شاؤوا” أن تنحصر منافسات الرئاسة المصرية بين اثنين فقط.. الأول هو حمدين صباحي صاحب التاريخ الملون بأطياف وهموم الشعب المصري لا سيما الكادح منه الذي عرفه المصريون وحتى العرب من خلال حواره الشهير مع الرئيس السادات سنة 1977 ورغم أنه لم يتجاوز الثالثة والعشرين في حينها إلا انه أظهر عقلية لفتت الانتباه وهي تحرج السادات باطروحاتها المنتقاة بموضوعية عالية فندت سياسة الرئيس العامة والاقتصادية على وجه التحديد. لم يمض وقت طويل حتى ساهمت هذه المواقف الوطنية الشجاعة في إدخال “صباحي” إلى معتقلات السادات سنة 1979 وكان يومها أصغر المعتقلين السياسيين واستمر في رسم مواقفه النضالية على قامة السنين اللاحقة في عدة أحداث ومواقف لعل أبرزها:
• اشتراكه في تأسيس الحزب الاشتراكي العربي.
• انضمامه إلى مجموعة من الرفاق التي قامت بما يعرف بعمليات “محمد نور الدين” التي كانت تستهدف الوجود الصهيوني في مصر وقد تمت محاكمته وسجنه على أثر ذلك.
• قيادة تظاهرات عدة في مصر بعد أحداث الخليج سنة 1990.
• تأسيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي الناصري سنة 1993 وقد استطاع أن ينال أمرا قضائيا بذلك.
• قيادته لجموع الفلاحين التي خرجت في احتجاجات ضد سياسة النظام سنة 1997وقد تم اعتقاله رغم تمتعه بحصانة دبلوماسية منحته إياها عضويته في مجلس الشعب المصري، وقد امتاز بقوة علاقته مع الفلاحين خصوصا وهو ابن فلاح من محافظة كفر الشيخ.
• قيادته لعد احتجاجات ضد الحرب على العراق سنة 2003.
• أحد مؤسسي حركة ” كفايه” سنة 2004 والتي قادت أول مظاهرة علنية ضد سياسة النظام.
• كان أول من أثار قضية الغاز المصري المصدر ” لإسرائيل ” سنة 2008 وفي نفس العام استطاع كسر الحصار المفروض على غزة ودخل إليها رغم كل التحديات.
• مشاركته في قيادة عدة تظاهرات في كانون الثاني سنة 2012 والتي سبقت وتلت ثورة 25 من الشهر نفسه.
ومع دخوله انتخابات 2012 لم يستطع لأكثر من سبب أن يتأهل لخوض المرحلة الحاسمة، لكن التغيرات السريعة في المجتمع السياسي المصري حملت معها “صباحي” مرة أخرى إلى أجواء المنافسة ولكن هذه المرة وفق معطيات مختلفة وظروف تبدو أكثر موضوعية جعلت منه يبدو أكثر ثباتا بين مؤيديه لا سيما وهو يطرح برنامجه الانتخابي مبكرا وبمحتوى يمكن أن يستوعب كل الفسيفساء المصرية – ربما باستثناء “المباركيين”- ويؤكد نهجه النضالي الثابت في الوقوف إلى جانب الفقراء والمضطهدين وهو يتجول ويلتقي بهم بين الأزقة والعشوائيات – وليس من على المقاعد الفخمة- ويطرح برنامجه السياسي – الاقتصادي بما يؤكد حنكته السياسية وتفوقه في الوقوف بفهم عميق مع معاناة المصريين وقد جاء لقاؤه على قناة (سي بي سي) ليؤكد مشروعه الذي يتضمن تنشيط الاستثمار وتطوير الصناعات المحلية وكيفية حمايتها فضلا عن تركيزه على عملية تنشيط السياحة المصرية ورغم محاولة مقدميّ البرنامج إرباكه – في بعض الأحيان- وتفنيد برنامجه بطريقة تفتقد للحوار المحايد الا أنه أقنع متابعيه بما يراه صحيحا.
أما من ناحية التحالفات والاستقطاب الانتخابي فقد بدا متوازنا وهو يرد على أسئلة تتعلق بهذا الموضوع خصوصا فيما يتعلق بموقفه من الاخوان ورغم محاولة البعض إحراجه إلا أنه واضحا – رغم تشكيك البعض- بأنه مع أية حقوق لا تخرج عن الأعراف القانونية والإنسانية، ولم ينس تأييده لمطالب الشباب السياسية وخصوصا الذين ينضوون تحت حركات ناشطة مثل 6 ابريل وما يتعلق بقرار حظرهم وقانون تقييد التظاهر، من جانب آخر نرى ان “صباحي” هو ابن المؤسسة الحزبية الاشتراكية اليسارية، وقد أكد هذا عندما أسس تجمع التيار الشعبي سنة 2012 ليخوض الانتخابات تحت هذا العنوان وهذا يجعله مقبولا من جميع أو اغلب الحركات والأحزاب اليسارية فضلا عن أصله وانتمائه الفلاحي البسيط الذي سيكسبه دعما مضافا، ورغم كل ذلك يبدو أن له مقبولية حتى في وسط قطاعات الاخوان المعتدلة والتي ترى فيه، في أقل تقدير، المنافس الوحيد لعدوهم اللدود عبد الفتاح السيسي المرشح الثاني الذي لا يبدو أن له أي تاريخ سياسي ولم يكن يعرفه المصريون حتى قام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي – وليس غيره- بترقيته إلى رتبة لواء ومن ثم تعيينه وزيرا للدفاع!! قبل أن ينقلب عليه ويفعل به وبأتباعه ما يفعل.
عموما تخلى السيسي عن بدلته العسكرية قبل أسابيع من الانتخابات ليكون مقبولا شكليا في الأقل للتنافس على أهم وأعلى منصب مصري ولكن هل يكفي هذا لتغيير عقود من الثقافة العسكرية التي قد لا تنسجم ما تتطلبه الرئاسة السياسية – الديمقراطية التي يطمح إليها المصريون؟.
ان التاريخ، والتأريخ العربي خصوصا يخبرنا أن العسكر هم أول من حطم مشاريع النهوض الديمقراطي. ولا شك ان السيسي كان الرئيس الفعلي لمصر منذ عزله للرئيس مرسي وحتى استقالته من منصبه العسكري وخلال هذه الفترة وتحت مسمى تخليص مصر من الاخوان قام بأعمال كثيرة مثيرة للجدل ارتقى بعضها إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية خصوصا عندما يقوم القضاء بإصدار أحكام الإعدام بحق ما يقارب 500 مصري وهذا لم يحدث لمصر حتى في ظل الاحتلال الفرنسي.
السيسي وخلال لقائه في (قناة سي بي سي) لم يكن لديه مشروع سياسي يمكن أن يساعد مصر مستقبلا على التحرر من أزمتها، فهو يؤكد رفضه اجراء أية مصالحة مع جماعة الاخوان التي تشكل نسبة كبيرة من المجتمع المصري لا يمكن تجاهل وجودها وقد جدد اتهامه لهم بالارتباط بجماعات متشددة دينيا متناسيا إن لا أحد في مصر أكثر تشددا من حزب النور السلفي الذي يحظى باحترام ومقبولية السيسي وهذا الحزب الاسلامي رفض الاخوان المسلمين وأعلن دعمه لعلمانية السيسي!! ولكن يبدو أن الارتباط المشترك للطرفين بالمملكة العربية السعودية هو الذي يفسر هذه الأحجية وما لا يعرفه الكثيرون هو إن السيسي كان مسؤول الملحقية العسكرية التابعة للسفارة المصرية في السعودية!، هذا ولم يوضح السيسي موقفه بصراحة من دول كبرى ومؤثرة في المشهد المصري مثل الولايات المتحدة وقد بدا متناقضا وهو يدافع عن حرية التظاهر ونسي أنه هو الذي بطش بأكبر التظاهرات بما فيها السلمية وقد بدا مترددا في بعض الإجابات وكان أحيانا يجنح بإجابته بعيدا عن فكرة السؤال، وعندما تكلم عن برنامجه الاقتصادي ركز على قضية ترشيد الاستهلاك وتلقي المساعدات الخارجية لمصر فضلا عن مشاريع أخرى سبق وأن أثبتت فشلها من قبل! وحتى قضية ترشيد الاستهلاك تذكرنا بما دعا إليه السادات نهاية السبعينيات بما عرفه المصريون “شد الأحزمة على البطون” وموضوع تلقي المساعدات الخارجية يعيد مصر إلى مشكلة التبعية في القرار الاقتصادي والسياسي وما اتضح من هذا يؤكد أنه لا يمتلك رؤية سياسية – اقتصادية تصلح لقيادة بلد كبير مثل مصر وان كل ما يحاول المراهنة عليه هو مواقف ليست لها سوى أن تسيطر على عاطفة شرائح من سكان مصر. ومن حسن حظ السيسي أن مقدميّ البرنامج كانا متساهلين معه ومجاملين أحيانا – عكس ما حدث مع صباحي- وهذا يدل بشكل أو بآخر على ان الرجل لا يزال لديه نفوذ في سياسة الدولة وإلا كيف نفسر استدعاءه لرؤساء الصحف والمجلات في مصر والاجتماع بهم مؤخرا!.
السيسي وخلال فترة حكمه لم يقم بأية خطوة فعلية أو حتى تشريعية تسهم بشكل أو بآخر في التأسيس لمرحلة أو لواقع مصري جديد يقوم على تغيرات تخدم الغالبية الكبرى من المصريين الذين ينشدون العدالة الاجتماعية وبعد هذا جاء ببرنامج سياسي يؤكد أن مصر السيسي ستعيش مرحلة اعادة انتاج المنتج المستَهلك أصلا والذي يصب لصالح طبقة طفيلية تستأثر بالنصيب الأكبر من الناتج القومي. أي إننا سنشهد عودة ما يشابه نظام السادات ومبارك وليس غريبا أن يعود الكثير من فلول النظام السابق إلى
الحكم وستكون هنالك خيبة ظن
كبيرة حتى للذين حملوا صورة الراحل عبد الناصر مع السيسي في ملصق واحد خصوصا وإن الأخير أكد على التزامه بكل الاتفاقيات والعلاقات مع ” إسرائيل ” ولم يثر هذا حفيظة الإعلاميين الذي جن جنونهم حين قال “صباحي” بأنه سيسمح للشيعة بزيارة مراقد آل البيت من أجل أن ينشط السياحة الدينية ويطور مراكز المدينة القديمة!.
أخيرا – ومن وجهة نظر شخصية- أرى في فوز السيسي عودة مصرية خطيرة للوراء تنسف ما تحقق في 25 يناير وحتى ما حصل في 30 يوليو من خلال عودة العقلية العسكرية في لحظة تاريخية يمكن أن تكون الأغنى إذا ما تحررت من فخ الملتفين عليها والذين استطاعوا إلى حد ما الإمساك بخيوط الحاضر باللعب بأدوات عاطفية تتقن التضليل .. وسيكون هنالك تسليم خطير لـ “تقدمية” مصر ووضعها بين أيدي دول عالقة في فلك الرجعية! وسيتأكد تأبيد النظام الكونيالي – البرجوازي الذي أعيى المصريين كثيرا.
في الجانب الآخر يتكفل ماضي حمدين صباحي – البعيد والقريب- وما يدلي به من برامج عقلانية متكاملة بالتأسيس لحاضر ومستقبل يتطلب التفافا جماهيريا ليجسد الانتصار الثوري للشعب المصري.
شاهد أيضاً
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
قال المولى جل وعلا في الآية (١٨٥)من سورة البقرة ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان ...