لماذا “تراجع″ اردوغان عن “تراجعاته” لروسيا حول مسألتي “الاعتذار” و”التعويضات”؟ وما هي العبارة التي “افسدت” مبادرة رئيس وزرائه للتطبيع مع مصر؟ وكيف الخروج من هذه المتاهة؟
كان اليوم الثلاثاء هو يوم “التراجعات” عن “التراجعات” التركية التي اقدم عليها الرئيس رجب طيب اردوغان، وتمثلت في تقديمه اعتذارا خطيا لنظيره الروسي فلاديمير بوتين عن حادث اسقاط الطائرة الروسية العام الماضي قرب الحدود السورية، وتلبية الشقين الآخرين من الشروط الروسية، وهما تقديم تعويضات مالية لاسرة الطيار القتيل، والبدء في الاجراءات القانونية المتعلقة بمحاكمة الطيار الذي اسقط الطائرة.
الدكتور ابراهيم كالين المتحدث باسم الرئيس اردوغان نفى ان يكون “معلمه” قدم اي اعتذار لبوتين، واكتفى فقط، اي الرئيس اردوغان، بالتعبير عن حزنه العميق لذوي الطيار الروسي القتيل، وان الخطاب كان موجها لهم وليس للرئاسة الروسية.
السيد بن علي يلدريم رئيس الوزراء تراجع بدوره عن تصريحات ادلى بها حول عزم بلاده تقديم تعويضات لروسيا عن اسقاط الطائرة وقتل احد طياريها، وقال “من غير الوارد دفع تعويضات، عبرنا لهم فقط عن اسفنا”، ولعل السيد يلدريم تعرض الى “توبيخ” من الرئاسة على تصريح موثق قال فيه يوم امس “عرضنا فكرة اننا مستعدون لدفع تعويضات اذا لزم الامر”.
ولعل النقطة التي يصعب فهمها، ناهيك عن هضمها ما قاله الدكتور كالين، المتحدث الرئاسي، بان اعادة العلاقات مع اسرائيل وروسيا لا تعني تغييرا في السياسة التركية تجاه سورية واوكرانيا والقرم.
لوغاريتمات من الصعب تفكيكها، تعكس ارتباكا و”انا متضخمة”، وجرح غائر في كبرياء الرئاسة التركية، ربما يكون مردها جميعا ان هذه الاعتذارات “المكتوبة” لم تعط ثمارها السريعة المأمولة، خاصة من قبل الجانب الروسي الذي كان متحفظا تجاهها في ردود فعله.
***
الاعتذار ليس عيبا، وكذلك التراجع عن سياسات اثبتت فشلها، واعطت نتائج عكسية خاصة في الملف السوري، وبدأت تنعكس تفتيتا وارهابا وتفجيرات في العمق التركي، ادت الى خسارة تزيد عن عشرين مليار دولار في القطاع السياحي فقط، فلماذا هذه “المكابرة”؟ ولماذا التراجع؟
من ابرز الشروط التي طرحتها حكومة الرئيس اردوغان لاعادة العلاقات مع اسرائيل الى صورتها الطبيعية، الاعتذار، ودفع تعويضات لاهالي شهداء سفينة مرمرة، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وتم التجاوب مع الشرطين الاولين واسقاط الثالث، بمعنى آخر، لماذا تتهرب هذه الحكومة من دفع تعويضات لروسيا عن اسقاط طائرتها وقتل طيارها؟
الشيء نفسه يقال ايضا عن “تناقض” الاقوال حول رسالة الاعتذار التي ارسلها اردوغان الى نظيره الروسي بوتين، وما ورد على لسان المتحدث باسم الرئاسة من ان الرسالة لم تتضمن اعتذارا، وانما تعاطفا واسفا، وانها لم ترسل الى الرئيس بوتين، وانما الى اسرة الطيار.
“مجنون يحكي وعاقل يسمع″، مثلما يقول المثل، فاذا كانت الرسالة ارسلت الى اسرة الطيار القتيل فعلا، فلماذا كانت معنونة الى رئاسة الجمهورية الروسية؟ ومتى يخاطب رئيس دولة اجنبية اسرة من عامة الشعب، ويقول لها “ارتكبنا خطأ اسقاط طائرة ابنكم ولا تؤاخذونا”؟
لا نريد ان نسهب طويلا في الحديث عن هذه التناقضات والارتباك الذي يقف خلفها على اعلى المستويات، لاننا نريد ان ننظر الى ما وراء هذه الاعتذارات وانعكاساتها على المنطقة، وما يجري فيها بعد هذه الخطوة التركية المفاجئة.
نحن مع تقديم هذه الاعتذارات، ونعتبرها خطوة شجاعة يمكن ان تؤدي الى انقاذ تركيا من المخطط نفسه الذي ادى الى تدمير العراق وسورية وليبيا، ووقف اعمال القتل والحروب “العبثية” في المنطقة والتصدي للفتنة الطائفية التي ستجهز عليها وتحولها كلها الى دول فاشلة تسودها الحروب الاهلية، فهي تشكل صحوة يجب ان تستمر وتذهب حتى آخر الشوط، وعدم افسادها ببعض التراجعات التي يمكن ان تفسد مفعولها، بل وتؤدي الى نتائج عكسية انطلاقا من “كبرياء” لا مكان له في السياسية، وفي ظل علاقات دولية معقدة محكومة بقيم الحداثة، وليس قيم القبيلة والعشيرة.
الحكومة التركية يجب ان تقدم تعويضات مجزية لنظيرتها الروسية، وهي التي قبلت للاسف بتعويض متواضع جدا لاهالي ضحايا سفينة مرمرة لا يزيد عن 20 مليون دولار، يتم دفعها بالتقسيط المريح، لان العوائد الاقتصادية والتجارية التي يمكن ان تترتب على المصالحة مع روسيا قد تصل الى مئة مليار دولار سنويا على مدى السنوات الخمس القادمة، وفق نصوص اتفاقات وبروتوكولات، وقعها الرئيس التركي مع نظيره الروسي قبل شهر من “كارثة” اسقاط الطائرة الروسية، في لحظة نزق “شعبوية” وخطأ فادح في الحسابات.
السيد يلدريم رئيس وزراء تركيا رجل “حكيم” يريد ان يتبع سياسات “براغماتية” تساعد في اخراج بلاده من ازماتها، ولكن يبدو، ومثلما لمسنا من تراجعاته، ان رئيسه لا يريده ان يمضي قدما في هذه السياسات، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة، رغم انه لا يملك الصلاحيات الدستورية التي تؤهله لذلك، وربما هذه التدخلات هي التي دفعت الدكتور احمد داوود اوغلو الى الاستقالة من منصبه، والعودة الى التدريس في الجامعة احتراما لنفسه.
ولعل ابرز وجوه هذه السياسة البراغماتية تصريحاته التي ادلى بها اليوم تجاه مصر عندما قال “دعونا ننحي موضوع عزل الرئيس محمد مرسي جانبا، لان الحياة مستمرة، ونحن نعيش في المنطقة نفسها وبحاجة الى انفسنا، ولا مانع من تطوير علاقات اقتصادية مع مصر وعقد لقاءات مع مسؤولي البلدين، وهي رسالة “تصالحية” ناقصة اعطت نتائج عكسية فورية، لان السيد يلدريم دس فيها فقرة (ربما اجبر على دسها) افسدت مضمونها، وضربت على وجع مصري وعصب حساس، ونقصد بها قوله “مع استمرار الموقف التركي الرافض للانقلاب على الرئيس مرسي، اول رئيس مصري منتخب في التاريخ”.
الخارجية المصرية ردت على هذه المبادرة باشتراط ازالة هذه الفقرة، والاعتراف بـ”شرعية” ارادة الشعب المصري ممثلة في ثورة 30 يونيو، وما نجم عنها من تولي مؤسسات شرعية مسؤولية ادارة البلاد”، وهكذا انطبق عليها المثل “جاء يكحلها عماها”.
***
ندرك جيدا صعوبة نزول الرئيس التركي من فوق شجرة الكبرياء الشاهقة التي صعد اليها في السنوات الخمس الماضية، واعتقد مخطئا انه بات على وشك تحقيق احلامه في احياء الامبراطورية العثمانية، ولكن كان يجب عليه ان يفرق بين الكبرياء الشخصي، والمصلحة العليا لاكثر من ثمانين مليون تركي باتوا يعانون من ارتفاع معدلات البطالة والارهاب، وانخفاض مستوى المعيشة، وتراجع معدلات التنمية، وانهيار عملتهم الرسمية، وتكاثر معسكر الاعداء في محيطهم، ووقوف دولتهم على حافة التفكيك والحرب الاهلية، بشقيها الطائفي والعرقي.
الاعتذار يجب ان يكون كاملا وواضحا، وكذلك التعويض، ولا مجال للعبارات “المغمغمة”، اذا ارادت تركيا اردوغان ان تزيد من عدد الاصدقاء وتقلص الاعداء، فاذا عزّمت فتوكل على الله جل وعلا ولا مكان للتردد والترقيع.
نختم بالقول ان هذا “الاعتذار” لروسيا لو جاء مبكرا وسريعا، لما اضطر الرئيس اردوغان الى هذا التطبيع المهين والمكلف جدا له مع اسرائيل، والرضوخ لـ”ابتزاز″ نتنياهو، ولكن ماذا نقول لاناس ضلت بوصلتهم واساءوا التقدير، وهذا موضوع آخر.