سلسلة الحياة الطيّبة – المهتدون 04
8 فبراير,2017
الاسلام والحياة
1,745 زيارة
مخاطر طول الأمل
إنّ في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية لأبلغ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله عزّ وجلّ، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، والاستمرار في الحرص ومداومة الانكباب عليها مع كثرة الإعراض عن الآخرة، فإنّ هذا الداء هو داء طول الأمل, والذي يُعدّ كالسراب المبلقع طالما قطع الطريق على أهله، وحال بينهم وبين ما يشتهون، ولذلك يُحذّرنا الله عزّ وجلّ من هذا الداء، فيقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[1].
ويقول تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾[2]، وفي آية أخرى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[3]، وتتحدّث هذه الآية المباركة عن جدال المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وتُبيّن أربعة عوامل لشقاء المنافقين الرابع منها هو: طول الأمل والاغترار بالأماني العريضة. وفي آية أخرى توضح الأثر السلبي للآمال الطويلة على حياة الإنسان. يقول الله تعالى: ﴿الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[4]. فتأمّل إلى أيّة درجة تجعل هذه الآمال الإنسان مشغولاً بنفسه ودنياه وغافلاً عن الله تعالى، وجملة (ذرهم) تهديد لهم، وبيان أنّه لا أمل في هداية هؤلاء، فكيف يتوقّع الهداية من طائفة من الناس هذا حالهم؟!
الفرق بين طول الأمل وعلوّ الهمّة
إنّ طول الأمل هو من الأمور المذمومة بشدّة في الأخلاق الإسلاميّة. فقد روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: “إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل“[5]، فهو عليه السلام يخاف على المسلمين من أمرين:
أوّلهما: الانصياع وراء أهواء النفس ونزواتها. لكنّه من الضروريّ التنويه هنا بأنّه ليس كلّ ما يطلب القلب فهو سيّئ ومحرّم, فقد يميل قلب المرء إلى شيء هو ممّا يوجبه الشرع أيضاً.
أمّا مفهوم الهوى المستعمَل في الأخلاق فهو ذلك الذي يُخالف الشرع والعقل, وهو أن يميل القلب إلى ما تهواه النفس وليس إلى ما يرضى به الله ويُحبّه، وهو أمر غاية في الخطورة.
وثانيهما: طول الأمل. فهو صلى الله عليه وآله وسلم طبيب خبير بأمراض الأُمّة وعللها وعارف بما يُمكن أن يفسد عليها دنياها وعقباها.
لكنّ المهمّ هنا هو أن نعرف: ما هو المقصود بطول الأمل؟
فهل طالب العلوم الدينيّة الذي يطمح في أن يُصبح في المستقبل شخصيّة علميّة مرموقة هو من المبتلين بطول الأمل؟ أم إنّ الشخص الذي دخل مجال التصنيع ويحدوه أمل في أن يصبح يوماً مخترعاً بارزاً وصانعاً لا يُدانيه أحد في صناعته هو الآخر يشكو من صفة الأمل المذموم؟ فلولا تلك الآمال والطموحات لخبت شعلة الحياة وسكن نشاطها ولم يرتق المجتمع سلّم السموّ والتكامل. ولو قنع التلميذ باجتياز المرحلة الابتدائيّة ولم يطمح في أن يصبح أستاذ جامعة، أو عالماً، أو فيلسوفاً، أو مرجعاً في التقليد فإنّه لن يهتمّ بالدرس والمذاكرة.
فالأمل في اللغة هو الرجاء والترقّب، وهو ليس بالأمر السيّئ. فالأمل والرجاء مفهومان متقاربان جدّاً في المعنى، ولولا وجودهما في حياة البشر لما أُنجزت أيّ فعّاليّة أو نشاط.
أمّا مصطلح “الأمل” وفقاً للمفهوم الأخلاقيّ فهو: عبارة عن الأماني العريضة التي تعيق المرء عن العمل بتكاليفه الشرعيّة والقيام بالأعمال القيّمة، وليس تلك الطموحات التي تحضّ المرء على بلوغ الكمال ودرجة القرب من الله عزّ وجلّ, كأن يتمنّى المرء أن يُصبح أثرى أثرياء العالم أو أن يصبح بطلاً رياضيّاً مشهوراً يُشار إليه بالبنان. فأمثال تلك الأماني والآمال تقف حجر عثرة أمام قيام المرء بواجباته الدينيّة وهي لذلك تُصنَّف ضمن لائحة الآمال المذمومة.
أمّا من وجهة نظر الأخلاق والثقافة الإسلاميّة فإنّ الآمال والطموحات التي تبلغ بالمرء درجات الكمال والقرب من الله عزّ وجلّ فهي تندرج في إطار “علوّ الهمّة“، فليس من الأماني السيّئة أن يطمح الإنسان في أن يترقّى في مضمار التقوى والعلم والصناعة والإدارة ليتمكّن من خلال ذلك من إسداء خدمة إلى شعبه وأُمّته، أو أن يحدوه الأمل في أن يملك من الثروة ما يُمكّنه من الإنفاق على جميع فقراء مدينته, هذا بشرط أن يتوفّر طريق معقول للوصول إلى تلك الآمال والطموحات. فإن كنّا نعلم أنّ مقدار 99 بالمائة من هذه الآمال هو غير قابل للتحقّق فلن تكون طموحاتنا إلاّ ضرباً من نسج الخيال، أمّا إذا كان ثمّة سبيل معقول لتحقّقها على أرض الواقع وهدفٌ يرتضيه العقل والشرع من ورائها وأنّ احتمال تحقّقها يصل إلى نسبة خمسين بالمائة على الأقلّ فإنّها حينئذ من الآمال المعقولة التي لا غبار عليها”[6].
[1] سورة الحديد، الآية 16.
[2] سورة النجم، الآيتان 24 و 25.
[3] سورة الحديد، الآية 14.
[4] سورة الحجر، الآيات 1 – 3.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 420.
[6] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 11 آب، 2011م.
2017-02-08