فإن وجدان الإنسان يملي عليه سلسلة من التكاليف وان كل فعل يفعله الإنسان لا لغرض بل لصرف كونه تكليفاً، يكون فعلاً خلقياً، إن حال الإنسان هنا تماماً كحال فرد يكون مستعداً لتنفيذ الأوامر التي يمليها عليه آخر غير ملتفت إلى نوعية ما يأمره به، إنه يعتقد أن كل فعل يكون منشؤه إلهام الوجدان هو فعل خلقي، وكل فعل يتدخل فيه شيء آخر ـ شرط أو قيد أو خصوصية تجعله مشروطاً ـ فهذا لا يمكن عده خلقياً.
د ـ حب الآخرين الاكتسابي
ثمة نظرية أخرى قريبة من النظرية الأولى تقول: إن معيار الفعل الخلقي هو (حب الآخرين) ولكن على شرط أن يكون الحب مكتسباً لا طبيعياً، فعلى هذا يكون لدينا نوعان من حب الآخرين:
1 ـ حب الآخرين الطبيعي، مثل: حب الأم والعصبيات القبلية والعائلية.
2 ـ حب الآخرين المكتسب: أي أن الإنسان بحكم طبعه لا تكون لديه هذه الحال إلا أنه يكتسبها، فإن غدا محباً للإنسانية بالنحو الذي تحب به الأم وليدها، فإن هذه الحال تكون مكتسبة وكمالاً ثانوياً.
هـ ـ
وهناك نظرية أخرى ترجع الأخلاق أساساً إلى الأخلاق الدينية، وتقول: إن هذه النظريات كلها فلسفية وعلمية، فالذين تفوهوا بها أرادوا أن يضعوا معياراً للأخلاق بمعزل عن الإيمان الديني، إن الفعل الخلقي هو ذلك الفعل الذي يكون الهدف منه رضا الحق، طبعاً في هذه النظرية تنتفي أيضاً مسألة (الأنا)، فليس الهدف هو إيصال النفع إلى النفس أو دفع الضرر عنها، ولكن ليس الهدف النهائي ايصال النفع إلى الآخرين أيضاً، بل هو رضا الحق، فيكون الدافع لتحقيق مصلحة الغير هو هذا الهدف (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) [2] .
يمكن القول: إنه يوجد في جميع هذه النظريات مطلب تتفق عليه جميعها وهو: إن الأخلاق بالنتيجة خروج عن نطاق (الأنا) الفردية، أي من المسلم به أن كل فعل هدفه إيصال النفع إلى النفس أو دفع الضرر عنها لا يكون خلقياً، وإنما البحث عن الأفعال التي يكون الهدف منها إيصال النفع إلى الآخرين، ومع ذلك يقال: إنها غير خلقية.
مناقشة نظرية (كانت)
نبحث الآن في نظرية (كانت) بشكل مختصر، قيل: إن (كانت) يرى أن الفعل الخلقي هو الفعل الذي يكون منزهاً ومجرداً عن كل قيد أو شرط أو غرض، ولا يوجد أي دافع له سوى الجنبة التكليفية الموجودة فيه، ويقدم عليه الإنسان بحكم الوظيفة فقط، ولكن يطرح هنا سؤال وهو: هل يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً لا يتوخى منه منفعة لنفسه؟ يقول بعض: إن هذا الأمر غير ممكن، وهو ضرب من المحال أن يقدم الإنسان على شيء لا يعود عليه بالنفع، فالإنسان لا يمكن ان يتحرك نحو جهة لا يكون فهيا كماله ولو كمالاً نسبياً. وان ذهاب الإنسان إلى جهة لا يكون له فيها أية جنبة كمالية شيء مستحيل، فما يقال إذن من أن الفعل الخلقي هو الذي ليس فيه أي هدف للنفس أو أي نفع لها ليس صحيحاً، وينبغي أن يجاب بأنه توجد هنا مغالطة ولا بد لنا من رفعها، فإننا تارة نقول: إن هدف الإنسان في كل فعل يقدم عليه هو النفع الذي يحققه من ذلك الفعل، إذا قلنا ذلك، فيمكننا الجواب: كلا فمن الممكن أن يقدم الإنسان على عمل لا يصل نفعه إليه ويكون هدفه منه إيصال النفع إلى الآخرين فقط.
من الممكن أن يقال: إنني عندما أفعل شيئاً أما أن أستمتع به أولاً، وإذا لم استطع إتمام ذلك العمل إما أن انزعج أولاً، فإن لم استمتع بفعله أولاً أتألم لعدم اتمامه، فمن المستحيل أن أسعى إليه، إنّ علي بن أبي طالب أيضاً وان كان في نهاية الاخلاص في إيصاله النفع إلى الآخرين، هل كان في أعماق ذاته يلتذ بهذا العمل أم لا؟ إن لم يكن يلتذ ولا يتأثر لتركه لكان من المستحيل أن يقدم عليه.
إن المغالطة هنا تكمن في أن اللذة والألم غير منحصرة بوصول النفع للفاعل أو ابعاد الضرر عنه، فإن الإنسان كائن يلتذ بإيصال النفع إلى الآخرين أيضاً، ويمكنه أن يصل إلى مرتبة يلتذ فيها بإيصال النفع إلى الآخرين أكثر من إيصال النفع إلى نفسه، ويلتذ بدفع الضرر عن الآخرين أكثر من دفعه عن نفسه، فإذن ينبغي التفريق بين هذين الأمرين، إن أغلب الماديين يقولون: إن أي فعل يقدم عليه الإنسان هو من أجل إيصال النفع إلى النفس، كلا فإن بوسع الإنسان ان يصل إلى درجة يعمل فيها على إيصال النفع إلى الآخرين، وأما لو قلتم: إن الإنسان بحسب النتيجة يلتذ بالعمل الذي يقدم عليه، نقول: إن هذا صحيح، ولكن استمتاع الإنسان بفعله ليس منحصراً في نشوته من إيصال المنفعة للذات، إن عين الكمال ان يلتذ الإنسان بايصال النفع إلى الآخرين، ويشعر بسعادة وراحة بال.
وان ما يقوله (كانت) من أن فعل الإنسان ينبغي أن لا يكون مشروطاً حتى يكون خلقياً، إن كان مراده من غير المشروط هو أن لا يصل إليه نفع، لكان بالإمكان القبول به، أما لو كان مراده أن يكون خالياً أيضاً من إيصال النفع إلى الآخرين، وأن يقدم الإنسان على امتثال التكاليف دون أن يلتذ به، فإن هذا الشيء يكون محالاً.
وهذا في الواقع توضيح لجوانب تلك النظرية القائلة: (إن المعيار الخلقي هو إيصال النفع إلى الآخرين) والآخرى التي تنكر ذلك وتعتبره أمراً مستحيلاً، وكذلك جوانب النظرية القائلة: (يمكن أن يكون فعل الإنسان مطلقاً) إذ إننا نقول: إن فعل الإنسان يمكن أن يكون مطلقاً من جهة، ولا يمكن أن يكون كذلك من جهة أخرى، فإنه يكون مطلقاً من جهة تحرره من قيد طلب النفع الشخصي ولا يمكن أن يكون مطلقاً ومتحرراً من حيث إرادة المنفعة إلى الآخرين التذاذ الإنسان بذلك.
من هنا يمكننا أن ندرك مسألة الوجدان الإنساني أيضاً وأن نفهم معناها، يرى البعض أن الإنسان له وجدان نظري خلقي، والبعض الآخر لا يرى هذا ويقول: إن الإنسان خلق ليطلب المنفعة لنفسه.
إن الوجدان الخلقي ليس صحيحاً بالمعنى الذي يراه (كانت)، وإن لم يكن مستحيلاً بالمعنى الذي ذكرناه، وأفضل شاهد على ذلك هو وقوع الأفعال الخلقية التي يكون المراد بها إيصال النفع إلى الآخرين، واستمتاع الشخص بفعله أيضاً وفرحه بتحقيق هدفه.
——————————————————————————–
[1] هذا الأمر مرتبط بالبحث العقلي.
[2] سورة الدهر، الآية: 9.