تحدّث كثير من الناس، علماء وفقهاء وغيرهم، عن فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وفضائله، ومنهم ابن أبي الحديد المعتزلي، عز الدين أبو حامد ابن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد المدائني (586 – 656 هـ.ق)، الذي كانت له مكانته ودوره في تاريخ التراث الإسلامي. وقد عاش ابن أبي الحديد مع الإمام في نهج البلاغة ردحاً من الزمن، خبر فيه تفاصيل الكلمات العلوية، ووقف بإعجاب معبراً بشتّى عبارات الوصف الجليل والكلام الجميل عن حق الإمام عليه السلام، لذا سوف نقف هنيهة مع كلماته في الإمام عليه السلام.
*النبي أوّل من وصف علياً عليه السلام
يذكر المعتزلي عدداً من الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصف الإمام عليه السلام ولكنه يقدّم لذلك بقوله: “واعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو فخر بنفسه، وبالغ في تعداد مناقبه وفضائله بفصاحته، التي آتاه الله تعالى إياها، واختصّه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافّة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق (صلوات الله عليه) في أمره، ولست أعني بذلك الأخبار العامّة الشائعة التي يحتجّ بها الإمامية على إمامته، كخبر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة، وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك، بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث، التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره”(1).
*فيه اجتمعت الأضداد
كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادة، واجتماعها في شخص واحد موضع تعجّب، منها:
أن الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، وفتك وتمرّد وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقّة ولين، وضعف قلب، وخور طبع، وهاتان حالتان متضادتان قد اجتمعتا له عليه السلام.
والغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة أن يكون ذا كِبر وتيه وتعظّم وتغطرس، خصوصاً إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في مصاف الشرف ومعدنه ومعانيه، لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمه (صلوات الله عليه).
والغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح، ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل(2).
*الكل يفتخر به
ما أقول في رجل أحبَّ كل واحد أن يتكثر به، وودّ كل أحد أن يتجمّل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها: ألّا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنفوا في ذلك كتباً، وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه إليه، وقصروه عليه وسموّه سيد الفتيان(3).
وما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى.
وقد عرفتَ أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم. ومن كلامه عليه السلام اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ(4).
*عليّ فوق الكل
يقول المعتزلي: “واعلم أن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية، ما عرفت إلّا من كلام هذا الرجل، وأن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلاً، ولا كانوا يتصورونه، ولو تصوروه لذكروه. وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله عليه السلام”(5).
وفي موضع آخر يقول: وأما الحكمة والبحث في الأمور الإلهية، فلم يكن من فن أحد من العرب، ولا نقل في جهاد أكابرهم وأصاغرهم شيء من ذلك أصلاً…، وأول من خاض فيه من العرب علي عليه السلام، ولهذا تجد المباحث الدقيقة في التوحيد والعدل، مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه، ولا تجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك، ولا يتصورونه، ولو فهموه لم يفهموه، وأنّى للعرب ذلك! (6)
*علي الواعظ
إني لأطيل التعجّب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دماً فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني، وعتيبة بن الحارث اليربوعي، وعامر بن الطفيل العامري، وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني، ويوحنا المعمدان الإسرائيلي والمسيح ابن مريم الإلهي.
وفي تعليق له على كلام الإمام عليه السلام(7) قال ابن أبي الحديد:
“وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلّا وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة وأثرت في قلبي وجيباً وفي أعضائي رعدةً ولا تأملتها إلّا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي وخيلت في نفسي فقال إني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله، وكم قد قال الواعظون، والخطباء، والفصحاء في هذا المعنى، وكم وقفت على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتاً وإخلاصه كان محضاً خالصاً فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسريان مَوعظته في القلوب أبلغ”(8).
(*) للتوسع في كلام المعتزلي عن الإمام، يراجع كتاب: الإمام علي ورأي آخر، للسيد عباس علي الموسوي، دار الرسول الأكرم، 1997م.
1.شرح نهج البلاغة، المعتزلي، ج9، ص166.
2.م.ن، ج1، ص50.
3.م.ن، ج1، ص28.
4.م.ن، ج1، ص17.
5.م.ن، ج6، ص346.
6.م.ن، ج6، ص371.
7.نهج البلاغة، كلمة (221).
8.شرح نهج البلاغة، ج11، ص154.