لم تشهد الساحتين الإقليمية والدولية، في آن واحد، إحتداماً عسكرياً كما هو الحال اليوم في ظل إصرار كل طرف من الأطراف المتنازعة على تمرير مشروعه في “الازمة السورية”، وبالتالي تثبيت رؤيته لـ”سوريا الجديدة”، لو تمّت.
النزال السوري الذي بدأ من مدينة حلب حيث حقّق الجيش السوري وحلفاؤه إنتصارت ميدانية لمست الحدود مع تركيا في ظل غطاء جوّي روسي سهّل من تقدّم القوات البرية، وقطع الطريق على تركيا في تكرار السيناريو السابق بالإلتفاف على القوات المتقدّمة نحو البلدات الحلبية.
المحاور غير قابلة للتشكيك فأمريكا، الناتو، تركيا والسعودية في جهة، وسوريا، حزب الله، إيران وروسيا في الجهة المقابلة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيفعل المحور الأول وتحديداً تركيا والسعودية ازاء سير عمليات الجيش السوري في حلب؟ وكيف سيرد المحور الآخر في حال حصول أي تدخّل بري؟
كمقدّمة أولى، يجب فهم الأسباب الدافعة لهذا التدخّل البري، لمعرفة قرار هذه الدول ومتغيراتها العسكرية في ذلك، إلا أن الثابت الوحيد يتمثّل في إصرار كل طرف على تمرير مشروعه وعدم التراجع أو الإستسلام أمام المحور الآخر حتى لو تطلّب الأمر تخطي “قواعد الإشتباك” السابقة والدخول في صدام علني ومباشر، على العكس مما يحصل اليوم عبر ضرب الجماعات “التابعة”. المقدّمة الثانية التي لا تقلّ أهمية عن نظيرتها الأولى تتعلّق بـ”كبش الفداء” أي أنه بعد 5 سنوات من المواجهة لا بد أن يكون هناك “كبش فداء” لتسوية الأزمة التي ستكون على حسابه بالكامل. المقدّمة الأخيرة أن الحديث عن التدخّل البري يأتي في ظل إنتصار الجيش السوري على الجماعات المسلحة في شمال سوريا، ما يعزّز واقع إرتباطها بأنقرة والرياض وواشنطن، فلماذا طيلة السنوات الماضية، في ظل توسّع الجماعات الإرهابية، لم يتمّ الحديث عن تدخّل بري سعودي أو تركي؟
أمريكياً، تسعى واشنطن لجملة من الأهداف فيما يتعلّق بالتدخّل المباشر في سوريا. أهداف تبدأ بمشروع التقسيم المعدّ للمنطقة وتمرّ عبر ضرب محور المقاومة في “كبده” السوري لتصل إلى تقويض دور روسيا في المنطقة ودفعها إلى الخطوط الروسيّة السابقة. كذلك، لا تتوانى أمريكا عن ضرب المحاور ببعضها بغية إستنزاف روسيا كما هو الحال اليوم مع سوريا.
وأما أنقرة، فلا يخفي الرئيس التركي مشروعه الإستعماري في المنطقة سواءً في سوريا أو في منطقة الخليج الفارسي (قطر) حيث القاعدة العسكرية التركية، إلا أن أنقرة وبعد الإصطدام المباشر مع روسيا إثر إسقاط طائرة الأخيرة تدرك مدى خطورة التدخّل الذي سيؤدي إلى “حرب عالمية”, وفق رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف. ولكن هذا لا يعني سكوت أنقرة عن ما تراه تهديداً لأمنها القومي المتمثّل بـ”الخطر الكردي”، ولعل هذا ما دفع بالجيش التركي لقصف مواقع الأكراد رغم الإعتراض الدولي.
السعودية، يصعب التكهّن بخطوتها اللاحقة لأن قوام سياستها “الهمجية”، وجل ما تطلبه اليوم هو تحقيق أي من أهدافها في سوريا، لأنه في حال فشلت في سوريا كما تفشل حالياً في اليمن، ستكون “كبش الفداء” الذي يحترق بنيزان روسيا وأمريكا في آن واحد.
هل يحصل التدخّل البري؟
تتضارب الأنباء اليوم حول التدخّل العسكري، ففي حين تؤكد السعودية نيّتها الدخول بريّا في سوريا، رغم أنها تربط ذلك بالتحالف الدولي، إلا أن أنقرة أكّدت قبل أيام على لسان وزير دفاعها عصمت يلمظ أنها لا تفكر في إرسال قوات إلى سوريا، نافيةً بعض التقارير التي تحدّثت عن دخول قوات عسكرية تركيّة إلى الأراضي السورية.
وأما أمريكا، فرغم أنها تريد تحقيق أهدافها في سوريا، إلا أنها بالتأكيد لن تنجرّ إلى أي “حرب إستنزاف” مباشرة، رغم أنها أرسلت عبر حلف شمال الأطلسي “ناتو” طائرات “أواكس” إلى تركيا مع العلم أنه لا يمكن استخدام هذا النوع من طائرات التجسس والاستطلاع ضد تنظيم “داعش” الإرهابي من حيث المبدأ، الأمر الذ يؤكد أن واشنطن بصدد الرد على روسيا والتصدي لها في سوريا.
اليوم، الازمة أمام حلّين لا ثالث لهما، إما المفاوضات بإعتبار أن هناك العديد من الأصوات تشدّد على أن الحلَّ العسكري في سوريا أثبت خلال السنوات الماضية عدم جدواه، وأن الحلول السلمية هي المثلى، وبالتالي لا بديل عن التسوية السياسية هناك من خلال الأمم المتحدة والمبعوث الدولي، أو تدخّل محدود لا يعدو عن كونه مناوشات عسكرية، بإعتبار أن التدخل البري الواسع سيحقق حرب عالمية ثالثة وهي الحالة التي لا يريدها أي الأطراف.
تركيا، ومن خلفها أوروبا التي ستحاول الحؤول دون التدخّل البري، تسعى لتحقيق أهدافها وضرب أي مخطط كردي إستقلالي في المرحلة المقبلة، وقد لا نكون مخطئين إذا أكدنا أن الملف الكردي بالنسبة لأردوغان، بات يستحوذ على أهمية أكبر من مستقبل الرئيس الأسد. لذلك لن تلجئ للتدخل البري الذي سيولّد موجات كبيرة من اللاجئين الأمر الذي سيزعزع الاستقرار كليا في تركيا ذاتها وفي الاتحاد الأوروبي، وسيصيب ذلك حتى مصالح أمريكا، فضلاً عن كونه يفتح المجال بشكل أكبر أمام الأكراد لبسط سيطرتهم على الأراضي الشمالية في ريف حلب، وهذا أيضاً ما تسعى إليه واشنطن.
ربّما لن تخل المرحلة المقبلة من بعض المناوشات الطفيفة، إلا “قواعد الإشتباك” السابقة تؤكد أن خطوات تركيا والسعودية ستقتصر على إستعراض القوّة، رغم أن همجيّة الاخيرة قد لا ترضى بذلك. هذه المناوشات العسكرية، والتي سيكون جزئها الأكبر في دعم الجماعات الإرهابية، ستكون جزءاً من آلية المفاوضات وترسي قواعد جديدة تجبركلا الطرفين على التنازل عن سقف مطالبهما، والجلوس على مائدة المفاوضات كمقدمة لحل سياسي سيكون الرئيس الأسد أحد أطرافه الأساسيين. الحديث عن أي تدخّل عسكري جاءً متأخراً، إلا أن طرحه يأتي من باب أن تصل متأخراً خيراً من أن لا تصل.
هذه تطلّعات المحور الأول، إلا أنه بالتأكيد لن يبقى المحور الآخر في موقع الدفاع بإعتبار أنه ليس لسوريا ما تخسره، وروسيا لن تتنازل عن أمنها القومي، ما يعني أن النظام السعودي، لاسيّما في حال إستمرار فشله في اليمن, سيكون “كبش الفداء” للأزمة السورية.