جفلتُ حين تعاظم تعاطفي مع الشاعر الفلسطينيّ أشرف فيّاض، الذي عدل القضاء السعوديّ عن إعدامه، واستبدل حكم الإعدام بثماني سنين من السجن و800 جلدة (!)، بعدما قرأت ديوانه “التعليمات.. بالداخل”، الصادر عن “دار الفارابي” في العام 2007. جفلتُ حين اعتقدت في سرّي أنّ الجانب الإنسانيّ احتاج لتدعيمٍ شعريّ كي يكون جديرًا بالتعاطف. ولكن القضيّة ليست على هذه الشاكلة بالضبط، إنها المعرفة الشخصيّة التي تجعل الأشياء أقرب وأكثر حميميةً ومحركًا مباشرًا للمشاعر.
حتّى أكثر نصوصه عاطفيّةً، يصلح أن نتخيّل أنها كُتبت بين جدران الزنزانة. هذا الشاعر الذي تبدو سمات الوحدة في نصوصه واضحة. صوره ومعجمه الشعريّ بهدوء يتأمّلان الأشياء، وكأن ساعات التدريب على الوحدة مرّت في الزنزانة فعلاً. في قصيدة “شكلٌ آخر للقلب”، يتّكئ فيّاض على ترداد أغنية لفنان الجاز الأميركيّ تشيت بيكر “My Funny Valentine”، تحفّز فيه أسئلةً حول شكل قلبه. نتعرف إليه، ذاك الذي لا يشبه شكل قلوب البشر “المثلّثة”، حسب تعبيره، إنه سائلٌ ويوضع في إناءٍ مثقوب. قراءة القصيدة الآن تجعل الصور مفتوحة على التأويل، تجعل من الزنزانة إناءً، كيف سيلملم أشرف قلبه السائل عن أرضيّتها؟ “هل أتيتُ في وقت مناسب؟ / كي أنسكب في إنائك المثقوب لهذا العام؟.. / “My Funny Valentine” طويلٌ جدًا/ ومملٌ جدًا..ووحيدٌ مثلي”.
تبدو الوحدة هنا، وفي قصائد أخرى للشاعر، مزاجًا في فعل الكتابة نفسه، وليس بالضرورة نمطًا روتينيًا في حياته اليوميّة.
لم أبحث بين قصائد فيّاض عن سطر أو صورة قد تكون هي التي أوقعته بين القضبان، إن هذا البحث يشبه البحث عن المنطق في عقليّة القضاء الذي حاكمه. ولكن، في الصورة العامّة، لا يخلو النصّ من تمرّده على ما صنعته البشريّة الحديثة.
هناك نبرة لا تتقصّد ذلك في المقام الأوّل، لكنها تلجأ إليه كأنما هو شبّاك الزنزانة الوحيد، يصبح التمرّد اللغة الأكثر صلاحيّةً لوصف التعب من جنون هذا الكوكب. في قصيدة “متلازمة الوطن الحادّة”، تتبدّى هذه المشهديّة العامّة في توصيفٍ ساخرٍ أسود للحياة “العربيّة” التي تجرّ شعوبها إلى الأسفل، نحو “الأرق” و “الهذيان” و “اللعنة”.
وهي مفردات تتكرر في نصّ طويل نسبيًّا، يتجزأ تحت عناوين كـ “أعراض أوليّة”، “نتائج الفحص”، “العلاج”. إنها حالة وباء عامّة لا يصفها الشاعر بفظاظة بقدر ما تتسلّل ببطء في التفاصيل اليوميّة، وتتربّص بأقلّ لحظات اليوم تعقيدًا.
يعرض النصّ إلى جوانب روتينية من نهار الشاعر / نهار أي شابٍّ عربيّ، وكيف أنّها، ورغم عاديّتها، تأتي مثقلة باللا عاديّة، ورغم ازدحامها بالوجوه والأماكن والتفاصيل، إلا أنها “وحيدة” ومغتربة كصاحبها، تنقّب عن جدوى الأشياء، لكنّها تعرف نتيجة هذا التنقيب. يكوّن الشاعر هذه المشهديّة ضمن سرديّة عالية، تحفظ شعريّة الصورة بحذرٍ طبيعيّ غير متكلّف، فيكتب:
“لا تفرط في النوم ولا في استخدام الهاتف المحمول /
ومارس بعض التمرينات.. على الموت /
تخلّص من كل الصور التي تحملها /
من طفولتك ومراهقتك وفقرك /
وحبيبتك السابقة.. وحكايا جدّتك”،
يتابع: “اكتب اسمك مقلوبًا في المرآة /
كل بيمينك /
واترك ما يليك لمن هو أجدر منك بلقمتك المغموسة بالنفط”.
هناك استطرادٌ في إيقاع الصور الشعريّة، نلحظه في مثل هذه النصوص الطويلة، لكنّه لا يقع في الثرثرة. ثمّة شيء خفيف الظلّ في هذا التمرّد، لا يجعل منه غاضبًا وحارًّا، بل ساخرًا وكأن الشاعر يتفرّج من نافذة عالية على المشهد وعلى نفسه فيه. يتبدّى هذا النفس الشعريّ في مواضع أخرى في الديوان، إنه يحيلني إلى التفكير بتطابقه والمتطلبات الفكريّة والحسيّة للمكان الذي عاش فيه أشرف فيّاض؛ السعوديّة. هو الذي ينهي هذا النص بـ: “فرص الشفاء ضئيلة / اتبع التعليمات المكتوبة على ظهر المرآة / واحفظ صورتك بعيدًا عن متناول يديك”.
صِبيةٌ يتحلّقون عند ضفة دجلة، تتدحرج من بين أيديهم لعبة، لعبة الموت، وتسقط في النهر. في قصيدة لافتة بعنوان “بُحّة في مجرى النهر”، تتحوّل لعبة الصبية إلى لعبة جدّية، إلى موت حقيقيّ لا يتوقف عن الجريان، تمامًا كنهر دجلة.
الصور التي تتابع بعد هذا “السقوط” تبدو مترابطة؛ حول الموت والتماوج بين الشخصيّ والعام كأن يقول الشاعر:
“كيف ستشرب شايك؟ /
فماء النهر قد ابتلع الموت /
وأخذ يلوك الخيبة في رحلته /
نحو البصرة /
تسري الخيبة /
كي تتخذ مقامًا في حلقي”.
لكنّ هذه الصور متقطّعة أيضًا، بما يشبه فلاشات، تتشارك جميعها في بساطتها وفي مضائها في آن. وعند بعض نهايات المقاطع، تشتدّ شعريّة الصورة؛
“النهر الوسخ يعود لكي ينشد /
لكن البحة في صوتي لا تسمح /
أغنية تافهة.. /
صوت النهر المبحوح يستنزف صبري! /
“للنهر بغدادٌ تحميه” /
وللقلب النسيان”.
إن جرف الموت هذا، الذي يحمله دجلة، يجرف أمامه كل التفاصيل الحياتيّة الطبيعية، والتي يصفها فيّاض. إنّ الحكم عليه بالإعدام، وحكم سجنه بعد ذلك، هما أيضًا نتيجة لهذا الجرف الهائل.
عجيبةٌ هي فكرة أن تشبه مصائر الشعراء قصائدهم. الأعجب والذي يدعو إلى الرهبة، هو أن أتخيل أن قصائد الشعراء ترسم لهم أشكال مصائرهم وتزجّ فيها المعنى بكلّ ثقة.
إن الثقل الوجوديّ والنفسيّ الذي تحمله قصائد أشرف فيّاض يتطابق وواقعنا فيصير فوق أيّ بناءٍ استعاريّ، أو تصير الاستعارة هي الواقع بعينه. كذلك الوحدة الدارسة وشديدة الإمعان الواضحة في نفسه الشعريّ، تتبدى في اغتراب الفرد العربيّ عن غرفة نومه، تتبدّى في وحدة فيّاض بين جدران زنزانته، بين جدران قصيدته.
المصدر: صحيفة “السفير” اللبنانية