في كل رمضان من كل عام، أواجه الكثير من الأسئلة حول طول مدة الصيام، وعدم التوازن الوقتي في عدد ساعات يوم الصيام حول العالم، بحيث يتعين على الكثير من المسلمين في بعض الأماكن في العالم ان يصوموا حوالي 22 ساعة، وفي المقابل هناك من يصوم أقل من 8 ساعات مثلا.
الصيام الطويل بلا شك مشقة تثقل كاهل الكثيرين، يبرز السؤال عن الحكمة من ارتباط المشقة بالصيام، ولعل هذا السؤال يشكل محورا أساسيا يحكم هواجس كثير من الصائمين، خصوصا أولئك الذين ينخرطون في أعمال جسدية شاقة عند صيامهم رمضان خلال فصل الصيف، حيث يطول النهار.
تعددت الفتاوى والتفسيرات والآراء في تعريف يوم الصيام، وفي السماح للمسلمين في الأماكن التي يطول فيها النهار للإفطار على توقيت مكة المكرمة، وفي ذلك طبعا اعتراف بوطأة الصيام ومشقته على كثير من المسلمين حول الأرض.
بعد هذه المقدمة، قد يكون مفاجئا للكثيرين، الذين يلتزمون بصيام رمضان خصوصا، وانا منهم، بأن رمضان قد أتى ترتيبه في التقويم العربي التقليدي قبل الإسلام في الشهر التاسع، الذي يصادف بداية الخريف من كل عام، واستمر ذلك الترتيب على هذه الصورة بعد مجيء الإسلام، وحتى بعد بداية التأريخ الهجري.
وحري بنا الإشارة هنا، إلى أن التأريخ الهجري لم يأت ليغير من عدة الشهور المتعارف عليها قبل البدء بهذا التأريخ، وانما جاء فقط لتمييزه عن التقويم الميلادي الغربي، بدليل أنه بُدِيء العمل به في مرحلة متأخرة من وفاة الرسول الكريم، في زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب. مع ان هناك تباينا في حقيقة التاريخ الذي أقر العمل به بالتأريخ الهجري، إلا أنه من الثابت ان شهر محرم، وهو الشهر الأول في التقويم العربي القمري، اعتمد بداية للتأريخ الهجري، علما بأن المصادر التاريخية تقول بأن وصول الرسول الى المدينة تم في شهر ربيع الأول.
في ذلك دلالة واضحة على أن هذا التأريخ لم يكن مخالفا في ترتيب اشهره واحصائه عما طبقه الرسول خلال حياته، وواصل العمل به الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق. واكد عليه عمر من خلال التأكيد على شهر محرم كأول شهور التقويم الهجري.
وحيث ان تفاوتا في الآراء برز بين الصحابة حين تشاوروا في أي الشهور يبدأ تقويمهم الجديد، ومنعا لأي مشقة على الناس أو اضرار بمصالحهم، فقد أقروا محرم أول الشهور، كما كان معمولا به قبل الرسول واثناء حياته، حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن محرم كان بداية للسنة ويأتي بعد انتهاء موسم الحج، ما يوحي بأن موسم الحج كان ينتهي في الشهر الثاني عشر «ذي الحجة»، وهذا ما كانت عليه العرب قبل الإسلام.
اعتماد الرسول اثناء حياته على احتساب الشهور كما هي، وتثبيت المسلمين الأوائل للأشهر العربية في تقويمهم يأتي مطابقا للآية 36 من سورة التوبة «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».
ولهذا يمكن الوثوق بأن الرسول والخلفاء الراشدين من بعده اتبعوا هذه الآية وابقوا على التقسيم الوقتي، كما اقره الله منذ خلق السماوات والأرض. وكان لا بد للمسلمين ان يلتزموا بهذا الترتيب بحذافيره حتى يصلح التقويم لبرمجة حياتهم واعمالهم، خصوصا تلك المرتبطة بالمواسم، كرحلتي الشتاء والصيف اللتين تمت الإشارة اليهما في القرآن أيضا (سورة قريش). حيث يبرز التاريخ بأن رحلة الشتاء كانت وجهتها الى مكة، وهي موسم الحج الذي كان يأتي في أشهر ذي القعدة وذو الحجة ومحرم وصفر، ويكون فيها طقس الجزيرة العربية في أفضل احواله المعتدلة لممارسة العبادة والتجارة معا.
ولعل قيام القرآن بذكر رمضان، والتأكيد على إنزال القرآن فيه «شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن» يعطي إشارة مفتاحية مهمة، لا بد من تمحيصها والتفكير بها مليا بأن رمضان كان شهرا معروفا وثابتا في التقويم العربي، وتأكيدا على ذلك، فإننا لا نتصور ان تكون كل الأشهر مقدسة على مدار السنة، لأن رمضان، كما يحسبه المسلمون الان، سيدور حول كل شهور السنة مع تعاقب السنين، فمرة يأتي موافقا للشهر الأول ومرة للشهر الأخير، ومرة في زمهرير الشتاء ومرة في قيظ الصيف، وبالتالي فان كل الشهور ستصبح مقدسة بهذا المعنى، وهو ما لم يقصده القرآن والله اعلم.
ربط نزول القرآن في رمضان تأتي تقديسا لوقت ثابت في شهر ثابت، وهذا ينطبق أيضا على ليلة القدر، التي قدرت وقتيا بتسميتها ليلة، وهو تحديد زمني لها أيضا مرتبط بوقت ثابت بشكل دوري سنوي، ولا يمكن تصور هذه الليلة متقلبة مع تبدل الأيام من عام الى عام، وإلا أنطبق وصف ليلة القدر وقدسيتها على كثير من الليالي مع دوران السنين وتعاقبها بحسب التوقيت القمري الإسلامي الحالي.
وإذا فكرنا مليا بذكر رمضان كشهر وحيد معرَّف باسمه، وعرفنا بشكل قطعي بأنه جزء من اثني عشر شهرا كما قرر القرآن، فان الاعتماد على الأشهر القمرية فقط «كما يفعل المسلمون الان» سيؤدي بمجموعه الى سنة يكون مجموع ايامها حوالي 354 يوما تقريبا، مما يعني اننا بحاجة الى إضافة 11 يوما تقريبا حتى يصل المجموع الى 365 يوما، وهو ما يمثل السنة الشمسية.
ولعله من نافل القول، بان اتباع الأشهر القمرية سيؤدي الى نقصان خطير وجدي في توافق عدد أيام السنة مع فصولها ومواسمها، التي صمم التقويم لضبطها واعادتها الى مسارها كلما حصل تناقض ما بين مجموع أيام السنة، وما تعبر عنه من فصول او مواسم، ما يعطل مصالح الناس ويدخلهم في فوضى حسابية، كما حصل في تحديد شهر رمضان. هنا يأتي دور التقويم، «التصحيح والاعادة الى المسار»، بحيث يتوجب على المسلمين ان يتبنوا تقويما قمريا شمسيا، كما توضح الآية «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (يونس5).
فالأشهر قمرية والسنوات شمسية، مع استخدام الأيام كجزء من عملية الحساب أيضا بدلالة الآية «وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً» (الإسراء 12).
الملاحظة الأساسية هي ان الرسول ما كان له ان يتبع حساب الشهور القمرية وحدها، فإن كان قد فعل فهو سيخالف حتما نص الآية بان الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، لان احتساب الشهور قمريا فقط سيؤدي الى نقص 11 يوما، وتجميعها سيؤدي حتما الى زيادة الشهور الى 13 شهرا او أكثر إذا تركت لسنتين او ثلاث دون إعادة تقويمها، ووقف زحف الشهور خارج الفصول والمواسم الثابتة المتوافقة مع الحركة الطبيعية للحياة الانسانية، وهذا مما لا يتصور ان يقوم به الرسول لأنه سيكون مخالفا للسُّنة الإلهية. يمكن ان يتبع ذلك بسؤال، ما هو التقويم الذي اتبعه الرسول الكريم، ولماذا لم يَقترح أو يطبق تقويما خاصا اثناء حياته او حياة خليفته الأول أبو بكر من بعده، كما حصل مع التقويم الهجري؟ الجواب البسيط، هو ان الرسول اتبع نظام التقويم الذي سار عليه العرب قبل الإسلام، واعتمد العبادات الأساسية كالصيام والحج في أوقات ثابتة. وتقرر المصادر التاريخية ان العرب حجوا الى الكعبة وفقا لأوقات وأشهر ثابتة، وهو ما يؤكده القرآن «الحج أشهر معلومات»، وهذه الآية تقرر أن الحج كان معروفا بأشهر محددة لم يكن هناك حاجة لإعادة تسميتها.
معظم المصادر التاريخية تقرر أيضا ان موسم الحج كان يأتي متوافقا مع فصل الشتاء مبتدئاً بذي القعدة، وهو الشهر الحادي عشر والثاني عشر ذو الحجة، والأول وهو محرم، والثاني وهو صفر، وكلها أشهر حرم متتابعة. طبعا كما هو معلوم فإن الطقس يكون في هذه الاشهر معتدلا في الجزيرة العربية ومناسبا للحجيج القادمين من كل فج عميق، دون الحاجة الى أداء الحج في بعض أشهر الصيف وفي المواسم التي تثقل الحجيج وتسبب لهم الرهق والكثير من المشقة. بالإضافة طبعا الى عدد من الحِكَم الأخرى، التي لا مجال للتطرق اليها في هذا المقال. لكن التأكيد على ان الحج كان يؤدى في أشهر ومواسم ثابتة يقدم دليلا ثابتا على ان بقية الأشهر ثابتة أيضا، ومنها شهر رمضان كما أسلفنا مقدما.
هذا يقود، كما اشرت انفا، الى ان وقوع رمضان في الشهر التاسع، أي في سبتمبر حسب التقويم الشمسي، فانه يعطينا مؤشرا اخر على حكمة أخرى لها علاقة مباشرة بممارسة هذه العبادة المهمة والاساسية، فمعروف ان شهر سبتمبر هو بداية الخريف، حيث الاعتدال الخريفي الذي تأتي فيه الأرض والشمس على خط الاستواء نفسه، ما يؤدي الى تساوي ساعات الليل والنهار مناصفة تقريبا، وهي اثنا عشر ساعة لكل منهما.
هنا يمكن الإشارة الى التحريم القطعي لتغيير الشهور وترتيبها بنص القرآن «إنما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (التوبة/37). وفي العودة الى الجذور التاريخية والفهم العصري لهذه الآية، فان النسيء يعني التأخير، حيث كان بعض العرب يؤخرون احد الأشهر الحرم ليسمح لهم بالقتال، فيغيرون شهر محرم الى صفر ثم يعيدونه الى مكانه عندما يناسبهم ذلك، فجاءت الآية تستنكر هذه الممارسة وتقبحها، مما يعطينا الدليل على ان الله حرم تغيير الشهور وأرادها ثابتة لا تغيير فيها، كما اكدت عليه الآية المذكورة في بدايات المقال «إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ».
وفي النهاية، فإنني لا أدعي بأن ما طرحته في المقال يعتبر علما مُقَرِرا لا نقاش فيه، ولكنه تحليل ناقد للفهم والممارسة التقليدية في التعامل مع التقويم الهجري القمري، وربما بعض الأخطاء التي تراكمت بناء على هذه الممارسة. ولا شك ان المقال يأتي كاجتهاد شخصي للإجابة على أسئلة مشروعة تثار بشكل سنوي كلما جاء رمضان.
ولا شك أن المقارنات التاريخية، والتحليل النقدي الأكاديمي للنص القرآني قد يغير فهمنا لشهر رمضان وتوقيته ولموسم الحج وموسمه، والحكمة التي تقف وراء ذلك. لا ادعي فضلا او سبقا في هذا المقال، وانما يجب الإشارة الى ان مجموعة من الباحثين كتبوا بشكل شبه تفصيلي عن هذا الموضوع وتوسعوا في تفسير وفكفكة الظواهر الفلكية المرتبطة بذلك، ومنهم من قطع شوطا يمكن البناء عليه في إعادة تأسيس فهم متقدم يجمع بين اصالة التطبيق التاريخي وما يدعمه من نصوص قرآنية، والتطبيق العصري الذي ينطبق على الواقع واحتياجاته. ربما يكون هذا المقال محفزا للباحثين المسلمين وغيرهم، لإنتاج بعض الأبحاث الجدية المعمقة التي تجيب عن الأسئلة والقضايا المثارة في هذا النقاش.
أستاذ في القانون مقيم في لندن