كيف نقتحم عقبة الذات؟
لو أن هذا العلم الذي سخّره الله تعالى للإنسان كان قد استغلّ بطريقة معقولة، ومن قبل جميع الشعوب، لما كانت هناك حاجة، ولما ظهرت مأساة، ولما ساد هذا الفقر العام الذي يشمل اليوم أكثر من ثلثي أهل المعمورة، خصوصاً وأنّ التقنية وصلت في هذا العصر الى حدّ بحيث أنّها لو استغلّت استغلالاً صحيحاً لما هدّدت المجاعة والأمراض الخطيرة الشعوب المستضعفة في العالم، ولعاشت هذه الشعوب في أمن وسعادة ورفاه.
ترى لماذا نرى أنّ هذه التقنية مقتصرة على بلدان معيّنة وعلى أناس معيّنين في هذه البلدان، في حين أن أغلب الشعوب محرومة منها؟ ومن المسؤول عن هذه الأوضاع؟
نزعتان في النفس الانسانية
الإجابة ننتزعها ونستوحيها من كتاب الله المجيد، ففيه خبر من سبقنا، وحكم حاضرنا، وعلم المستقبل، وإذا ما دقّقنا في الآيات القرآنية اكتشفنا أنها تقرّر أن في الإنسان نزعتين؛ نزعة تدعوه الى التملّك والخلود، وأخرى تحثّه على العطاء والفداء؛ النـزعة الأولى تغذّيها شهوة البقاء لدى الإنسان، وشحّ النفس، والتمحور حول الذات الأمّارة بالسوء. أمّا النـزعة الثانية فيورثها العقل والوحي، وهي تدعو الإنسان الى الاحسان، والى تجاوز ذاته الى الآخرين، والعطاء والتضحية، وهي تتجلّى في ملاحم البطولة والإيثار.
وهاتان النـزعتان موجودتان لدى كلّ إنسان؛ فلا يوجد أحد تنعدم فيه شهوة الملك والخلود، أو حبّ الإحسان والعطاء والايثار. فكلّ إنسان مركّب من العقل والشهوة؛ من نفحة من روح الرحمان، وقبضة من تراب الأرض ونفثات الشيطان.
وإذا تغلّبت نزعة الشهوة على نزعة العقل، فحينئذ تبدأ المشاكل بالظهور، وتسود الأنانية، وعلى العكس من ذلك فانّ نزعة العقل الداعية الى العطاء والفداء والايثار إذا ما سادت فانّ الحالة المعاكسة هي التي ستتغلّب؛ فإذا ما أنفق الغنيّ على الفقير، وبادر الإنسان الى خدمة الآخرين وإضمار الحبّ لهم، فان الدين سيصبح محور حياة البشريّة، وسيربّى البشر على أساس تغليب العقل على الهوى، وبالتالي تغليب نزعة الخير على نزعة الشر.
سيادة الفلسفة المادّية
وللأسف فإنّ الفلسفة المادّية في الغرب والتي بُنيت على أساس الأنانية عندما ظهرت رأينا أنّها سرعان ما دخلت في أدمغتنا، فاذا بكلّ و احد منّا لا يفكّر إلاّ بنفسه، وإذا بمصلحة الأمّة غير مطروحة، ومستقبلها مهمل، فنحن اليوم نتأثر بالثقافة الغربية شئنا أم أبينا، فالقليل من المسلمين استطاعوا الإبقاء على أصالة حضارهم، وقرآنهم، وسنّة نبيهم صلى الله عليه وآله، وأئمتهم عليهم السلام. فقد انساقت الغالبية العظمى منهم في تيار الحضارة الغربيّة، وإن احتفظت ببعض المظاهر الإسلامية مثل الصلاة والصيام، ولكنّ الأفكار الغربية تموج في أذهانهم في الحقيقة.
العطاء سرّ تقدّم المسلمين الأوائل
وإذا ما درسنا التأريخ رأينا أن المسلمين الأوائل وعلى الرغم من تخلّف الأمم التي كانت تعيش حولهم كانوا يتميّزون بنـزعة العطاء والتضحية، ومثل هذا السلوك هو في الحقيقة تعبير عن دينهم، بل وعـن كلّ ديــن الهيّ خالص، لأنّ الرسالات السماويّة كلها تدعو الإنسان الى الذوبان فـي المجتمع، وأن ينمّي خصلة الإيثار في نفسـه، كما يقـول الله تعالــى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9).
وهذا يعني أن على الإنسان أن يسال الله سبحانه أن يحفظه من شحّ نفسه وبخلها، ومن زنزانة أنانيّته، والقرآن الكريم يربّي الإنسان على هذه الصفة وخصوصاً في سورة البلد التي يبتدؤها بالقسم قائلاً: «لآ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد»، (البلد/1) والبلد هنا يعني الحضارة التي تبلغ مستوى من الأهمية، بحيث تستحقّ أن يقسم بها الخالق تعالى.
مقوّمات الحضارة الإلهية
ثم يقول ربنا عز وجل: «وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» (البلد/2) وفي هذه الآية إشارة الى أنّ أوّل مقوّم تحتاج إليه الحضارة هو القيادة الرسالية الإلهية، والمراد بـ (أنت) شخص النبي صلى الله عليه وآله الذي يجّسد الوحي الإلهي.
ويشير ربنا عز وجل في قوله: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» (البلد/3) إلى ثاني قيمة من قيم الحضارة وهي (الترابط الرحميّ)؛ لأن هذا التنظيم هو أوّل تنظيم طبيعيّ في الأمة، فمن الوالد والولد تتكوّن الأسرة، ثم العشيرة، ثم الشعب، وهكذا تتنامى الروابط والعلاقات الاجتماعية.
وتتوالى الآيات القرآنية لتقرّر حقيقة أنّ الإنسان يجب أن يناضل ويكافح من أجل تسخير الطبيعة والأرض، فيقول الله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ» (البلد/4) وفي هذا المجال يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: “من وجد ماءاً وتراباً ثم افتقر، فأبعده الله”.([28]) وعلى هذا فانّ الحضارة لا تقوم على مجموعة من الكسالى والخاملين، بل على أساس النشاط والحركة والحيويّة.
مسؤوليتنا ازاء النعم
ثم يضيف ربنا سبحانه قائلاً: «أَيَحْسَبُ أَن لَن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» (البلد/5-7) وفـي هذه الآيات يركّز الخالق جلّ شأنه على حقيقة المسؤولية في المجتمع، ثـم يقـول: «أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْـنِ» (البلد/8-10) وهنا يدعو الله تعالى الإنسان الى أن ينظر الــى نفسه وما يمتلكه من أعضاء وحواسّ ليرى هل أنّ ما يتمتّع به من هذه النعم هو من ذاته أم من الخالق تعالى؟ فان كانت من الله وهي كذلك فله تعالى حقّ فيها عليه؛ أي يجب أن يفكّر كيف يدفع ضريبة العين واللسان وسائر النعم التي يتمتّع بها،و مع ذلك فانّ الله عز وجل غنيّ عن هذه الضريبة، لأن مردوداتها تعود إلينا في الأساس.
وعلى سبيل المثال؛ فان الله تعالى منحنا نعمة العين لكي نستغلّها في الأعمال الصالحة، فهو عز وجل لم يعطنا العينين لكي نتتبّع بهما أعراض الناس، والقرآن الكريم يقول في هذا المجال: «يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» (غافر/19) وعلى هذا فان الخالق عزّ شأنه عندما يلفت انتباهنا الى هذه النعم، فانّه يريد أن يبيّن أنّ هذه النعم التي أسبغها علينا يجب أن تؤدي وظيفتها الطبيعية، وتتحمّل مسؤوليتها، وبالتالي فانّها يجب أن تكتسب طابع العطاء.
اقتحام العقبة سبيل الجنة
وفي قوله تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (البلد/10) إشارة الى أن نعمة العقل هي أعظم نعمة، وبها ترتبط النعم الأخرى؛ فاذا أبصرت العين، وسمعت الأذن، ولكن انعدم العقل، فما جدوى النعم الأخرى؟ كما أنّ الله عز وجل يشير الى حقيقة أخرى؛ وهي أن الإنسان بإمكانه أن يسلك طريق الضلال، كما أنّ من الممكن أيضاً أن يسلك طريق الهدى، وإذا به في جنّات عدن، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إن للجنّة طريقاً، وهذا الطريق تعترضه عقبة، والإنسان يجب أن يتجاوز هذه العقبة، وهو في اللّحظة التي يريد أن يتجاوز فيها هذه العقبة يحتاج الى همّة وإرادة وعزم، لأنّ هذه العقبة تمثّل صفة مترسّخة في نفس الإنسان، ألا وهي (الشحّ) و (البخل).
وربما يقول أحدنا عندما يترك مثلاً ركعتين من الصلاة: هل من المعقول أنّ الله سيعذّبني على ركعتين تركتهما؟ في حين إنّ المسألة ليست مسألة ركعتين فقط، بل إنّ هذا الذنب ستجتمع معه ذنوب أخرى فتسبّب لنا مشاكل لا مفكّ منها. فلنحذر من أن يكون لدينا استهزاء بالأحكام الشرعيّة، بل علينا أن نواظب عليها.
مصاديق اقتحام العقبة
ثم يبين الله تعالى لنا هذه العقبة في قوله: «وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ» (البلد/12-14). فالعقبـة -إذن- هي عملية إنقاذ الإنسان، وليس شرطاً أن يكون هذا الإنسان من العبيد أو الأسرى، بل إنّ البلدان المستضعفة كلّها مستعبدة. ففي هذه الايام يتجسّد في الواقع العمليّ مفهوم (فك الرقبة) كأن نسهم في إنقاذ إنسان من أوضاع مأساوية..
ولا بأس أن يفكّر الإنسان المسلم في إعطاء مقدار من طعامه الى الفقير إن كان فائضاً عن حاجته، ولكنّ هذا النوع من الإطعام ليس هو ما يريده الله تعالى فقط، بل إن الذي يريده منا أن نقدّم يد العون الى الآخرين في أيام القحط والجوع، وبذلك سنقتحم العقبة؛ أيّ نتجاوز العقبة النفسية ونصل الى برّ الأمان، وهو قوله تعالى: «أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ».
ثم يبين الله جلّت قدرتـه الأشخاص الذين يجب أن نطعمهم قائــلاً: «يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ». (البلد/15-16) مشيراً في هذه الآية أولاً إلى الأرحام؛ فالأقربون أولى بالمعروف، وأولو الأرحام بعضهم أولى من بعض. فاليتيم القريب الذي يحتاج الى مساعدة ورعاية، عليك أن تقدم له العون أوّلاً ثم تتّجه الى الأضعف فالأضعف.
والمقصود بـ (المسكين ذي المتربة) الشخص الذي أسكنه الفقر في داره، وقد وصل الى درجة من الفقر بحيث أنه لا يجد فراشاً يجلس عليه، بل يضطر الى الجلوس على التراب. ولو ساعدنا هذا الإنسان فانّنا سنكون قد اقتحمنا العقبة، أي تجاوزنا ذواتنا، وتحوّلنا من أناس يعيشون داخل إطار ذواتهم، الى أناس يعيشون البعد الاجتماعيّ في أوسع آفاقه.
تزكية النفس الخطوة الأولى
بعد ذلك يقول ربنا سبحانه: «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» (البلد/17) وبعبارة أخرى؛ إن أوّل عمل يجب أن نقوم به هو أن نزكّي أنفسنا، ونتجاوز شهواتنا الداخلية، لكي نكون بعد ذلك من المؤمنين. فربما يدّعي شخص ما الإيمان، ولكنّه لا يجسّد هذا الإيمان في سلوكه؛ فلا يعطي الزكاة، ولا يصلّي، ولا يقوم بسائر العبادات.. فما فائدة مثل هذا الإيمان وما قيمته؟
وهكذا؛ فان أول خطوة يجب أن يخطوها الإنسـان في هذا المجــال، أن يقتحم عقبات نفسه، وحينئذ سيكون من المؤمنيـن، وينشرح قلبه للإيمان.
ثم يقول ربنا عز وجل: «أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ» (البلد/18) فيوم القيامة ليس كمثل الدنيا؛ ففي هذا اليوم يتميّز الناس بعضهم عن بعض، ثم تقف الملائكة لتدخل فريقاً من الناس الى الجنة، وفريقاً آخر الى النار. فلنحاول أن نكون من أصحاب الميمنة ولنحذر من أن نكون من فريق الداخلين الى النار، والذين يشير إليهم الله تعالى في قوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِاَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ» (البلد/19).
ونحن ما نزال نمتلك الفرصة للعودة والانابة الى الله تعالى، فلنتوكّل عليه منذ هذه اللحظة، ولنفتح صفحة جديدة، ولتكن المبادرة منّا لتكون الخطوات التالية من الخالق عز وجل.
الخروج من شح الذات
فليقرّر كل واحد منّا أن يخرج من شحّه الذاتي، وليبدأ بالتفكير في الآخرين، وليخرج من قاموسه عبارات مثل (ليس من شأني) فمثل هذه التبريرات يجب أن نخرجها من حياتنا. فالمجتمع اللاأبالي لا يمكن أن يكون مجتمعاً ناجحاً؛ بل إنّ المجتمع الناجح هو الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو الى الخير، ويتواصى بالصبر والمرحمة، والذي ينتمي كلّ فرد من أفراده الى مشروع لصالح الآخرين. فمن الخطأ أن ينام الواحد منّا وهو غير عازم على فعل الخير.
فلنبدأ بأنفسنا، ولنتحقّق مفهوم (إقتحام العقبة) فيها، فلا يفكّر كلّ منّا بنفسه، بل عليه أن يصبّ تفكيره على الآخرين، وحينئذ ستسود في المجتمع حالة التفاعل، والتآزر، والانسجام، وبالتالي العطاء والتحرك.
ونحن إذا رأينا أنّ العالم تسوده شريعة الغاب، وظواهر التخلّف، ويعاني من المشاكل، فالسبب في ذلك يعود الى بعده عن وصايا الدين، وعن أحكام القرآن الكريم.
فلنبدأ باصلاح أنفسنا، والله عز وجل سوف يوفّقنا لما فيه الخير والرشاد والصلاح.
https://t.me/wilayahinfo
[email protected]
الولاية الاخبارية