ثّم دعا الحسينُ علي السلام براحلته فركبَها، وتقدَّمَ نحوَ القوم ونادى بأعلى صوتٍ يُسمعُ جلَّهم:
“أيُّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجَلُوا حتى أعظَكُمْ بما يحقُّ لكُمْ عليّ، وحتّى أُعْذَرَ إليكُمْ، فإنْ أعطيتُموني النَّصفَ كنتُمْ بذلكَ أسعد، وإنْ لم تُعطوني النَّصفَ من أنفسكُمْ فأجمعوا رأْيَكُمْ ثمّ لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكُمْ غُمّةً. ثُمَّ اقضُوا إليَّ ولا تُنْظرونْ، إنَّ وليّيَ اللهُ الذي نزَّلَ الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين”.
ثم حمدَ اللهَ وأثنى عليه وذكَرَهُ بما هو أهلُهُ وصلَّى على النبيّ وآله وعلى الملائكة والأنبياء.
ثم قال علي السلام:
“أيّها الناس: فانسبوُني فانظُروا مَنْ أنا؟ ثُّمَ ارْجعوا إلى أنفسكُمْ وعاتبوها، فانظُروا هلْ يصلُحُ لكُمْ قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألستُ ابنَ بنت نبيّكُمْ، وابنَ وصيّه وابنَ عمّه وأوَّلَ المؤمنينَ المصدّق لرسول الله بما جاءَ به من عند ربّه؟ أوليسَ حمزةُ سيّدُ الشهداء عمّي؟ أوليسَ جعفرٌ الطيّارُ في الجنَّة بجناحَيْن عمّي؟ أَوَلَمْ يبلُغْكُمْ ما قالَ رسولُ الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنَّة؟
فإن صدَّقتموني بما أقولُ وهوَ الحَقُّ، فوالله ما تعمَّدْتُ كَذباً منذُ علمْتُ أنَّ اللهَ يمقُتُ عليْه أهلَه، وإنْ كذَّبتُمُوني فإنَّ فيكُمْ منْ إنْ سأَلتُموهُ عن ذلكَ أخبرَكُم. سلُوا جابرَ بنَ عبد الله الأنصاري، وأبا سعيدٍ الخدْريّ، وسهلَ بنَ سعدٍ الساعديّ، وزيدَ بنَ أرقَمْ، وأَنَسَ بنَ مالكْ، يُخْبرُوكُمْ أنّهم سمعُوا هذه المقالةَ من رسول الله إليَّ ولأخي، أَمَا في هذا حاجزٌ لكُمْ عن سفك دمي؟!”.
فقال له شمر بن ذي الجوشن: أنا أعبد الله على حرف إن كنت أدري ما تقول!
فقال له حبيب بن مظاهر:
والله, إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا! وأنا أشهد أنك صادق, ما تدري ما تقول, قد طبع الله على قلبك.
ثمّ قال لهم الحسين علي السلام:
“فإن كنتم في شكٍّ من هذا! أفتشُكُّونَ أنّي ابنُ بنت نبيّكم! فوالله ما بينَ المشرق والمغرب ابنُ بنت نبيٍّ غيري فيكُمْ ولا في غيركُمْ. ويحَكُمْ! أتطلبونني بقتيلٍ منكم قتلتُهُ! أو مالٍ لكمُ استهلكتُهُ! أو بقصاص جراحة!؟”.
فأخذوا لا يكلّمونه. فنادى علي السلام:
“يا شَبثَ بن ربعيّ، يا حجّارَ بنَ أبجَر، يا قيسَ بنَ الأشعث، يا يزيدَ بنَ الحارث، ألم تكتُبوا إليَّ أنْ قد أينعَت الثّمارُ واخْضَرَّ الجَناب، وإنّما تُقْدمُ على جندٍ لك مُجنَّدة؟!”.
فقال له قيسُ بنُ الأشعث: ما ندري ما تقول! ولكن انَزلْ على حُكْم بني عمّك، فإنّهم لا يُرونَكَ إلا ما تحبّ!.
فقال له الحسينُ علي السلام:
“أنت أخو أخيك، أتريدُ أن يطلبَكَ بنو هاشمٍ بأكثرَ من دم مسلم بن عقيل، لا والله، لا أُعطيهمْ بيدي إعطاءَ الذليل، ولا أُقرُّ إقرارَ العبيد. عبادَ الله، إنيّ عُذْتُ بربّي وربّكُمْ أنْ ترجُمون، أعوذُ بربّي وربّكُمْ من كلّ متكبّرٍ لا يؤمنُ بيوم الحساب”.
ثُمَّ إنَّهُ أناخَ راحلتَهُ وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمعانَ فعَقلَها، وأقبلوا يزحفونَ نحوَه.
الولاية الاخبارية