وتارة يقول: «للمتقين».
وتارة يقول: «لكل صبّار شكور».
وهذه اشارة الى ان هذه الفرق ـ هي التي تنتفع بهذه الآيات وتستفيد منها دون سواها، لِما عندهم من ارضيّه خصبة لهذا الامر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن المجيد لا تخلو من الاشراة الى حقيقة ان المعرفة تعتبر ارضية معدة وخصبة لمعارف اكثر، كـما جـاء ذلك في الآيات التالية:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير روح المعاني الجزء 19 الصفحة 194.
2 – ذكر صاحب تفسير روح البيان معنيين لمادة (خوى) احدهما الخلو والثاني السقوط والانهدام، ومن هنا يعبر عرب الجاهلية عن النجم اذا سقط (خوى النجم) الا ان الظاهر ان المعنى الاولي لهذه المادة هو: الاول فقط، ويستعمل تعبير (خوى النجم) اذا ما غرب نجم او افل بلا مطر (حيث كان يعتقد عرب الجاهلية ان طلوع كثير من النجوم متزامن مع المطر واذا لم يكن هناك مطر استعملوا التعبير السابق لذلك النجم).
[426]
( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيـاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ)
(الاعراف / 32)
( يُفَصِّلُ الآيـاتِ لِقَوْك يَعْلَمُونَ)
(يونس / 5)
( كِتـابٌ فُصِّلَتْ آيـاتُهُ قُرآناً عَرَبياً لِقَوْم يَعْلَمُونَ)
(فصلت / 3)
( تِلكَ حُدُودُ الله يُبَيّنُهـا لِقَوْم يَعْلَمُونَ)
(البقرة / 23)
كما اتضح ـ مما مر ـ الجواب على السـؤال عن حاجة العـالمين لشـرح وتبيين الآيات الالهية.
5 ـ علاقة الخوف بالمعرفة
تمهيد:
إنّ الانسان ما لم يشعر بالمسؤولية لا يلتفت الى مصادر المعرفة وسوف لا يبالي بآيات الله ومواعظه.
ومـن هنا ينبغى القـول بان الاحسـاس بالمسؤولية والخـوف من الله هو احدى ارضيات المعرفة التي تُعِدُّ روح الانسان وتهيئها لتقبل علوم ومعارف مختلفة.
وبالالتفات الى هذا التمهيـد نستمع خاشعين الى الآيات التالية:
1 ـ ( وَكَذلِكَ أخْذُ رَبِّكَ اِذا أَخَذَ الْقُرَى وهِيَ ظـالِمَةٌ اِنَّ اَخْذَهُ اَلِيمٌ شَدِيْدٌ ـ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِمَنْ خـافَ عَذابَ الآخِرَةِ)
(هود / 102 ـ 103)
[427]
2 ـ ( اَفَلَمْ يَرَوا اِلى مـا بَيْنِ اَيْدِيهِمْ وَمْا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمـاءِ وَالاَْرْضِ اِنْ نَشَأْ نَخْسُِ بِهِمْ الاَْرْضَ أَوْ تَسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمـاءِ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْد مُنِيب)
(سبأ / 9)
3 ـ ( وَتَرَكْنـا فِيْهـا آيَـةً لِلَّذِينَ يَخـافُوْنَ الْعَـذابِ الأَلِيْمَ)
(الذاريات / 37)
* * *
شرح الآيات وتفسيرها:
المعرفة والشعور بالمسؤولية: ـ
إن الآية الاولـى بعـدما أشارت الى ماضي بعض من الاقـوام السالفة (مثل قوم لوط وشعيب والفراعنة) ونزول أنواع من العذاب عليهـا، قـالت: ( وَكَذلِكَ أخْذُ رَبِّكَ اِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِـيَ ظـالِمَةٌ) ثم قـالت في النهـاية: (اِنَّ اَخْذَهُ اَلِيمٌ شَدِيدٌ)ثـم قـالت: ( اِنَّ فِي ذلِكَ لايَةً لِمَنْ خـافَ عَذابَ الآخِـرَةِ) أي فـي قصص الامم السـالفة وعقابهم ونـزول العذاب عليهم آيـة واضحة لمن خـاف عذاب الآخرة.
لقد جاءت مفردة «آية» نكرة، وذلك للاشارة الى عظمة وأهمية هذه الآية الالهية ودور العبرة فيهـا، والتعبير بـ ( لِمَـنْ خـافَ عَذابَ الاْخِـرَةِ) اشارة الى الارضية المُعدَّة للمعرفة عند اولئك الذين يخافون من عذاب الاخرة.
أما اولئك الذين لا يخافون عذاب الاخرة فلا يدركون علاقة هذه الذنوب بهذه الانواع من العذاب الرباني، إنّهم يعدون العذاب أمراً قهرى وجبرياً، أو يرجعون أسبابه الى حركة الافلاك والنجوم وأوهام وخرافات اخرى، ولا يدركون
[428]
الاسباب الحقيقة له(1).
إضافة الى هذا، فان الانسان لا يقطع بالعذاب الدنيوي ما لم يقطع بالعذاب الاخروي، لان كلاهما وليد شيء واحد وهو معرفة الله ومعرفة عدالته.
إن جملة « وهي ظالمة » تلميـح الى ان الاخذ والدمار كان بسبب ظلم تلك القرى، وبتعبير آخر: فان جميع الانحرافات العقائدية والسلوكيـة داخـلة في مفردة الظلم.
* * *
والآية الثانية بعدما أشارت الى آيات الله في السموات والارض: وبيان قدرته على كلّ شيء أكّدت بأن اللهَ لم يعجز عن عذاب اولئك العصاة الذين سخروا بآيات الله ورموك بالجنون، واعتبروا المعاد محالا، إنْ شئنا خسفنا بهم الارض، أو أسقطنا عيهم من السماء أحجاراً سماوية (اِنْ نَشَأْ نَخْسِفُ بِهِمُ الاَْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).
إن « كِسَـف » جمع كِسْـف ويعنـي القمـاش المقطّـع قطعـاً قطعـاً، وقد استعملت هذه المفردة هنا اشارة الى بعض الكرات السماوية التي تنفجر تحت ظروف خاصة وتتحول الى قطع متعددة تسبح في السماء، واذا ما دخـلت في مدار الارض، تحولت (بايعاز من الله) إلى أمطار من حجر، او سقطت على وجه الارض بصورة قِطّع حجرية كبيرة، كلٌّ منها يمكنها تدمير منطقة واسعة من سطح الارض، كـما ان العلماء اكتشفـوا نماذَج من هذه الكُتَل الحجرية في منطقة «سيبيريا».
ثم قالت الآية في النهـاية: (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْد مُنِيب) أي لـكل عبد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لقد اشير الى هذا الأمر في التفاسير التالية: تفسير روح المعاني الجزء 12 الصفحة 123، وتفسير الفخر الرازي الجزء 18 الصفحة 58، وتفسير روح البيان الجزء 4 الصفحة 185.
[429]
راجع الى الله وخائف من عذابه ومتخذ سبيل التوبة.
المسلم هو ان هذه الآيات عامة لجميع البشر، لكن لا ينتفع بها إلاٍّ من خاف الله وشعر بالمسوؤلية(1).
وبتعبير آخر: فان جملة (لِكُلِّ عَبْد مُنِيب) بمثابة بيان لسبب جملة (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً)، أي ان الالتفات الى حقيقة العبودية والتوبة والإِنابة سبب للانتفاع بهذه الآيات(2).
وفي الحقيقة، إذا ما درسنا حقيقة مفهوم العبودية، رأينا لا يخلو من التوبة والإِنابة عند اقتراف الذنب.
* * *
أما ثالث وآخر آية في البحث، فقد أشارت مرة اخرى الى المصير الرهيب لقوم لوط ذلك المجتمع الذي بلع من العـار أَقصاه، وسخر من جميع قيم الايمان والانسانية وغمر في وحل الفساد والفحشاء…
إن الآية بعدما أشارت الى تدمير مدنهم وتخريبها قالت: (وَتَرَكْنا فِيهـا آيَةً لِلَّذِينَ يَخـافُونَ الْعَذابَ الأَلِيمَ) يعتقد الكثير أن مدن قوم لوط كانت في الشامات قرب «البحر الميت» أو بين الشام والحجاز، وكان يطلق عليها «المدائن المؤتفكة»، ويقال: إنه عندما زلزلت الارضُ من مدنَهم هدمتها، ثم نزلت عليهم أمطار من الاحجار، وانشقت عندها الارض شقاً نفذ فيه ماء «البحر الميت»، وبدل هذه المدن الى مستنقعات نتنة، ولهذا يدعي البعض العثور على آثار من الاعمدة وغيرها من هذه المدن في أطراف البحر الميت.
وعلى أيّ حال، فان هذه الآثار الباقية ـ سواء كانت في اليابسة أو تحت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير القرطبي الجزء 8 الصفحة 5346.
2 – تفسير روح المعاني الجزء 22 الصفحة 104.
[430]
المستنقعات الآسنة ـ درس وعبرة، ولا ينتفع بهذا الذرس إلاّ الذين يخافون عذاب الله، ويشعرون بالمسؤولية (وتواجدت فيهم أرضية المعرفة).
وبتعبير بعض المفسرين:
آية العبرة هذه هي لاولئك الذين من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فانهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية ودليلا(1).
* * *
النتيجة:
إن الخوف سواء كان بمعنى الخوف من الله أو من عـذابه أو من الذنب والمعصية (لأن جميعها ترجع الى معنى واحد)، يُعِدُّ الأرضية لـروح الانسـان لتقبل الحقائق والمعارف، لأن الانسان مالم يشـعر بالمسؤولية لا يتجه نحو مصادر المعرفة ولا يبحث في آيات الآفاق والأنفس والتكوين والتشريع.
وخلاصة الحديث، ان الحركة نحو العلم والمعرفة كأي حركة اخرى تحتاج الى محرك، والمحرك يمكنه أن يكون احد الامور التالية:
1 ـ جاذبية العلم والعشق للمعرفـة التـي أُودعتْ فـي روح الانسان منذ البداية.
2 ـ الاطلاع على النتـائج المثمـرة والآثـار القيمـة للمعـرفة، ووصول الانسان الى المـراحل الرفيعة تحت ظلها.
3 ـ الشعـور بالمسؤولية والخـوف من العواقب المؤلمة لفقدان المعـرفة والجزاء الترتب عليها.
إن كلا من هذه الامور يمكنها أن تهيء الأرضية المناسبة لطيّ هذا الطريق المليء بالتعرجات، واذا ما تعاضدت هذه الامور مع بعضها البعض، فان الحركة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح المعاني الجزء 27 الصفحة 13.
[431]
نحو المعرفة ستكون أسرع وأعمق وأكثر ثماراً.
* * *
وآخر الحديث: إن أكبـر فخر للانسـان هو العلم والمعرفة، والجاهلون هم موتى الأحياء.
إن بلوغ مرحلة المعرفة الكاملة، لا يتم إلاّ مع توفر الأسباب ورفع الموانع والحجب وتهيئة الأرضية المناسبة.
وما أجمل ما قاله الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت وموت لأهله ***** فأجسامهم قبل القبور قبور
وانّ امرءاً لم يحيي بالعلم ميتة ***** فليس له حتى النشور نشورٌ
* * *
ربّنا علّمنا المعارف الحقيقة، والأرفع من ذلك أي
معرفة ذاتك المقدسة الطاهرة وصفاتك الجليلة.
إلهي! نعلم ان أعظم فخرنا هو علمنا ومعرفتنا،
والاطلاع على أسمائك وصفاتك وعالم خلقك أي أفعالك،
إلاّ أنه لا يتيسر طيّ هذا الطريق الصعب إلاّ بتوفيقك، فوفقنا
وثبت أقدامنا.
يا مولانا! إن شياطين الدرب كثيرون، وأوديته
خطرة، وموانعه عديدة، ولا يمكن رفع هذه الموانع إلاّ
بامداداتك، فزودنا بها وبألطافك الخاصة.
آمين يا رب العالمين
نهاية المجلد الاول من نفحات القرآن
[432]
(التفسير الموضوعي)
صباح الجمعة ـ 8 رجب 1408 هـ . ق
الموافق لـ 7 / 12 / 1366 هـ . ش